ملخص
وأنا أنتهي من قراءة "يوميات سجين" لساركوزي وهو الذي قضى ثلاثة أسابيع في السجن، وخرج منها بكتاب من 216 صفحة، أتساءل لماذا لا يكتب الرؤساء والسياسيون الكبار عندنا تجاربهم مع السجن وهم كثر، وقد قضى بعضهم سنوات كثيرة من عمره؟
بهذه العبارة يفتتح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي كتابه الجديد "يوميات سجين" الصادر عن منشورات فايار هذا الأسبوع:
"استيقظتُ مبكراً جداً صباح هذا اليوم الثلاثاء 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2025. كان ذلك يوم دخولي السجن. لم يخطر ببالي قط أن أعبر يوماً جدران سجن. لم يكن ذلك وارداً في الحسبان أبداً. لستُ رجلاً عنيفاً ولا معتدياً. لطالما دفعتُ ضرائبي بدقة وصرامة. لم أفكر يوماً ولم أتخيل أي تركيب أو تدبير مشبوه. كنتُ لمدة عشرين سنة عمدة مدينة كبيرة، نويي-سور-سين، من دون أن تثير أية مناقصة أو أي إجراء إداري أدنى ملاحظة أو رد فعل صغير... ومع ذلك، في ذلك الصباح المشمس، وأنا أعبر باريس متجهاً إلى سجن لا سانتي la Santé، كان لا بد لي أن أقرّ بأن ما لم يكن متصوراً قد وقع بالفعل!".
حين أعلنت دار النشر الفرنسية فايار Fayard عن صدور كتاب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي "يوميات سجين" والذي يستعرض فيه تجربته في السجن، ضحكت، وقلت بيني وبين نفسي: هل تجربة عشرين يوماً خلف القضبان تستحق أن تشكل مادة كتاب في 216 صفحة؟
قرأت الكتاب فور صدوره، وشكراً للكاتب حميد قرين الذي بعث لي بنسخة منه، يُقرأ كتاب ساركوزي بسرعة، بل وعلى دفعة واحدة، لأن كثيراً من فصوله وفقراته هي تذكير بما تم تداوله عن خلفيات الحكم عليه بخمس سنوات سجناً مع التنفيذ الفوري.
إن الشيء الذي دفعني لقراءة هذا الكتاب، الذي دخلته بحس السخرية والاستغراب، هو السؤال التالي: ما الذي يميز كتابة الرئيس عن تجربته في السجن عن كتابة تجارب سجن عرفها سياسيون وصحافيون وكتاب ومواطنون بسطاء؟ ماذا لو قارنا تجربة سجن نيلسون مانديلا أو أحمد بن بلة أو لولا الرئيس البرازيلي بتجربة ساركوزي التي دامت 20 يوماً؟
مع ذلك مهما يكن الإنسان السجين، ومهما تكن المدة خلف القضبان، فإنه حين يحرم من حضن عائلته ولمة أبنائه وأحفاده ودفء سريره فإنه لا شك سيعاني من هذا الفراق، والمعاناة درجات.
قلت وأنا أشرع في قراءة الكتاب: ماذا يا ترى سيروي لنا الرئيس السجين نيكولا ساركوزي؟
في الصفحات الأولى يرسم ساركوزي بورتريهاً لنفسه، "فهو رجل عنيد ومقاوم لا يستسلم، لكنه لا يفتأ أن ينسى".
بأسلوب سردي روائي يتلبس حساً رومانسياً، يكتب السجين ساركوزي فطور صباحه الأخير خارج قضبان السجن، فتبدو الشخصية المركزية الثانية التي تقاسمه البطولة هي زوجته كلارا التي لها حضور بارز في الكتاب، وأول عبارة صباحية تتفوه بها كلارا قبل الفطور هي: يا له من كابوس! ماذا يا ترى فعلناه لنقابل بكل هذا الرعب؟ (ص11-12)
بكثير من الحنان الطافح يكتب ساركوزي فطوره الأخير مع كلارا والأولاد والأحفاد وكأنه المسيح في العشاء الأخير مع تلامذته الـ12 من الحواريين.
