Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ستعكس أميركا مسار وجودها العسكري في أوروبا؟

نشر قوة الرد التابعة لـ"الناتو" مناورة محفوفة بالمخاطر قد تكشف تنافر الحلفاء

كانت كل من الولايات المتحدة وروسيا لعقود حذرتين في نشر قوات في أماكن يمكن أن تستفز الطرف الآخر. وتراجع الوجود العسكري الأميركي من نحو نصف مليون جندي في الخمسينيات إلى نحو 300 ألف جندي أثناء تفكك الاتحاد السوفياتي، ثم 63 ألفاً في الوقت الراهن. لكن قرار واشنطن نشر 8500 جندي في شرق أوروبا، بعضهم يتبع قوة الرد السريع التابعة لحلف "الناتو"، يغير هذا المسار التنازلي في وجود القوات الأميركية في أوروبا، ويقدم رسالة واضحة لموسكو ودول الحلف.

فكيف يؤثر تغير الالتزام العسكري الأميركي تجاه أوروبا على الأمن في القارة العجوز وعلى صدقية الولايات المتحدة، وماذا سيحدث إذا ما توصلت موسكو وواشنطن إلى اتفاق؟

خطوة متأخرة لكنها مطلوبة

بعد أشهر من متابعة العالم للقوات الروسية وهي تتحرك في مواقعها على طول حدود أوكرانيا، اتخذت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) خطوة متبادلة تأخرت كثيراً وقد تكون غير كافية بالإعلان عن نشر 8500 جندي في شرق أوروبا. لكنها تعد ميزة مطلوبة لمساندة دبلوماسية إدارة الرئيس جو بايدن الهادفة إلى تجنب غزو روسي لأوكرانيا. إذ تحتاج الدبلوماسية في بعض الأحيان إلى قوة عسكرية خلفها كإجراءات رادعة كي يكون لها فرصة للنجاح. ويترافق هذا التحول مع مزيد من شحنات الأسلحة الأميركية والمساعدات العسكرية لأوكرانيا واستعداد الولايات المتحدة لإجراء مناورة عسكرية في البحر المتوسط كانت مقررة منذ فترة طويلة.

غير أن ما يلفت النظر هو أن الولايات المتحدة تخطط لإرسال عدد من هذه القوات لتكون جزءاً من قوة الرد السريع التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) التي نادراً ما استُخدمت في الماضي، على الرغم من أن واشنطن تحتاج إلى إقناع الأعضاء التسعة والعشرين الآخرين في "الناتو" بدعم تحرك هذه القوات. وهي تدرك سلفاً أن "الناتو" الموحد سياسياً حتى الآن في مواجهة روسيا، يعاني من بعض الاختلافات من الناحية العملية في شأن توقيت تعزيز قوات الحلف على الخطوط الأمامية وكيفية ذلك، حسبما يقول كريس سكالوبا، مدير مبادرة الأمن عبر الأطلسي في مركز "سكوكروفت" الأميركي.

ولكن، ما هي قوة الرد السريع التابعة لـ"الناتو"؟

قوة الرد السريع

هي قوة متعددة الجنسيات في حلف "الناتو" عالية التأهب والاستعداد، تأسست عام 2002، وقوامها 40 ألف جندي وتتألف من وحدات برية وجوية وبحرية وقوات خاصة قادرة على الانتشار بسرعة في مسرح العمليات حيثما دعت الحاجة. لكنها استُخدمت بشكل ضئيل خلال العقدين الماضيين، إذ عملت في مهمات غير قتالية مثل الإغاثة في حالات الكوارث. حتى إنه عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، ظلت القوة بلا حركة كون أوكرانيا ليست عضواً في الحلف. وهو ما جعل البعض يطالب بحل هذه القوة لأنها بلا فائدة في أي أزمة.

