ملخص
تقدم المخرجة المسرحية والكاتبة اللبنانية لينا خوري عملها الأحدث "أبو الزوس" على خشبة مسرح غلبنكيان (الجامعة اللبنانية الأميركية – بيروت)، وهو عمل مقتبس عن نص "الإله" (1975) للمخرج والكاتب الأميركي وودي ألن الذي سيبلغ بعد أيام قليلة عامه الـ90.
يجمع العرض بين الحضارة الإغريقية واليوميات اللبنانية بحسب الاقتباس، يؤديه 24 ممثلاً من خريجي الجامعة اللبنانية - الأميركية حصراً. فتظهر أسماء لامعة مثل طارق تميم وعلية الخالدي ووفاء حلاوي وطلال الجردي ورياض قبيسي، وكذلك سماء شابة واعدة مثل سني عبدالباقي وكريم مكارم ومريم شومان. أجيال عدة من الأستاذة والمحترفين والخريجين الجدد تلتقي في عرض كوميدي وجودي تستعيد فيه لينا خوري نص وودي ألن "الإله" لتجمع فيه السخرية إلى الفلسفة، والكلاسيكي إلى المعاصر، والهزلي إلى الوجودي.
تقتبس لينا خوري مسرحية وودي ألن المؤلفة من فصل واحد، لكنها تلبننها وتعجنها لتخرج منها نصاً متأرجحاً بين العصر الإغريقي والعصر اللبناني الحالي، بين أجواء التراجيديا الكلاسيكية وعبثية الواقع اللبناني. ومن الجدير ذكره أن الاقتباس يعد في المسرح أحد أهم الأساليب الإبداعية التي يلجأ إليها الكتاب والمخرجون لإثراء العمل الدرامي وربطه بسياقات ثقافية وفكرية متنوعة. ويمكن القول في هذا الإطار إن لينا خوري نجحت في اقتباس النص الأول، وإثرائه وتشبيعه بالنكهة اللبنانية اليومية الطريفة.
وتماماً كما يقتضيه الاقتباس بالاستلهام من نص أول لإعادة صياغته أو توظيفه داخل بنية مسرحية جديدة، قامت خوري بهذه المهمة على أكمل وجه. فهي أبقت على النص الأول بتفاصيله وشخصياته وحبكاته وفضاءاته وأسئلته وتطور أحداثه، لكنها لم تكتف بنسخ النص الأصلي فقط، بل قامت بعملية تحويل له وإعادة إنتاجه وتعزيزه بنكات وكليشيهات وغمزات من الواقع اللبناني. أكسب هذا التطعيم النص المقتبس دلالات ومعاني جديدة تتلاءم مع رؤية الواقع واحتياجات الجمهور اللبناني الحديث ليتحول هذا الأخير إلى حليف يفهم النكات، ولكنه لا يتوقعها أبداً.
مسرحية ملحمية لبنانية
تنتمي هذه المسرحية، إلى فن المسرح الملحمي كما شاءه وودي الن على طريقته الساخرة، الذي يعد أحد عواميد الفنون المسرحية في القرن الـ20، وقد ارتبط اسمه أساساً بالمسرحي الألماني برتولت بريخت (1898- 1956) الذي سعى إلى تجاوز النموذج الكلاسيكي القائم على مخاطبة المشاعر وعلى خلق انفعالات في الجمهور، ليؤسس شكلاً مسرحياً جديداً يدفع المتفرج إلى التفكير بدل الاكتفاء بالمشاهدة العاطفية. يقوم المسرح الملحمي على مبدأ أساس هو دفع الجمهور إلى التفكير في أسئلة مطروحة كما يهدف إلى تذكيره دوماً أنه إنما يشاهد عرضاً مسرحياً. لا تحاول الملحمة المسرحية بأصولها وفية أي لحظة من لحظات العرض أن تتماهى مع الواقع أو أن تخلق وهم الحقيقة، على العكس، يبقي المخرج والكاتب جمهورهما في حالة وعي نقدي ويذكرانه في كل لحظة أن ما يراه هو مسرحية يؤديها ممثلون وكتبها كاتب مسرحي.