يقيم الكاتب مدخلاً سردياً يعرض فيه بلغة لها طقوس دينية تارة وبطولية تارة أخرى، حيث يبدو البطل مثيراً للتعاطف، فبيته محوط بالمتظاهرين الذين يعارضون سجنه وينددون بالحكم الصادر عن المحكمة والقاضي بسجنه خمس سنوات، تظاهرة دعا إليها ابناه.
بأسلوب اعترافي داخلي أو هكذا يريد، يجد ساركوزي نفسه أمام بوابة السجن، سجن لا سانتي، يودع محاميه الذي ظل صامتاً بجواره في السيارة، يفتح باب السجن الحديدي المرعب، يستقبل النزيل الجديد، يتم تفتيشه، يمنح رقماً سيصبح من الآن فصاعداً هو اسمه بدلاً من نيكولا ساركوزي، الرقم هو 320535، مفارقة عجيبة، وهو الذي كان قبل أربعة أيام في قصر الإليزيه ضيفاً على الرئيس إيمانويل ماكرون، يقول في الكتاب:
"ها أنذا أستعد لكي أتسلّم رقم سجني 320535، هكذا ابتداء من الآن فصاعداً سيُعرف اسمي. أنا الذي قبل أربعة أيام فقط، كنت نيكولا ساركوزي، الرئيس السابق للجمهورية، الذي استقبله الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً في قصر الإليزيه".
حين يتذكر بأنه كان لخمس سنوات رئيس جمهورية، يستغرب حاله وتعظم أمامه الهاوية التي سقط فيها، يتوقف قليلاً لنقد مواقف ماكرون تجاهه، وبألم كبير يتحدث عن صدمة تجريده من وسام الشرف الذي كان يحمله بصفته رئيس جمهورية سابق.
حفاظاً على أمنه، يقترح ماكرون على ساركوزي فكرة نقله إلى سجن آخر أكثر راحة وبه شقة مخصصة لعائلة السجين إلا أنه يرفض ويصر على البقاء في سجن لا سانتي، ولضمان حراسته يخصص له شرطيان سيقيمان معه في الزنزانة المجاورة لزنزانته.
من الساعة الأولى يدرك ساركوزي بأن جيرانه من نزلاء سجن لا سانتي هم من الإرهابيين والمجرمين المغتصبين والقتلة وتجار المخدرات.
يقاد النزيل الجديد رقم 320535 إلى زنزانته بعد أن يستقبل من قبل إدارة السجن، الزنزانة رقم 11 في الطابق الرابع، يعد درجات السلم فيجدها "صعدنا أربعة سلالم، وبالضبط خمساً وثمانين درجة. لقد قمتُ بعدها بنفسي".
يحتاج فتح باب الزنزانة دقيقة من الوقت لكثرة الأقفال، وها هو أخيراً في زنزانته بمساحة 12 متراً مربعاً، بسرير مثبت في الجدار، مكتب صغير من خشب فاتح، حمام، براد، ومطبخ صفيح كهربائي وجهاز تلفزيون ثابت:
"أُغلِقَ البابُ خلفي على وقعِ صليلِ الأقفال. كنتُ أخيراً وحيداً". (ص34)
ثم يبدأ الكاتب في الحديث عن يومياته كسجين، في انتظار الزائرة المفضلة زوجته كلارا، وأبنائه، ومحاميه، وكيف يقضي يومه من التفكير في التجربة الدينية إلى الرياضة إلى عدم الظهور بالضعف، وفي كل ذلك يحاول أن يتأقلم مع هذا المحيط الجديد، ثم يتوقف عند حالة الاستنفار التي يعرفها السجن، إذ يتوصل النزلاء بفيديو على هواتفهم النقالة يدعو إلى الانتقام للقذافي بالتخلص من ساركوزي السجين رقم 320535.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين يشرع ساركوزي في كتابة "يوميات سجين" ويجلس أول مرة أمام الورقة البيضاء على مكتب بئيس يتذكر مكتب الجنرال ديغول في الإليزيه الذي كان مكتبه خلال خمس سنوات في عهدته الرئاسية.
