Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليبيا والمتاهة التركية... قراءة في أسباب إطالة عمر الصراع العسكري

يُعد قادة المعارك الحالية رؤوس جبال الجليد

تخشى تركيا إجراء صفقة لتقاسم السلطة بين فايز السراج والمشير خليفة حفت (غيتي)

 تشذُّ ليبيا عن نماذج ثورات الربيع العربي بسبب تعقيد بُنية الدولة، وتشكّلات الانقسامات على مختلف أصعدتها السياسية والقبلية والجهوية والنخبوية، إضافة إلى انعكاسات التحالفات الإقليمية والدولية، وتدخلاتها في الشأن الليبي كل من منطلقات مصالحه الخاصة.

هذه العوامل الداخلية والخارجية أسهمت في إطالة عمر الصراع العسكري طوال الثماني سنوات الماضية منذ اندلاع الثورة في 17 فبراير (شباط) 2011، إلى أن ظهر الرئيس التركي الذي كان يحوم في حِمى المسرح الذي تشكله سيناريوهات مظلمة، ليوقّع اتفاقيتين مع رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج مدفوعاً بأسبابٍ أكبر ممّا بدا من جبل جليد التعاون الأمني وتحديد مناطق النفوذ البحري.

 وحسب وسائل إعلام قريبة من الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر أنَّ تركيا شاركت بقواتها في المعارك الدائرة في طرابلس بعد القرار الصادر من أردوغان والبرلمان بمساندة حكومة الوفاق، المدعومة من الميليشيات.

 إرث دموي

تمخَّض مؤتمر برلين حول ليبيا أمس الأحد 19 يناير(كانون الثاني) عن بندين يمكن وصفهما بأنّهما مجرد أمنيات يمكن أن تتحطم أمام صخرة التصعيدات الدولية: هما احترام حظر إرسال أسلحة إلى ليبيا وعدم التدخل في النزاع الدائر في البلاد.

لكن لا يبدو أنَّ أردوغان على استعداد لتنفيذ الاتفاق، بخاصة أنَّ تطورات الأحداث على الطريقة التركية جاءت بعد نسف الحسابات السياسية الخاطئة للأمم المتحدة ومبعوثها لليبيا، حتى باتوا أقرب إلى الاعتراف بعجزهم عن قراءة التعقيد الليبي الداخلي. وتُتهم أنقرة بالرغبة في تمرير أجندتها ومصالحها السياسية والاقتصادية الخاصة مقابل دفعها بحكومة الوفاق لقبول وقف إطلاق النار في خطوط القتال الحالية، رعايةً لمصالحها في ليبيا والمنطقة، وليس لأجل الليبيين. 

وفي غمرة الانشغال بمحاولات الفهم، باغت المجتمع الدولي، التدخل التركي كطعنةٍ من الخلف في ظهر الشعب الليبي، بخاصة قبيلة الجوازي التي تحمل إرث دماء سفكها العثمانيون قبل 200 عام في ما عُرف بمذبحة الجوازي.

وتعود القصة إلى حدوث خلافٍ كبير بين الوالي العثماني يوسف باشا القرمانلي وابنه محمد، بعد هروب الابن لأشهر عدّة، خوفاً من بطش أبيه، فاحتضنته قبيلة الجوازي القوية والمعروف عنها الكرم إلى أن انتهى الخلاف بين الأب وابنه. 

خطّط الوالي العثماني للقضاء على القبيلة التي دعمت انقلاب ابنه، فدعاهم إلى التفاوض والمصالحة في قصر الحامية ببنغازي، ثم أقام المجزرة هناك التي راح ضحيتها حوالى 10 آلاف فرد من القبيلة.

 على الرغم من إحياء الذكرى السنوية لهذه المذبحة، إلَّا أنَّ تدخل أردوغان أيقظ مطالبة شعبية من شيوخ وقيادات القبيلة في ليبيا ومصر، وُجّهت لتركيا بوصفها الوريث الشرعي للعهد العثماني. تلخَّصت المطالب في الاعتراف التركي بالمذبحة، وتقديم الاعتذار عن هذه الجريمة للقبيلة وللدولة الليبية، وتقديم التعويضات المادية والمعنوية لأهالي الضحايا والدولة الليبية، وإلَّا ستُدوّل القضية.

محاولات احتواء الأزمة

 لم يكن الموقف الدولي موحداً ضد التصعيد العسكري في البلاد، بل ظل موقفاً غامضاً يدعو القوات المعتدية والمدافعة على حدٍّ سواء إلى التهدئة وضبط النفس.

 فقد أجهضت روسيا من قبل، صدور بيانٍ عن مجلس الأمن الدولي يدعو قوات حفتر إلى وقف عملياتها في طرابلس، على إثر رفض الولايات المتحدة مقترح الوفد الروسي في الأمم المتحدة، الذي طالب بتعديل صيغة البيان الرئاسي بحيث تصبح دعوة كل الأطراف الليبية المسلحة إلى وقف القتال، وليس فقط قوات حفتر.

وقبلها لم ينجح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، حول لقاء يجمعه مع رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في جنيف في محاولة لاحتواء الأزمة والتطورات الأخيرة، وإنّما أعلن الطرفان استمرارهما في العمليات العسكرية. فلم يكن غوتيريش الوحيد الذي فشل في إقناعه بتهدئة الأوضاع، يغادر ليبيا و"قلبه مثقل"، فهذه الأزمة أثقلت قلوب ستة من المبعوثين الدوليين، آخرهم غسان سلامة.

