Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الصبّابات"... بطلات مجهولات في حكايات الآخرين

عملت الفنانة إلهام الدوسري على بحث اجتماعي مصور يعتبر الأول من نوعه عن مهنة شعبية بعيدة من الأضواء

صورة تظهر الزي الموحد والمظاهر التي تعتمدها الصبّابات أثناء الخدمة (تصوير: إلهام الدوسري)

عند الحديث عن التاريخ في السعودية، يشار دائماً إلى فجوات التوثيق فيه بأن تاريخ هذه المنطقة كان على مر القرون السابقة تاريخاً شفوياً لا كتابياً، مما تسبب في هذا النقص التوثيقي، لكن في الحقيقة أن المشكلة لا تزال قائمة حتى اليوم، فكثير من التحولات التي تطاول المجتمع ومكوناته في السعودية لا تزال خارج دائرة الاهتمام والرصد.

أحد المكونات التي يعدها كثير من المنشغلين بمتابعة القطاعات الاقتصادية أقل أهمية هي "الصبّابات" اللواتي اشتقت تسميتهن من نشاطهن في صب المشروبات خلال المناسبات العامة والزواجات، بخاصة في دول الخليج.

ظلت الصبابات على هامش المناسبات والأفراح طوال السنوات الماضية، يعملن على إنجاح قطاع الضيافة في أكثر الليالي أهمية بالنسبة إلى عائلتين التقيتا في هذا المكان لإشهار زواج العروسين، إذ تشكل الجولات بصوان تحمل كاسات الشاي وفناجين القهوة كامل المشهد الذي يلعبن بطولته في هذه المناسبة المهمة، ثم يختفين بعدها ولا يأتي ذكرهن أبداً في أحاديث الزوجين في اليوم التالي، أو ألبوم الصور الذي تتصفحه العائلات بعد سنوات، بل ويغبن عن نميمة المدعوين الذين يتسلون بالحديث عن زلات الليلة الطويلة.

الفريق الأهم على هامش قصة أحدهم كان بطلاً في ورقة إلهام الدوسري البحثية الأولى من نوعها عن هذا القطاع الاقتصادي، عبر دراسة اجتماعية حملت عنوان "الصبابات... كرم الضيافة وتعاضد النساء".

لماذا الصبابات؟

تحكي الدوسري قصة البحث الذي بذر قبل 20 سنة حين حضرت أول مناسبة لها في السعودية، فقد كان كل شيء مألوفاً من الحضور وزينتهم إلى ترتيب المكان ونوع الموسيقى الرديئة والتقاليد أيضاً، حتى دخلت الصبابات. "عشت السنوات الـ 10 الأولى من عمري في أميركا قبل أن تعود عائلتي إلى السعودية، كانت أول مناسبة أحضرها في حياتي وأنا بعمر الـ 12، كانت عرساً لأحد الأقارب، وكان كل شيء تقليدياً حتى دخل فريق الصبابات يرتدين البخنق (الشيلة) بتسريحة شعر واحدة، ويقمن بصب القهوة بطريقة منتظمة ومنضبطة وكأنهم جيش، وكن يمارسن عملهن بسعادة وحضور مبهج".

وأضافت، "بعد مرور 20 عاماً على تلك الصورة تواصلت معي تارا الدغيثر التي تنشط في أرشفة القصص النسائية، وعرضت علي إقامة فنية لمشروع يتناول قصة نسائية سعودية، فخطرت تلك الصورة في بالي مباشرة. أعتقد أن سبب بقائها في ذهني طوال تلك الفترة هي الغموض الذي يحيط بهن بسبب افتقادهن عنصر التواصل الإنساني، فقررت نقل فلسفتهن المهنية".

أعدت الدوسري بحثها مصوراً ونجحت في عرض الجانب المصور في معرض (أثر) الأشهر في السعودية، والذي يقام في جدة مطلع كل عام ميلادي.

البداية من القصور

بحسب التعريف السعودي للمهن في موقع الهيئة العامة للإحصاء، تندرج مهنة "الصبابة" تحت مسمى "قهوجي أو قهوجية"، والمعرف بأنه "القيام بإعداد المشروبات مثل القهوة والشاي والكاكاو والقهوة العربية وغيرها، مما يطلبه الزبائن"، إلا أن الباحثة اختارت أن تضع تعريفاً أكثر شمولاً بعد أن أدركت من خلال بحثها الميداني وجود فروقات بين القهوجية والصبابة، لتعرفها بـ "مفردة تستخدم لوصف النساء العاملات في مجال الضيافة ممن يقمن بإعداد وصب وتقديم القهوة والشاي والحلويات وغيرها، يتم التعاقد معهن لتقديم خدمات الضيافة لمختلف المناسبات الاجتماعية النسائية وبخاصة حفلات الأعراس".

تقول إلهام في بحثها إنها واجهت صعوبة في تحديد نقطة أولى لبداية هذه المهنة بسبب غياب أي بحث منشور قبل ذلك عن هذا القطاع المهني.

غياب التوثيق الاجتماعي والتسجيل المهني المتأخر للمهنة جعل الوصول إلى بواكير تشكلها يعتمد على سؤال المسنات منهن وتوثيق ذلك شفهياً، أو كما تسميهن الباحثة "أمهات المهنة"، لتصل بالشهادات الشفهية إلى ثلاثينيات القرن الماضي من القصور الملكية وبيوت الشيوخ خلال السنوات الأولى لاستتباب الحكم في نجد، فعلى ما يبدو أن تشغيل الصبابات في فترة من الفترات كان سلوكاً ترفياً لا يحضر إلا في مناسبات الطبقة الحاكمة.