لكن كريس سكالوبا يشبه قوة الرد السريع بسيارة رياضية باهظة الثمن لا يُسمح لها مطلقاً بمغادرة مكانها، والآن وضعت الولايات المتحدة المفاتيح في مكان تشغيلها، لكن لكي تعمل السيارة وتسير يتعين على الحلفاء الثلاثين في "الناتو" الموافقة على تشغيلها. الأمر الذي يقلق عدداً من المسؤولين السابقين في البنتاغون، مثل ليا شونيمان التي تخشى أن يكون شرط التصويت بالإجماع داخل الحلف عذراً مناسباً للتقاعس عن العمل.

ويصف عدد من الخبراء العسكريين استراتيجية قوة الرد التابعة لـ"الناتو" بأنها مناورة محفوفة بالمخاطر، يمكن أن تتعثر إذا ما فشلت في الانتشار حال قيام روسيا بمهاجمة أوكرانيا. ما يجعلها أقل من التوقعات ويكشف مزيداً من التنافر بين حلفاء "الناتو".

خيارات الولايات المتحدة

وإذا ما انتظرت إدارة بايدن موافقة "الناتو" على نشر قوة الرد السريع سيكون الأمر مخيباً للآمال. وربما يدفع ذلك واشنطن إلى التصرف بمفردها أو التعاون مع مجموعات أصغر من الحلفاء ضمن مجموعة من الخيارات تشمل تعزيز القوات الأميركية الموجودة لدى "الناتو" من مجموعات قتالية في بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، أو إرسال قوات بشكل دوري إلى بلغاريا ورومانيا، أو تعزيز العمليات البحرية في بحر البلطيق والبحر الأسود.

ووفقاً لشونيمان، لكي تستبق أي غزو يجب على الولايات المتحدة أن تعمل مع الدول الأوروبية بشكل ثنائي لإرسال مزيد من القوات إلى دول الجناح الشرقي في حلف "الناتو" كجزء من جهد دبلوماسي أكبر يهدف إلى وضع روسيا في حالة من عدم الاستقرار.

إعادة الصدقية

وبصرف النظر عن كون القوات الأميركية التي ستنتشر في شرق أوروبا ستصبح جزءاً من قوة الرد السريع للحلف أم لا، فإن تعزيز الوجود العسكري الأميركي في القارة الذي كان في حالة تراجع منذ نهاية الحرب الباردة، يعكس تحولاً في مسار التزام واشنطن العسكري تجاه الدول الأوروبية، ويؤشر إلى عزم إدارة بايدن على إعادة صدقية الولايات المتحدة في المنطقة. ففي حين أقر بايدن بأن أوكرانيا ليست عضواً في "الناتو"، فإنه أكد أن على الولايات المتحدة التزام حماية الدولتين المجاورتين لها وهما بولندا ورومانيا.

وبينما كانت الولايات المتحدة وروسيا على مر التاريخ حذرتين في عدم نشر قوات في أماكن يمكن أن يعتبرها الطرف الآخر استفزازاً له، بهدف تجنب مجال نفوذ كل منهما، إلا أن حلفاء "الناتو" في أوروبا الشرقية، الذين كان بعضهم في السابق ضمن الأراضي الخاضعة للاتحاد السوفياتي، يقفون حالياً في منطقة رمادية قد تراها كل من الولايات المتحدة وروسيا ضمن مجال نفوذها.

مع ذلك، تبدو حركة التاريخ مهمة في فهم كيفية تطور الوجود العسكري الأميركي في أوروبا وتفاعله مع روسيا وعلاقة ذلك بالأزمة الحالية في أوكرانيا.

وجود قديم

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية، نشرت الولايات المتحدة مئات الآلاف من جنودها في غرب أوروبا في مواجهة الوجود العسكري السوفياتي في شرق القارة، حيث كانت عمليات الانتشار الأميركية حيوية ليس في استقرار أوروبا الغربية بعد الحرب فحسب، إنما في ممارسة النفوذ الأميركي في بيئة ما بعد الحرب أيضاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتضمنت التفاعلات بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية خلال هذه الفترة إنشاء سلسلة من المؤسسات والمنظمات الأمنية والسياسية للمساعدة في هيكلة قواعد ومعايير العلاقات الدولية. ويعود استمرار هذه المنظمات بشكل جزئي إلى أن الولايات المتحدة تقدم التزامات أمنية للدول التي تقبل بها. وكان حلف شمال الأطلسي، الذي تأسس عام 1949 كحصن للتوسع السوفياتي، مركزياً في إطار هذه الجهود.

