ملخص
لا نعدو الحقيقة إن نحن قلنا إن أحد ؤسسي التيار الانطباعي، وهو بالطبع إدوار مانيه، قد حدد قوانين علاقة رائعة بين الفن الانطباعي الفرنسي وفنان إسبانيا الكبير دييغو بيلاسكويث، وتلك القوانين ستظل حاضرة لتتجاوز الحقبة الانطباعية نفسها، وتتجدد في القرن الـ20
لم يكن الرسام الإسباني دييغو بيلاسكويث (1599 - 1660) انطباعياً، فالمسافة الزمنية الفاصلة بين الحقبة التي عاشها هذا الرسام الإسباني الكبير، ورسم فيها، والعام الذي ظهرت فيه الانطباعية في فرنسا (1875)، لا تقل عن قرنين. ومع ذلك أغرم به معظم الرسامين الانطباعيين الفرنسيون خصوصاً، وضموه إلى تيارهم، بل اعتبروه واحداً من مؤسسيه حتى من دون أن يكون ثمة ما يبرر ذلك حقاً، وبالطبع من دون أن يكون هو نفسه على علم بذلك. أو بالأحرى، من دون أن يكون من المبررات سوى دهشة واحد من مؤسسي التيار الانطباعي، وهو بالطبع إدوار مانيه، أمام لوحات الرسام الإسباني الكبير التي "اكتشفها"، خلال زيارته الأولى المبكرة إلى اسبانيا وإقامته فيها ليعود مبهوراً لفرنسا، قائلاً لكل من يحب أن يصغي إليه، إن المرء لن يمكنه أن يكون فناناً حقيقياً إن لم يتعرف قبل ذلك على فن بيلاسكويز، ويكتشف أسرار تلوينيته، وعلاقته مع الطبيعة والمواضيع التي يرسمها.
ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن نحن قلنا إن مانيه قد حدد بذلك قوانين علاقة رائعة بين الفن الانطباعي الفرنسي وفنان إسبانيا الكبير، ستظل حاضرة لتتجاوز الحقبة الانطباعية نفسها، وتتجدد في القرن الـ20، سواء كان ذلك في أعمال لبيكاسو ومن يحومون من حوله، أو في كتابات لميشال فوكو الذي نعرف، أنه قد جعل من حديثه التحليلي عن لوحة "لاس مينيناس" لفيلاسكويث نفسه جزءاً من تقديمه العلمي الفلسفي لواحد من أهم كتبه الأولى، "الكلمات والأشياء" (1660).
والحقيقة أن ما يجدر بنا أن نتوقف عنده هنا، هو نظرة مثلثة ألقاها ثلاثة من أقطاب الفن الانطباعي الفرنسي، على سلفهم الإسباني الكبير في أزمنة متنوعة خلال الربع الثالث من القرن الـ19، تتحدث عن فنه وبانبهار ندر أن حظي بمثله أي فنان آخر من فناني الماضي، باستثناء النهضويين الكبار، وربما أيضاً باستثناء الهولندي فيرميير الذي كان له بدوره مكانة كبيرة لدى الفرنسيين ومن بينهم الانطباعيون، وتحدث مارسيل بروست عنه في بعض صفحات روايته الكبرى "البحث عن الزمن الضائع"، بيد أن هذا موضوع آخر بالطبع.
البداية لوحات منحولة
الثلاثة الذين نتحدث عنهما هنا ليسوا على أية حال سوى إدوار مانيه نفسه وبيار أوغست رينوار وإدغار ديغا، لكن الطريف في الأمر هو أن انبهار الثلاثة معا ببيلاسكويز، إنما كان بصدد لوحتين له شاهدهما الفنانون الثلاثة معاً في معرض أقيم لأعماله، في متحف اللوفر جعلهم يصرخون من الدهشة قائلين بصوت واحد: "هذا هو الفن الحقيقي!" ليعلموا بعد ذلك أن اللوحتين المثيرتين لإعجابهم كانتا منحولتين أي أن أياً منهما لم تكن من رسم بيلاسكويث نفسه! ولكن ذلك لم يكن مهماً ولا مخيباً بالنسبة إلى الثلاثة معاً، خصوصاً أنهم سرعان ما توجهوا معاً إلى مدريد في رحلة مشتركة هدفها أن يدرسوا تكوينات ذاك الذي بات رسامهم المفضل، ميدانياً، ويتلمسوا جرأة خطوطه، ويتملوا من إحساسه بالجو العام للوحاته. إلى جانب التعلم من تلوينيته الباهرة، كما فعل خصوصاً مانيه الذي سيصبح فنه بعد تلك الزيارة مختلفاً إلى حد كبير عما كانه قبلها.