الانتقال إلى المدينة

كانت نقطة التحول في المهنة هي انتقال السعوديين من القرية إلى المدينة وارتفاع مستوى الدخل، وهذا ما جعل قدرة الأسر على القيام بخدمات المناسبات أكثر صعوبة لغياب الجانب العشائري القروي الذي كان يتولى هذا في العادة.

في المقابل، تملك المدينة نمطاً مهنياً متطلباً قلص القرب وعفوية العلاقات الاجتماعية بين الجيران، مما جعل توفير هذه الخدمات على طريقة التعاضد المعتادة أصعب، لتشق الصبابات والصبابون أيضاً طريقهم إليها، ويخرجوا من القصور ليوسعوا أسواقهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سبب آخر له علاقة بالتمدن أضاء عليه البحث، وهو انتقال الأعراس إلى قاعات الأفراح بدلاً من أسطح المنازل والأحواش، مما سمح باستيعاب عدد أكبر من المعازيم واستدعى طاقم خدمة أكبر، إلا أن السببين لهما علاقة بالجانب الاقتصادي وارتفاع رفاهية المجتمع منذ أواخر السبعينيات وعلى امتداد الثمانينيات والتسعينيات الميلادية.

من الفردية إلى المؤسسة

التحول الثاني أتى بعد ثلاثة عقود من نضج التجربة فردياً، فمع بداية القرن الحالي وخلال العقد الثاني بالتحديد، توقفت شركات الضيافة عن تعليق أرقام الصبابات على لوحاتها، وهي العادة التي كانت الشركات المؤجرة لأدوات تجهيز المناسبات تقوم بها بشكل واسع في فترة من فترات إلى أن قررت أن تتحول بذاتها إلى مؤسسات شاملة تتضمن خدمات الصب والضيافة، وتستغني عن الصبابات المستقلات ليقمن بمواجهة هذه الهجمة الرأسمالية بالمأسسة، وتغيير الشكل القانوني للعمل إلى كيان تجاري وإنشاء مؤسسات ضيافة لدوافع متعلقة بالتنظيم وضمان الحق القانوني للعاملات.

وهناك أسباب معنوية أوردها البحث على لسان "أمهات المهنة"، من بينها إرضاء الطموح الذاتي أو الهدف المهني للنساء اللواتي عملن على هامش الوظائف لفترة طويلة، إذ يورد على لسان أم حسن "في بداياتي كنت أنظر إلى المحال التي تضع أرقامنا على لوحاتها كنوع من التسويق لنا قبل 20 عاماً، وفكرت ما الذي يمنعني من أن تكون لي لوحتي الخاصة؟"، وعليه أنشأت شركتها الخاصة "المناسبة الرائعة" قبل ثماني سنوات. وتضيف، "أحد الأسباب الرئيسة التي دفعتني إلى تحويل عملي المستقل إلى مؤسسة ضيافة أمتلكها هو الحاجة إلى ضمان التعاملات المالية المنتظمة مع العملاء"، فأسهمت هذه العوامل مع ميل قاعات الأفراح إلى التعاقد مع المؤسسات بدلاً من الصبابة الحرة إلى تحول كثيرات إلى مؤسسات.

البناء الهيكلي للتراتبية المهنية

بالعودة للتعريف كان جلياً الفرق بين التعريف الحكومي وتعريف الباحثة، إذ اختزل تعريف هيئة الإحصاء هذه النشاط في مسمى "قهوجية"، وهو ما تراه الباحثة عيباً منهجياً في التوصيف، فبحسب ما نقلته عن الناشطات في هذا المجال، فإن القهوجية هي مرتبة مهنية ضمن التسلسل الهرمي القطاع، وليست رديفة له.

يبدأ قمة الهرم من "الريسة" وهو النطق المتداول بينهن لكلمة "رئيسة"، وتكون عادة ذات خبرة طويلة وذائعة الصيت، وتنجح في إيجاد مناسبات بشكل مستمر لجيش الـ "فري لانسر" اللواتي يعملن معها، ويثق بها أصحاب المناسبات بإيكال مهمة الضيافة إليها بناء على سمعتها.

تحت "الريسة" تأتي "المشرفة" وهي أشبه بمدير تنفيذي حيث تقف على رأس التجهيزات في صالة الضيوف، وتدير ثلاث مسارات تغطي قطاعات الضيافة في ليلة الزواج، المسار الأول "القهوجيات" اللواتي يتولين مهمة الدوران بصواني الشاي والمشروبات بين الضيوف، المسار الثاني "الصبابات" وهن اللواتي يباشرن صب القهوة، وهن المتمرسات على الإمساك بالدلال وسكبها وفق الأصول، أما المسار الثالث "العاملات" وهن من يتولين بقية المهمات مثل الطواف بصحون الحلويات أو غسل الكاسات والفناجين وغيرها.

تقول إلهام الدوسري إن كل العاملات في هذا الهيكل الإداري يعرنه احتراماً بالغاً، إذ يتحدث الجميع بإجلال عن "الريسة"، في حين تلتزم الصبابات والقهوجيات بتدريبات المشرفة على طريقة الصب وشكل الوقوف أثناء تقديم الضيافة وتقاليد تقديمها، بل إن بعضهن يخترن العمل في مناسبات معينة لرغبتهن في العمل مع "ريسة" بعينها، لما لها من تقدير في السوق. وتتولى "الريسة" تقسم الأجور في نهاية اليوم والتي تتراوح بين 150 إلى 500 ريال سعودي (40 – 133 دولاراً أميركي).

ويواجه هذا النوع من الدراسات الذي يضيء على تطور اجتماعي لقطاعات اقتصادية صغيرة كهذه ندرة على الرغم من أهميته، وهو ما يجعل هذه الدراسة ذات أهمية بالغة، بخاصة وأن الشريحة لم تدرس قبل نشر هذه الورقة في موقع الفنانة الرسمي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة