هل وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مأزق بسبب المبالغة في تقدير المواقف، أم أنه خطط للمأزق من أجل استخدامه كعذر لغزو أوكرانيا؟
الانطباع السائد أن بوتين لاعب استراتيجي وتكتيكي ماهر، وضابط استخبارات ماكر. يستخدم التكتيك لتحقيق هدف استراتيجي. ويلعب استراتيجياً للحصول على مطلب تكتيكي. هو وريث ما كان السوفيات بارعين فيه: "حرب العصابات السياسية" على حد تعبير جورج كينان صاحب نظرية "الاحتواء" في مواجهة الغرب للاتحاد السوفياتي. وما فعله، حتى الآن، من خلال حشد مئة ألف عسكري على الحدود مع أوكرانيا، هو حرب عصابات سياسية بوسائل الحرب العسكرية: منع الغرب من ضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي. لكن اللعبة مرشحة لأن تصبح أكبر.
ذلك أن الرئيس الروسي يعرف أن في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا خبراء استراتيجيين ومسؤولين يتبنون رأي جورج كينان القائل، "توسع الغرب إلى حدود روسيا خطأ رهيب". ويعرف أيضاً أن ما طلبه من أميركا خطياً في مذكرتين ومن أوروبا شفهياً ليس من النوع الذي يمكن قبوله حتى بصعوبة، وإن كان مصلحة حيوية لموسكو. وهذا ما تأكد منه بعد المحادثات الأميركية - الروسية في جنيف، والمحادثات الروسية مع الحلف الأطلسي في بروكسيل، والمحادثات الروسية - الأوروبية في فيينا ضمن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
فما طلبته موسكو في المحادثات يعني بالجملة إعادة لهندسة التوازن الاستراتيجي منذ نهاية الحرب الباردة. وهو بالتفصيل، "لا توسيع للناتو، وبشكل خاص بالنسبة إلى أوكرانيا وجورجيا والسويد وفنلندا. لا أسلحة عسكرية على حدود روسيا. لا ثورات ملونة. وسحب القوات الأطلسية من الدول الـ 14 التي كانت في حلف وارسو".
وما كان من الممكن أن يسير الغرب بالمحادثات بحسب الشعار الذي طرحه نائب وزير الخارجية الروسي ريابكوف، "لننسَ الماضي، ولنتفاوض مجدداً على كل هذه الأمور".
فالشعار في جوهره، "محاولة لإعادة كتابة التاريخ" كما قال المسؤول عن الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وترتيب نظام أمني جديد في أوروبا" كما رأى الأمين العام لـ "الناتو" ينس ستولتنبرغ. وطموح لاستعادة الكتلة الجيوسياسية السوفياتية، بحسب مسؤولين أميركيين.
الموقف الأوروبي مع روسيا كما عبر عنه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان هو "التشدد من جهة، والحوار من جهة أخرى". والمنطق الأميركي والأطلسي، بحسب ستولتنبرغ ونائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان، هو "إيجاد نقطة توازن بين الردع والحوار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا مجال هذه المرة لأن يمارس بوتين لعبته المفضلة في تحريك الخلاف داخل الاتحاد الأوروبي ثم بين أميركا وأوروبا. فالموقف يبدو واحداً وصلباً في المواجهة والتلويح بعواقب وخيمة وعقوبات لا تخطر على بال في حال قرر بوتين غزو أوكرانيا. ولا أحد يتدخل عسكرياً بشكل مباشر.
لكن بوتين مارس الغزو من قبل بلا عواقب كبيرة. عام 2008، خاض حرباً مع جورجيا وفصل عنها إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية واعترف بهما كجمهوريتين مستقلتين. لا بل إن وزير الخارجية سيرغي لافروف قال لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، كما تروي في مذكراتها، "ميشا يجب أن يذهب"، في إشارة إلى رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي. ولم يكن رد أميركا والأطلسي سوى بعض العقوبات. وعام 2014، غزا شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا، وشجع الانفصاليين على إعلان "الاستقلال" عن أوكرانيا في منطقة الدونباس. وكان رد أميركا والأطلسي كالعادة بعض العقوبات. لكن الرئيس الأميركي في ذلك الوقت باراك أوباما اعترف أمام مساعديه الكبار بأن "مصالح روسيا في أوكرانيا أكبر من مصالح أميركا، كما أن مصالحنا في المكسيك أكبر من مصالح روسيا".
وطبول الحرب تدق. فلا خوف لدى بوتين من مواجهة عسكرية. ولا هو يصف روسيا وأوكرانيا بأقل من أنهما "شعب واحد في بلدين". ولا شيء يمنعه، في المقابل، من الرهان على "براغماتية" الغرب، بحيث يحصل على بعض ما يطلبه بحشد مئة ألف عسكري من دون الغزو، بحسب نظرية المفكر الصيني القديم سن تزو، "أعلى فنون الحرب إخضاع العدو من دون قتال".
أميركا غزت غرينادا وباناما في مرحلة الحرب الباردة، وأفغانستان والعراق بعد نهاية الحرب الباردة. غير أنها انسحبت في النهاية. أما روسيا أيام بوتين، فإنها تغزو وتبقى. شيء من الإمبريالية الجديدة في مواجهة الإمبريالية القديمة. وليس من الضروري أن تصح الحسابات ولو بدت دقيقة. ألم يقل شاعر عربي قديم: وتقدّرون فتضحك الأقدار؟