Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بريكست سيتحول إلى حرب باردة بغض النظر عن "الطلاق" من الاتحاد الأوروبي

سيُخلف كل هذا إرثا من أسوأ العلاقات في أزمنة السلم كلها بين البريطانيين والقارة الأوروبية

ما تبقى من اتفاق الانسحاب قد يصمد، ما عدا الأجزاء الصغيرة التي لا تحبها بريطانيا بشأن ايرلندا الشمالية (رويترز)

ليست هذه المرة الأولى التي يقفز فيها بريكست إلى المجهول. ويتطلب الأمر جهداً مؤلماً وإن كان ضرورياً، من الذاكرة كي نفهم ما يحدث بالفعل في هذا العالم المقلوب رأساً على عقب. إن استعادة آلام الماضي ليس أمراً ممتعاً، لكن يتوجب فعله.

وبالعودة إلى الأيام الذهبية حينما توصلت تيريزا ماي رئيسة الوزراء، إلى تسوية مسألة الحدود الإيرلندية، أو بالأحرى تسويتها قدر الإمكان. ولقد حدث ذلك عبر ما يُعرف بشبكة الأمان ("باكستوب" Back Stop) الإيرلندية، وهي بند في اتفاق بريكست يقضي بإبقاء الحدود مفتوحة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، لأن المملكة المتحدة بأكملها ستبقى في بعض الجوانب ضمن السوق الموحدة والاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، في حال لم يجرِ التوصل إلى صفقة تجارية واقتصادية أفضل.

تمثلت صفقة السيدة ماي في ألا حاجة إلى حدود بين إيرلندا وإيرلندا الشمالية، مهما حدث. وقد وُضعت الصفقة كوثيقة ضمان في حال فشل اتفاق التجارة المستقبلية الكبرى بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي (لا سمح الله).

في المقابل، تلك الفكرة برمتها بغيضة تماماً بالنسبة لأنصار بريكست الذين ينظرون إليها باعتبارها "بريكست بالاسم وحدة" أو "برينو" Brexit in Name Only. وقد رُفضت من قبل بعض كبار زملاء ماي الذين استقالوا، بمن فيهم وزير الخارجية آنذاك بوريس جونسون، وبأغلبية كبيرة، من قبل مجلس العموم. وتالياً، فقدت ماي منصبها، وجاء بعدها جونسون ليعلن خطة "استئصال باكستوب".

وبطبيعة الحال، بقيت قضية الحدود الإيرلندية [عالقة]، وانتهى بنا الأمر إلى شبكة أمان خلف شبكة الأمان، بمعنى أنها تلك الحدود التجارية في جنوب البحر الإيرلندي التي اتُفق عليها الآن، وقد مُرر الاتفاق في البرلمان مع وجود تفاصيله في اتفاق الانسحاب بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبالمناسبة، فإن هذه الحدود الداخلية بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية هي التي قال عنها جونسون ذات يوم، إنه لا يمكن لأي رئيس وزراء بريطاني أن يقبل بها، بعد أن طرحها الاتحاد الأوروبي في الأصل كخيار. كذلك اعتبرها الوحدويون الديمقراطيون خيانة لأسباب مفهومة بما فيه الكفاية. وعلى أي حال، كان هذا هو أساس الصفقة "الجاهزة" التي جرى إقرارها في الانتخابات العامة الأخيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا مضى كل شيء على ما يرام بشأن المحادثات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، فلن تكون صفقةً كبيرةً على أي حال. وإذا فشلت المحادثات (لا سمح الله)، فعندئذ على الأقل لن تكون هناك عمليات تفتيش على الحدود الإيرلندية.

وبالتالي، تُشكل الحدود الاقتصادية بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الطريقة التي سيُحمى بها اتفاق "الجمعة العظيمة" [أنهى الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا] وتكامل السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي.

في المقابل، سيؤدي كل ذلك الآن إلى خلق شبكة أمان جديدة، كي تكون شبكة الأمان لشبكة الأمان، وقد نسميها شبكة أمان المملكة المتحدة، من دون نقاط تفتيش بين بريطانيا وإيرلندا الشمالية في نهاية المطاف. وستُعطل بقوانين جديدة ستحمي ما يسمى السوق الداخلية للمملكة المتحدة. وكذلك ستُلغى أحكام البروتوكول الإيرلندي في اتفاق الانسحاب بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويعود ذلك إلى أن المملكة المتحدة تريد الآن شبكة أمان خاصة بها للحفاظ على سلامة سوقها الداخلية، مع خلوها من أي تلامس [مع الاتحاد الأوروبي] في البحر الإيرلندي.

وعل الرغم من أن الوضع ليس واضحاً بعد، يُفترض أن البريطانيين ما زالوا غير راغبين في رؤية إجراءات المراقبة على الحدود بين إيرلندا الشمالية وإيرلندا. لذا، ثمة مشكلة منطقية متعلقة بكيفية تولي المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي حماية تماسك السوق الداخلية/ الموحدة لكل منهما من دون أي حدود اقتصادية في أي مكان بين إيرلندا والمملكة المتحدة، ولن تُسوى إلا عن الطريق التجاهل. بيد أن هذا الأمر لن ينجح. وأظن أنه سينتهي إلى مطالبة الاتحاد الأوروبي إيرلندا بمحاولة حماية السوق الموحدة بطريقة ما من التآكل، عبر السيطرة على الحدود، وقد استعصى ذلك الأمر على جزء كبير من الجيش البريطاني خلال الاضطرابات.

وفي المقام الأول، يعني ذلك أن المملكة المتحدة ستتنصل من جانب واحد من معاهدة دولية دخلت فيها قبل أقل من عام. وسيكون هذا شكلاً قانونياً متطوراً من هواية قطاف الكرز البريطانية المفضلة. ويعتبر اتفاق الانسحاب بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في أغلب جوانبه مقبولاً تماماً بالنسبة لبريطانيا. وفي المقابل، ليس من الواضح جداً أن جونسون لم يشعر بالارتياح إزاء إقامة حدود في جنوب البحر الإيرلندي، وتظاهر بأنها غير موجودة، مؤكداً للمستجوبين باستمرار أن بإمكانه تمزيق أي اتفاقات مزعجة وإرسالها إلى "داونينغ ستريت".

واستطراداً، تتمثلل الفكرة الآن في أن ما تبقى من اتفاق الانسحاب يمكن أن يصمد، ما عدا الأجزاء الصغيرة التي لا تحبها بريطانيا بشأن إيرلندا الشمالية، مع ما تفرضه من التزامات متعلقة بالدعم الحكومي وتكافؤ الفرص. وكذلك يتبين أن بروتوكول إيرلندا الشمالية شكل دائماً نوعاً من "حصان طروادة" يستبق المحادثات التجارية الأوسع نطاقاً، ومع ذلك وقع عليه البريطانيون رسمياً (حتى لو لم يقرأه بعض النواب مطلقاً).

ويُعتبر هذا التنصل من اتفاق الانسحاب مراوغة من الناحية القانونية، لأن الاتفاق يتحكم به إجراءات تحكيم مخصصة له، حتى لو كانت لا تزال قيد الإعداد، تحسباً لتراجع أحد الأطراف عن الصفقة، وفق ما يعترف البريطانيون به صراحة في إحاطات موجزة تفيد أنهم يفعلون ذلك حالياً "عن قصد". ووفقاً للاتحاد الأوروبي، "إذا لم تجرِ استعادة الامتثال، فإن الاتفاق يسمح للأطراف بتعليق تطبيق اتفاق الانسحاب نفسه بشكل متناسب، باستثناء ما يتعلق بحقوق المواطنين أو أجزاء من الاتفاقات الأخرى بين الاتحاد والمملكة المتحدة".

وفي الواقع، بطبيعة الحال، إن ما يحدث الآن ليس انتهاكاً فنياً بسيطاً للقواعد، وفق ما حاول الوزير الحكومي جورج أوستيس أن يجادل حوله في الراديو، بل إنه تراجع عملي عن جزء مهم من الصفقة يتمثل في بروتوكول إيرلندا الشمالية.

استناداً إلى ذلك، سوف تنهار المعاهدة برمتها، بما في ذلك على الأرجح ضمانات حقوق المواطنين، بسبب المرارة التي ستتولد عنها. وتجدر الإشارة إلى أن المتوخى من اتفاق الانسحاب تمثل في أن يكون مجرد ديباجة لاتفاق التجارة والأمن الجديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولأن ذلك لم يعد مرغوباً فيه من قبل البريطانيين، ما لم يكن وفقاً لشروطهم الصارمة، فليست هناك فائدة كبيرة من اتفاق الانسحاب. وفي النهاية، لن تصمد أي معاهدة متنازع عليها. ويضاف إلى ذلك أنه بموجب أحكام اتفاق فيينا 1970 للمعاهدات الدولية، لا يمكن لأي دولة أن تلتزم إلى الأبد بأي معاهدة، وهذه فكرة تعكس العقيدة البريطانية القائلة، إنه لا يمكن لأي برلمان أن يُقيد عمل أي برلمان مستقبلي. واستطراداً، من الممكن أن تسقط أحكام حقوق المواطنين في الاتفاق.

