Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحولات التيار الصدري بين السياسة والسلاح

في بدايته كان يعتمد على هيئات ثقافية وإعلامية تم تشكيلها بعد معارك عام 2005 مع القوات الأميركية وسرعان ما أصبح "قطب الرحى" في النظام السياسي العراقي

لم يكن التيار الصدري جماعة منظمة سياسياً ولا يمتلك قاعدة بيانات لمؤيديه تحديداً في فترة الاشتباك مع القوات الأميركية (أ.ف.ب)

يستمر التيار الصدري في العراق بكونه أحد أبرز عناوين الحقبة السياسية خلال العقدين الأخيرين، خصوصاً بعد سقوط نظام صدام حسين وبداية حقبة ما بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، ولعل ما يثير الانتباه بخصوصه التحولات العديدة سواء على مستوى كوادره وقياداته أو على مستوى حراكه السياسي، فهذا التيار الذي بدأ من خلال الاعتماد على تركة المرجع الديني الراحل محمد صادق الصدر، أسس لنفسه جمهوراً عقائدياً مكنه في النهاية من الفوز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، على الرغم من اصطفاف غالبية القوى الشيعية الأخرى ضده.

صراع "الحوزات" وبداية النشوء

على الرغم من تشكل التيار الصدري بعد عام 2003 فإنه لم يكن بمعزل عن الموروث التاريخي للصراعات داخل الحوزة العلمية في النجف، وتمثل الحوزة العلمية المدرسة الدينية الأبرز لرجال الدين الشيعة، ولم تبدأ الخلافات الشيعية الداخلية بين أقطاب الحوزة العلمية بعد عام 2003، إذ مثل صعود محمد الصدر في أوساطها خلال تسعينيات القرن الماضي بداية الاشتباك مع أركان الحوزة التقليدية، وأطلق على نفسه اسم "الحوزة الناطقة" مقابل الحوزات الأخرى غير المتصدية للشأن العام التي سماها "الحوزة الصامتة"، ويؤمن محمد صادق الصدر بالعمل الديني السياسي على الرغم من حظر نظام صدام حسين أي شكل من أشكال العمل السياسي في العراق، في المقابل، كانت توجهات زعامات حوزة النجف تنأى بنفسها عن أي مشكلات وأزمات سياسية في البلاد.

ومثل حراك محمد الصدر واستقطابه طبقات شيعية واسعة تحديداً داخل المجتمعات الفقيرة بداية بناء قاعدة التيار الصدري الجماهيرية التي ورثها عنه الابن الرابع له مقتدى الصدر بعد اغتيال أشقائه الثلاثة الآخرين مع والدهم.

الأسس العقائدية

ويعتمد التيار الصدري كأي جماعة سياسية شيعية على مرجعية دينية، وكان المرجع كاظم الحائري يمثل مسار التيار الصدري عقائدياً بعد وصية مرجعهم الديني محمد الصدر عام 1999، إلا أن خلافات عدة وقعت بينهما، وسحب الحائري توكيله للصدر عام 2005 مما دفع الأخير إلى تشكيل ما يطلق عليه بـ"اللجنة العشارية" التي تتكون من مجلس شورى يضم ما يطلق عليه الصدريون بـ"فضلاء الحوزة" من مقلدي المرجع محمد الصدر والد زعيم التيار، وتمثل الآلية العقائدية التي يحرك بها الصدر جمهوره، لكنهم أيضاً يعودون في المسائل الشرعية المستحدثة إلى الحائري بحسب وصية الصدر.

وعلى الرغم من وجود اللجنة استمر تقليد الصدر للحائري سنوات عدة، خصوصاً مع وجود وصية من والده بتقليد الحائري في المسائل الشرعية في حال وفاته، إلا أن الأحداث الأخيرة واعتزال الحائري ودعوته مقلديه إلى تقليد المرشد الإيراني علي خامنئي، وفرت للصدر مساحة للخلاص نوعاً ما من تأثير طهران في تياره باستخدام الحائري.

وكان محمد الصدر قال في لقاء مسجل، "أنا أعتقد أن الأعلم على الإطلاق بعد زوالي من الساحة جناب آية الله العظمى السيد كاظم الحائري"، ولفت الصدر في بيانه الأخير إلى أن "وصية الوالد انتهت"، بمعنى أن تقليد الحائري لم يعد ملزماً بعد أن قرر الاعتزال، لكن هذا الأمر بحسب متابعين يتطلب من الصدر إيجاد مرجعية دينية يستند إليها وفق المذهب الشيعي، خصوصاً أنه لم يصل إلى مرحلة الاجتهاد في الدراسات الدينية.

الاتهامات بمقتل الخوئي

ويصنف أبو القاسم الخوئي كأحد أبرز مرجعيات "الحوزة التقليدية" في النجف التي لا تتدخل في الشؤون السياسية إلا بحدود قليلة، ويعد المرجع الشيعي علي السيستاني امتداداً لمدرسة الخوئي، في حين كان محمد الصدر قد وجه انتقادات لهذا السياق التقليدي في الحوزة النجفية، وأطلق على نفسه اسم "الحوزة الناطقة"، ومثل مقتل عبد المجيد الخوئي، ابن المرجع، بعد ساعات من وصوله إلى النجف واحدة من الأحداث التاريخية في سياق التيار الصدري، إذ تتهم أوساط سياسية مقتدى الصدر بدفع أنصاره إلى اغتيال الخوئي وهو ما نفاه الصدر، وعلى الرغم من نفي الصدر فإن مذكرة قبض قد صدرت بحقه عام 2003، لكنه اعتبرها لعبة سياسية، مؤكداً "عدم وجود أدلة تدينه"، إلا أن التهمة استمرت بملاحقته سنوات طويلة، واستخدمت من قبل عديد من خصومه السياسيين كورقة ضغط على التيار الصدري.

"جيش المهدي" عماد قاعدة التيار الصدري

وعند الحديث عن التيار الصدري لا يمكن أبداً تجاوز حقبة "جيش المهدي"، الذي مثل أول حراك مسلح شيعي ضد الغزو الأميركي، إضافة إلى كونه الجناح الشيعي الأبرز في الحرب الطائفية 2006-2008، وعلى الرغم من ارتباط "جيش المهدي" بذاكرة عراقية مختلطة بين شعار "مقاومة الاحتلال" من جهة و"الحرب الطائفية" من جهة أخرى، فإنه مثل عماد تشكيل تيار الصدر العقائدي، بالاعتماد على فكرة "المقاومة" وشعار "كلا كلا أميركا... كلا كلا إسرائيل" الذي أطلقه المرجع محمد صادق الصدر، مما مكن زعيم التيار من توجيه أتباعه من دون الحاجة إلى الوصول لدرجة الاجتهاد في "الحوزات العلمية" في النجف.

ولم تدم طويلاً حقبة "التيار المقاوم" حتى دفعته حادثة تفجير الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006 إلى الانعطاف نحو أقصى اليمين، ليتهم بعدها بأنه الطرف الشيعي الأبرز في الحرب الطائفية وعمليات القتل الجماعي والاختطاف والتهجير ضد أفراد من الطائفة السنية، على الرغم من تبرؤ مقتدى الصدر من العناصر المتورطة بتلك العمليات وتجميده "جيش المهدي" مرتين كان آخرهما عام 2009 ليبدأ التيار بعدها حراكه السياسي، وبعد سنوات قليلة من إعلانه تجميد "جيش المهدي" بدأت التصدعات بالتزايد داخل التيار، وتمثلت بانشقاق عديد من قادة ما كان يعرف بـ"المجاميع الخاصة"، وعلى رأسها ميليشيات "عصائب أهل الحق" التي يتزعمها قيس الخزعلي عام 2011، إضافة إلى عديد من قادة الميليشيات الموالية لإيران حالياً، ويتهم التيار الصدري رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وطهران بتحفيز تلك الانشقاقات الواسعة داخله، خصوصاً أن كل الشخصيات التي انشقت انضمت في ما بعد إلى معسكر الموالين لإيران.