ينطلق الكتاب في فصول طويلة نسبياً يستعيد فيها وقائع محاكمته ولحظة صدور الحكم عليه بخمس سنوات مع أمر التنفيذ، وها هنا يقوم بمحاكمة للمحكمة وللقاضية التي أصدرت الحكم، ثم ينتقل لنقد مواقف الطبقة السياسية الفرنسية من هذا القرار، قرار السجن، الذين معه والذين ضده والذين صمتوا وظلوا في المنطقة الرمادية (إيمانويل ماكرون، فرانسوا هولاند، مارين لوبن، ميلانشون، سيغولين روايال...)، ثم ينتقل للحديث عن الإعلام وعن الصحافيين الذين هاجموه والذين دافعوا عنه، ويستعرض صدى سجنه في أوساط العالم من الأفارقة وحكام الشرق الأوسط، ويقارن حاله بحال الرئيس البرازيلي لولا وبالجندي دريفوس الذي قضى في هذا السجن بعض الوقت قبل أن ينقل إلى جهة أخرى بعيدة.
بين الحين والآخر يتحرر الكتاب من هذه العودة إلى الوقائع التاريخية والسياسية ليعود إلى يومياته كسجين، قراءاته خاصة "رسالة إلى رهينة" لأنطوان سانت إكزوبيري Lettre à un otage d’Antoine de Saint-Exupéry، ويعرض علينا أيضاً رسائل التعاطف والمساندة التي تصله يومياً بالمئات حتى الرواية الحاصلة على الغونكور وصله منها 30 نسخة من مواطنين مجهولين، ومن بين هذه الرسائل رسالة كريستالينا غورغيفا مديرة صندوق النقد الدولي وهي رسالة مع صورة للوحة في كنيسة بصوفيا تدعو له بالحرية وتصلي وأخرى من عائلة جاك شيراك من زوجة بيرنادت وأسرته.
وينتهي الكتاب بوصف تلك الليلة الأخيرة، أي الليلة الأخيرة للسجين الرئيس في زنزانته: كما يلي:
"مرّت الليلة سريعاً. كنت مستعداً منذ السادسة والنصف صباحاً هذا الإثنين. كان لا بدّ من انتظار ثلاث ساعات أخرى قبل الجلسة. هذا الزمن الذي يسبق المواجهة كان دائماً يثقل عليّ، مهما كانت طبيعة الرهان، قضائية كانت أم غير ذلك".
يضيف الكاتب:
"عند الخروج من السجن، كان المشهد مهيباً بقدر ما كان عند الدخول. عشرات الكاميرات والمصوّرين والصحافيين كانوا في انتظارنا. فتح لنا درّاجو الشرطة الوطنية الطريق. كنت قد دخلت السجن بصفة رئيس دولة، وغادرت بالصفة نفسها. عبرنا باريس على إيقاع هذا الموكب الرسمي". (ص 209)
حين نقرأ كتاب "يوميات سجين" لنيكولا ساركوزي نخرج بشيء أساسي، بغض النظر عن محتواه، بأن المجتمع الفرنسي والغربي بشكل عام لا تزال سلطة الكتاب فيه حاضرة وقوية، فلا يزال الكتاب هو الطريق والوسيلة المثلى لتوصيل خطاب ما، فأن يلتجئ رئيس دولة سابق إلى تأليف كتاب للإفضاء بأمر ما أو الحديث عن تجربة ما، مرة أو حلوة، فهذا يدل على أن الكتاب لا يزال له سحر في التأثير وهو أكثر عمقاً في ذلك مقارنة مع الإعلام المرئي أو المكتوب، وكأن مخاطبة الناس عن طريق الكتاب هي مخاطبة مفكر فيها جيداً، وتحمل من العمق والمسؤولية ما لا تحمله وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التي لها صورة قلقة وعابرة في ذهن المتلقي.
وأنا أنتهي من قراءة "يوميات سجين" لساركوزي وهو الذي قضى ثلاثة أسابيع في السجن، وخرج منها بكتاب من 216 صفحة، أتساءل لماذا لا يكتب الرؤساء والسياسيون الكبار عندنا تجاربهم مع السجن وهم كثر، وقد قضى بعضهم سنوات كثيرة من عمره؟