إذاً ليس جديداً، الوجود الأجنبي في الأزمة الليبية كواقع ملازم لها منذ نشأة الدولة، فلهذا التدخل أساس تاريخي بُني على اعتبارات استراتيجية، منذ استقلالها في مطلع خمسينيات القرن الماضي وظلّت مسرحاً لهذا التدخل بحكم القرب الجغرافي.

إضافة إلى وجودها في مقدمة الحزام النفطي المكون من السودان وليبيا والنيجر ونيجيريا. وكان الحائل بين الدول الطامعة وليبيا، وجود العقيد الراحل معمّر القذافي وسياساته الجريئة والمتخبّطة التي لا يمكن التنبؤ بها في حقل العلاقات الدولية. وبعد سقوط القذافي، التفّت الولايات المتحدة حول بعثة الأمم المتحدة للدعم والوساطة التي تقوم بها بين الفرقاء الليبيين، والتي تمخّض عنها توقيع اتفاق سياسي بمدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2015.

 وتناسلت الاتفاقات تحت الرعاة أنفسهم من دون حلول على أرض الواقع. ومن ثم، نشأ عامل آخر، عزّز حجم التدخل الغربي وهو الهجرة غير الشرعية عبر ليبيا ومحاربة الإرهاب والإتجار بالبشر، فتضافرت هذه العوامل واكتملت حبات حلقتها ما بين اقتصادية وأمنية إنسانية وجيوسياسية.

 النفط مقابل الحماية

تخشى تركيا إجراء صفقة لتقاسم السلطة بين فايز السراج والمشير خليفة حفتر، أكثر من خشيتها الوصول إلى نظام ديمقراطي عبر انتخابات حرة ونزيهة.

ويُعتبر ضمان تدفق النِّفط هو العامل المحفِّز للسباق في أن يكون لها دور في الشأن الليبي. ولكن عند الدخول في التفاصيل، نجد أنّ لكل دولة أجندتها التي تخدم هذا العامل. فالولايات المتحدة، غضّت الطرف طويلاً عن الصراع في ليبيا. أما إيطاليا، فما زالت تشعر بمسؤوليتها عن مستعمرتها السابقة، وما يمكن أن يجره الإرث التاريخي والواقع الجغرافي من زيادة مخاطر تدفق اللاجئين إليها. وهي بحكم متاخمتها لليبيا عبر المتوسط، تُعتبر الدولة الأكثر تأثراً في ما يمكن أن تفضي إليه حالة الانفلات والفوضى، كبوابة للمهاجرين القادمين منها وعبرها في طريقهم إلى أوروبا. ووفقاً لهذه العوامل، سعت إيطاليا إلى تهدئة الأوضاع حتى لا يتأثر تدفق النفط والغاز الليبيَّيْن اللّذين تعتمد عليهما بشكلٍ كبير.

 وتقتسم الإرث التاريخي الاستعماري مع تركيا، إيطاليا وفرنسا التي تنظر إلى عدم الاستقرار في جنوب ليبيا والتي كانت تقع ضمن مستعمراتها في شمال أفريقيا كمهدّد لاستثماراتها في منطقة الصحراء الكبرى.

ولن تتردّد فرنسا في التدخل في الجنوب الليبي، فقد قادت من قبل حملة عسكرية عام 2013 ضد الجماعات المسلحة في شمال مالي لحماية شركاتها المستكشفة والمنقّبة عن النفط والذهب واليورانيوم هناك. لم تكن كل هذه الحسابات غائبة عن الأطراف المتصارعة في الدولة الواقعة بشمال أفريقيا. نتيجة لذلك، استقوى كل منها بجهات دولية ضد الآخر وعلى حساب الشعب الليبي.

تجاذبات سياسية

 يُعدُّ قادة المعارك الحالية رؤوس جبال الجليد، أما العمق، فيحوي فسيفساء قوامها ميليشيات متشابكة وجهويات وقبليات راسخة. كل هؤلاء يتصارعون في ظلّ الانهيار السياسي والاقتصادي.

كان يمكن أن يوحّد هذا القتال بين المتشددين والمعتدلين، ولكن سياسة خلط الأوراق وحسب قانون اللعبة، فإنّ أوراقها ستتبعثر بين الارتباك والانتظام، إلّا أنّ الراجح سيكون فوضى قد تطيح بالدولة نفسها.

تصوِّر التجاذبات السياسية والعسكرية في ليبيا الآن، المشهد مشدوداً من الأطراف جميعها، ولكن العبرة في من ينجح بسحب كثير من المواقف المؤيدة لصالحه، فيُبنى عليه ربّما مستقبل الصراع في البلاد ومآلاته التي ستزيد عملية الاستقطاب وستدفع آبار نفط ليبيا فاتورة تجّار الحرب.

وهذه المعارك على الأرض بعدتها وعتادها وإعلامها هي بداية لحربٍ مؤجلة، ربما تنفجر في أي وقت بشكلها الدولي والإقليمي المتابع بترقّب لإرهاصات الربيع، مطوّقاً المشهد الليبي.

المزيد من تحلیل