الهيئات وتنظيمات التيار الصدري

ولم يكن التيار الصدري جماعة منظمة سياسياً، ولا يمتلك قاعدة بيانات لمؤيديه تحديداً في فترة الاشتباك مع القوات الأميركية والحرب الطائفية، إذ بدأت أولى بوادر التنظيم مع إطلاق "الهيئة السياسية" له مع دخوله العمل السياسي عام 2006، وفي البدء كان التيار يعتمد على المكاتب العقائدية التي تعود إلى حوزة محمد الصدر، إضافة إلى هيئات ثقافية وإعلامية تم تشكيلها بعد معارك عام 2005 مع القوات الأميركية، وفي عام 2008 بدأ التيار الصدري بحراك تنظيمي أوسع والقيام ببناء قاعدة بيانات وأرشيف لأتباعه من خلال تنظيم أطلق عليه اسم "الممهدون" الذي يضم عناصر "جيش المهدي" للقيام بمهام اجتماعية وثقافية، وإضافة إلى تلك الهيئات، كان التيار الصدري قد شكل "الهيئة الاقتصادية" التي كانت تعنى بالملف الاقتصادي والتبرعات واستثمارها، إلا أنها اتهمت بالفساد طوال سنوات، مما دفع الصدر عام 2017 إلى حلها والقول إنه "استكمالاً لمشروع الإصلاح العام والخاص لزاماً علينا إصدار قرار يحرم ويمنع أي عمل مالي أو تجاري حكومي"، مضيفاً، "لذا اقتضى غلق الهيئة الاقتصادية التابعة للتيار الصدري فوراً من دون تأخير".

ويرى مراقبون أن تجميد "جيش المهدي" مثل بداية الحراك السياسي المنظم للتيار الصدري وحقبة جديدة غير مسلحة للتيار، الأمر الذي أسهم بشكل واضح في ترميم علاقته مع قواعده الشعبية والتركيز على تشكيلات تسهم في تنظيم قواعده انتخابياً كـ"الماكينة الانتخابية" التي تمثل جزءاً من "الهيئة السياسية"، وأسهمت في أن يحصل التيار الصدري على 40 مقعداً من أصل 70 داخل "التحالف الوطني" الذي كان ائتلافاً مشتركاً بين القوى الشيعية التي تحاول استبعاد المالكي من رئاسة الوزراء في انتخابات عام 2014.

سرايا السلام

مثلت حقبة الانشقاقات بداية مرحلة سياسية جديدة بالنسبة إلى التيار الصدري، بدأت تدريجاً باتخاذ مواقف سياسية تبتعد عن الإرادة الإيرانية، كان أبرزها دعم الصدر موقف القوى التي حاولت سحب الثقة عن المالكي في يونيو (حزيران) 2012، أما في عام 2014، وتشكيل "الحشد الشعبي" الذي مثل ربيع توسيع نفوذ طهران وحلفائها في الداخل العراقي، فقد ذهب الصدر لاتخاذ خطوات تبدو أكثر تصعيداً، إذ استخدم مصطلح "الميليشيات الوقحة" لتوصيف تلك الفصائل داعياً الحكومات المتعاقبة إلى حصر السلاح بيدها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وشكل الصدر في فترة الحرب على تنظيم "داعش" عام 2014 مجاميع مسلحة تحت اسم "سرايا السلام". ويرى مراقبون أنه كان يحاول تغيير الصورة التي تركها "جيش المهدي" في الذاكرة العراقية، خصوصاً أنه عمد عند تشكيله "سرايا السلام" إلى إسنادها مهام حماية الأضرحة الدينية، والابتعاد عن بقية الفصائل المسلحة الولائية، وعلى الرغم من غياب اسم "جيش المهدي" عن واجهة الأحداث السياسية فإن هذا العنوان عاد مرة أخرى بعد توجيه الصدر في يناير (كانون الثاني) 2019 أمراً له بـ"الاستعداد والجاهزية لحماية العراق" كرد فعل على القصف الأميركي الذي أدى إلى مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني ونائب رئيس "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس.