وهو عبر عن ذلك بالتحديد في رسالة بعث بها ذات صباح من مدريد إلى صديقه وزميله فانتان - لاتور يقول فيها: "كم أشتاق إليك هنا يا صديقي العزيز، لتشاركني مسرتي بمشاهدة أعمال بيلاسكويث التي تستحق وحدها هذه الزيارة. إن كل رسامي المدارس والتيارات الذين تحيط أعمالهم بأعماله هنا في متحف مدريد، يبدون لا شيء بالمقارنة معه. فهو رسام الرسامين من دون لف أو دوران: إنه الرسام الذي لم يدهشني بل سحرني، لكني أنبهك أن ’لوحته‘ التي شاهدناها معاً في اللوفر، ليست من رسمه، فقط لوحة ’الأميرة الصغيرة‘ من رسمه من دون ريب على الإطلاق، أما لوحة ’لاس مينيناس‘ فعمل رائع لا مثيل له".
وفي السياق نفسه يكتب مانيه رسالة أخرى موجهة هذه المرة إلى بودلير قائلاً: "... أخيراً يا عزيزي تعرفت على فن بيلاسكويث حقاً، وأعلن أمامك أنه أعظم رسام أنجبته البشرية، لقد شاهدت في مدريد بين 30 و40 عملاً من رسمه، بين لوحات وبورتريهات، وكلها تحف فنية كبيرة. إن هذا الفنان يساوي أكثر كثيراً مما توحي به سمعته، هو وحده يساوي كل التعب والمشقات الهائلة التي نتكبدها في السفر للوصول إليه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين ديغا ورينوار
ولئن كان ديغا الذي لم يعرف بفصاحة لغته، قد عجز في ما كتبه تعبيراً عن دهشته التي لا تقل عن دهشة مانيه، عن التعبير عن إعجاب يفوق إعجاب هذا الأخير بالمعلم الإسباني، فإنه وعد من كاتبهم من مدريد، بأن فنه "من الآن فصاعداً لن ينجو أبداً من التأثر بفن هذا المعلم الإسباني الكبير الذي ربما جعل من ملونته الزاهية والعميقة أعظم مدرسة لتعليم فن الرسم في التاريخ"، فإن رينوار لم يكن على الإطلاق أقل حماسة من صديقه هو الذي لم يكتب انطباعاته حبراً على ورق، بل تعبيراً شفهياً سينقله عنه وإن لاحقاً صديقه الفنان امبرواز فولار، في كتاب له سيصدر في عام 1938 بعنوان "في الإصغاء إلى رينوار، سيزان وديغا" يقول فيه نقلاً عن رينوار إن "ما يعجبني لدى هذا الفنان [ويقصد بيلاسكويث بالطبع] ذلك البعد الأرستقراطي الذي نعثر عليه في كل التفاصيل، بل حتى في ذلك الشريط البسيط الزهري الذي يطالعنا في لوحة الأميرة مرغريت، إذ يمثل فن الرسم كله في ذلك التفصيل. والعينان! البشرة المحيطة بالعينين! يا لها من روعة تبدو من دون أن يكون الفنان في حاجة إلى أن يضع فيها أي ظل لعاطفة محددة. أنا لا أجهل كم أن نقاد الفن يأخذون على بيلاسكويز كونه يرسم بسهولة ويسر شديدين، ولكن أثمة دليل أقوى من هذا على أن بيلاسكويث رسام يعرف كل أسرار مهنته؟ وحدهم الذين يعرفون تلك الأسرار ويتقنون استخدامها يمكنهم أن يعطوا الانطباع بأن ضربة فرشاة واحدة يمكنها أن تحقق تلك المعجزة الفنية، ومع ذلك لكي نتحدث حديث العقل، نتساءل عن عظمة البحث العميق الكامن في خلفية هذا الفن الذي يبدو سهلاً في مظهره! ثم يا إلهي كم أن هذا الرجل يعرف استخدام اللون الأسود في رسومه! حقيقة أن تنفيذ هذا الرسم مسألة ألوهية، وإلا فكيف تمكن بيلاسكويث من أن يجاور بين الأسود والأبيض بصورة تجعل حوافي المسطحات قوية وكثيفة، وماذا عن "الحائكات"؟ أنا لم أعرف في حياتي ما هو أجمل من هذه اللوحة. إن هناك في هذه اللوحة عمقاً لا يكاد يقل روعة في تكوينه عن الجواهر والذهب، ترى أفلم يقل شارل بلان إن بيلاسكويث ميداني حقيقي في فنه، أي أن ثمة لديه حاجة إلى البحث الدائم عن الفكرة في الفن؟ أنا على أية حال أمام هذه التحفة الفنية أفضل أن أكتفي بالمتعة، ففي نهاية الأمر ثمة ما يسحرني لدى بيلاسكويث وهو تلك المتعة التي لا بد أنه كان يستشعرها وهو يرسم".