ويترتب على ذلك أيضاً عودة العمل بالبنود الأخرى في اتفاق الانسحاب، بما فيها بند "فاتورة الطلاق" التي تبلغ قيمتها 39 مليار جنيه إسترليني. ويحيل هذا مباشرة على تصريحات جونسون خارج "الرقم 10" [إشارة إلى مقر الحكومة البريطانية]، يوم أصبح رئيساً للوزراء في 24 يوليو (تموز) من العام الماضي. وآنذاك، ذكر جونسون أنه "في حال خروجنا من دون اتفاق، ستكون لدينا 39 مليار جنيه إضافية لننفقها في مشاريع أكثر أهمية". وقد تتذكرون أيضاً أن جونسون أبلغ مجلس العموم في وقت سابق جداً أن بإمكان الاتحاد الأوروبي "أن يحلم" بمثل هذه المبالغ الضخمة. وعلى الرغم من إقرار وزارة الخزانة بأن هذا المبلغ يشكل التزاماً مالياً قانونياً طويل الأجل، يريد جونسون التخلف عن سداده، أو استخدامه كـ"ورقة ضغط،" مما سيقلب النظام الأصلي للمفاوضات.

وسيُخلف كل هذا إرثاً من أسوأ العلاقات في أزمنة السلم بين البريطانيين والقارة الأوروبية بأكملها على الإطلاق، ربما. وبينما تمثل النهج البريطاني التقليدي في امتلاك بعض الحلفاء مقابل بعض الأعداء في القارة للحفاظ على توازن القوى، ستكون هناك قريباً 27 دولة ضدها مؤسساتياً وجماعياً. وغني عن الإشارة إلى أن هذا الوضع سيكون أكثر ضرراً بكثير من "العزلة الرائعة" التي شهدتها بريطانيا في القرن التاسع عشر، حينما مثلت قوة عالمية بإمكانها الوقوف في معزل عن غيرها.

على نحوٍ مماثل، سيكون البريكست أبعد من طلاق مخملي وأقرب إلى حرب باردة. ويعني ذلك أنه سيكون أحد أشد الخلافات القانونية الطويلة الأمد الممكنة ضراوة، ولسوف يسمم العلاقات لعقود من الزمن. وستكون له نتائج غير معلومة، لكنها ستكون مضرةً جداً بالنسبة للجانبين، ليس أقلها صعوبة تصور كيف يمكن لبريطانيا أن "تزدهر بقوة" في ظل انقطاعها عن أسواقها الرئيسة وسلاسل التوريد [المتصلة بها]. ولا ينبغي أن ننسى أنه حتى لو حدثت معجزة وجرى التوصل إلى اتفاق ما للتجارة الحرة على غرار الاتفاق مع كندا، فإنها لن تشمل الخدمات والقطاعات التي يمتلك البريطانيون أقوى ميزة تنافسية فيها.

وفي سياق مماثل، ثمة عواقب وخيمة كثيرة أخرى تترتب على هذا التحرك الأخير بشأن بريكست، نحو حرب باردة مع حلفائنا السابقين. إنه سيُضعف الناتو ومكافحة الإرهاب، وسيُعقد التعامل مع أزمة الهجرة عبر القناة، وسيجعل اسكتلندا أكثر تصميماً على الخروج من المملكة المتحدة، وقد يعني العودة إلى العنف في إيرلندا، وإعادة تسليح الحدود. وكذلك سيؤدي، بشكل غير ملائم، إلى إثارة قضية جبل طارق وإحياء النزاع مع إسبانيا. من ناحية أخرى، لن يحصل المواطنون في الجانبين كليهما (الأوروبي والبريطاني) على ضمانات مدعومة دولياً بشأن وضع إقامتهم. وكخلاصة، بما أننا الآن نعرف ما يعنيه بريكست، يجب أن نسأل أنفسنا بصراحة عما إذا كان هذا يمثل بريكست الذي صوتنا له في 2016.

© The Independent

المزيد من سياسة