الاحتجاج و"الكتلة التاريخية"

بعد عام 2014 ونجاح التيار الصدري وحلفائه في استبعاد المالكي من الوصول إلى ولاية ثالثة وانتخاب رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، بدأت سلسلة جديدة من الإشكالات بين الصدر والفصائل المسلحة الموالية لإيران داخل "الحشد الشعبي"، مما دفعه إلى مهاجمتها في أكثر من مناسبة وأطلق عليها حينها اسم "الميليشيات الوقحة"، ومثلت السنوات التي شهدت تصاعد نفوذ التيارات الموالية لإيران بإشراف مباشر من قائد "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني، والذي قتل بغارة أميركية عام 2020، بداية حراك التيار الصدري الاحتجاجي، ومثلت أعوام 2015 و2016 و2017 الحراك الاحتجاجي الأوسع للتيار الصدري إذ قام باقتحام المنطقة الخضراء مرات عدة، فضلاً عن رفعه شعار "إصلاح العملية السياسية" وإنهاء الوجود المسلح لحلفاء طهران.

وفي عام 2017 قرر التيار الصدري الانفتاح على القوى المدنية، الأمر الذي تمخض عنه نشوء كتلة "سائرون" البرلمانية التي تشكلت من تحالف التيار مع الحزب الشيوعي العراقي، في سابقة هي الأولى، إذ ضم التحالف تياراً دينياً يوصف بالتشدد مع تيار علماني، ولم يدم هذا التحالف طويلاً، إذ بانت دلالات ضعف الحزب الشيوعي في التأثير في قرارات التيار الصدري، فضلاً عن اندلاع احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وانقلاب التيار الصدري عليها بداية عام 2020، الأمر الذي أدى إلى فقدان ثقة التيارات المدنية بالتيار الصدري.

الكتلة الصدرية ونهاية المطاف

وبعد الخلافات الشديدة والاتهامات له بالضلوع بعمليات قمع وقتل لمحتجي "تشرين"، وهو ما ينفيه قادة التيار، دخل الصدريون الانتخابات الأخيرة بعنوان صريح تحت اسم "الكتلة الصدرية" التي فازت بحصولها على 73 نائباً مقابل خسارة هي الأكبر للتيارات الموالية لإيران، الأمر الذي زاد منسوب التفاؤل في أوساط التيار بإمكان تحقيق حكومة أغلبية تستبعد حلفاء طهران، وعلى الرغم من تشكيله التحالف الثلاثي مع قوى كردية وسنية، وحصولهم على أكثر من نصف مقاعد البرلمان، أدى قرار المحكمة الاتحادية بضرورة الحصول على أغلبية الثلثين لتحقيق نصاب جلسة انتخاب الرئيس إلى عرقلة مشروع التيار الصدري وصولاً إلى اختياره الاستقالة من البرلمان.

وأدت المخاضات الأخيرة التي عصفت بالنظام السياسي العراقي والصراع المشتعل بين التيار الصدري والميليشيات الموالية لإيران والتي وصلت إلى حدود النزاع المسلح، إلى جملة تحولات داخل التيار الصدري، والتي ربما ستكون منطلقاً لحقبة جديدة داخل هذا التيار خصوصاً مع اعتزال الحائري وإمكان أن يستغلها التيار الصدري للانفكاك من أي تأثير إيراني داخل أوساطه، إلا أن خطوات التيار المقبلة لا تزال مبهمة مع قرار زعيمه اعتزال العمل السياسي.

المزيد من تقارير