تتحقق هذه العناصر والنظريات في عمل "أبو الزوس" ومن قبله "الإله" لوودي ألن، فيكسر الممثلون الجدار الرابع في كل لحظة عبر حديثهم المباشر والمتكرر إلى الجمهور، ومع خروج ممثلين من مقاعد قرب المتفرجين العاديين ليؤدوا أدوارهم على الخشبة. يذكر وودي ألن ولينا خوري الجمهور أنه موجود في مسرحية وأن الأحداث التي تدور إنما هي مكتوبة ومقررة مسبقاً، ليطرح السؤال الأكبر: هل الجمهور هو أيضاً ممثل في مسرحية كبرى هي الحياة؟ ومتى تنتهي خشبة المسرح؟ هل الجمهور حر وصاحب قراراته أم أنه هو الآخر ممثل في مسرحية كتبها كاتب ما؟
ويلاحظ الجمهور في هذه المسرحية وجود طبقات عدة درامية ومسرحيات عدة متداخلة، فهناك أولاً المسرحية التي أتى الجمهور ليشاهدها، وهناك المسرحية التي يحاول الكاتب والممثل كتابتها والفوز من خلالها بجائزة العام، والمسرحية التي يكتبانها التي تدور أحداثها على الخشبة أيضاً. ثلاث مسرحيات متداخلة مترابطة متراكمة تترك الجمهور منقطع الأنفاس، عاجزاً عن تصور إلام ستؤول الحبكة الدرامية.
أسئلة فلسفية
تقوم هذه المسرحية على بنية دائرية لا بداية لها ولا منتصف ولا نهاية، كالدائرة تماماً، فهي تبدأ حيث تنتهي وتتكرر إلى ما لا نهاية. وبينما يركز المسرح الملحمي على القضايا الاجتماعية والسياسية، ويظهر الشخصيات بوصفها نتاجاً لظروفها الاقتصادية والتاريخية، يأتي عمل "أبو الزوس" ليضيف بعداً وجودياً فلسفياً عميقاً من خلال طرحه سؤال: هل الإله زوس موجود؟ وإن كان موجوداً فعلاً، فهل سيعاقب المرء على أعماله؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتحول الخشبة إلى منبر للتفكير، ويصبح الجمهور شريكاً في صنع المعنى والنظريات الوجودية، بحيث تطرح الأسئلة عليه مباشرة، مما يجعله يضحك ويفكر في الوقت نفسه.
ويتميز عمل لينا خوري بالوضوح والتماسك والتصاعد في البنية الدرامية مع وجود عنصر الغرائبية واللامتوقع بصورة واضحة، لا بطء و لا تصنع ولا إسراف في التفلسف، وكأن عمق الشخصيات نابع من عبثيتها وبساطتها وسذاجتها، ليبقى عنصر المفاجأة واللامتوقع هو أقوى عامل درامي في النص. فضمن إطار النكات المأخوذة من عمق الواقع اللبناني وبساطة الشخصيات بزلاتها وهفواتها، يتم طرح أسئلة وجودية كبرى تعززها الأحداث وتطورها.
أما الأداء فهو مدروس ومتماسك ومتقن، يجيد كل ممثل أداء دوره بإحكام وصرامة وعفوية مدروسة خلفها ساعات طويلة من التدريب والتمرين والتحضير، سواء أكان الممثل خريجاً حديثاً من الجامعة أم ممثلاً متمرساً في جعبته عشرات الأعمال السابقة. يبدو واضحاً أن الممثلين يمسكون بأدوارهم تماماً على رغم كثرتهم، ومن تشابك الأحداث وتداخلها وتراكمها.
"أبو الزوس" مسرحية تترك المتفرج مذهولاً، مسرحية تجمع أجيالاً متعددة، وتجمع عصوراً وجنسيات تجتمع حول أسئلة وجودية ما انفك الإنسان يطرحها منذ الميثولوجية الإغريقية إلى يومنا هذا. اقتباس مشغول بذكاء، يطور النص الأول ويمنحه وهجاً لبنانياً وسخرية محلية يتفاعل معها الجمهور ويفهمها وتخلق معه رابطاً وثيقاً.