غير أن الوجود العسكري الأميركي اختلف بمرور الوقت وبحسب تغير الأوضاع الأمنية والاستراتيجية في أوروبا. فبعدما بلغ هذا الوجود ذروته في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بعدد نحو 430 ألف جندي يتمركزون في أماكن مثل ألمانيا الغربية والمملكة المتحدة، سعى "الناتو" بعد نهاية الحرب الباردة أوائل التسعينيات، إلى إعادة تعريف مهمته من مهمة كبح النفوذ السوفياتي إلى الاستقرار الأوروبي بشكل عام. وصاحب هذا التغيير في المهمة توسيع عضوية "الناتو" إلى دول وسط أوروبا وشرقها، مثل المجر وبولندا ودول البلطيق الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا التي استقبلت جميعها قوات أميركية فوق أراضيها.

وسعى "الناتو" إلى توسيع علاقاته مع الدول غير الأعضاء في الحلف في أنحاء أوروبا الشرقية والوسطى من خلال خطة تفتح الباب أمام العضوية، وتقدم المشورة والمساعدة للدول الراغبة في الانضمام إلى الحلف. وهو ما أثار اعتراضات روسيا في التسعينيات. وهي لطالما كانت قلقة بشأن أمن حدودها الغربية مع أوروبا. واستمر قلقها في شأن توسع "الناتو" إلى حدودها حتى اليوم، كما يتضح من مطالبة الرئيس فلاديمير بوتين بأن تنسحب قوات "الناتو" المنتشرة في دول الاتحاد السوفياتي السابق.

تحول عكسي

وإذا واصلت الولايات المتحدة تعزيز وجودها العسكري في أوروبا الشرقية، فإنها ستعكس الاتجاه الذي شهد تضاؤل ​​عديد القوات الأميركية في أوروبا بشكل ملحوظ منذ نهاية الحرب الباردة.

وشكلت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، على وجه الخصوص، تحولاً درامياً في المكان الذي ركزت فيه الولايات المتحدة على نشر قواتها ومجابهة عدد من المخاوف الأمنية، إذ أحدثت بداية الحرب في أفغانستان في عام 2001 وغزو العراق عام 2003 تغييرات هائلة في الموقف العسكري للولايات المتحدة على مستوى العالم، وحولت التركيز إلى آسيا الوسطى والشرق الأوسط. ففي عام 1989، كان للولايات المتحدة 248621 جندياً في ألمانيا الغربية، و27639 في المملكة المتحدة، و15706 في إيطاليا، و3382 في اليونان. ولكن، بحلول سبتمبر 2021، انخفض عدد القوات الأميركية إلى 35457 في ألمانيا، و9563 في المملكة المتحدة، و12434 في إيطاليا و429 في اليونان.

في حين أن حجم عمليات الانتشار الأميركية في أوروبا قد انخفض بشكل كبير منذ ذروة الحرب الباردة. إلا أن تلك القوات ما زالت كبيرة جداً مقارنة مع معظم عمليات الانتشار الأميركية الأخرى حول العالم.

وعلى الرغم من ازدياد المعارضة الشعبية لانتشار القوات الأميركية والأجنبية في غياب التهديد السوفياتي خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، إلا أن التوترات المتزايدة مع روسيا خلال السنوات القليلة الماضية، دفعت رؤساء الولايات المتحدة إلى تكريس مساعدات عسكرية إضافية لأوروبا ونشر قوات أميركية في كل من بولندا ودول البلطيق.

ويبدو أن هذا الاتجاه سيستمر إذا ما نشر البنتاغون القوات في أوروبا الشرقية بغية مواجهة التهديد الروسي بغزو أوكرانيا.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير