Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الجرتق السوداني" فأل خير وحصن من العين

أصبح تراثاً عالمياً بعد إدراجه على قائمة "اليونيسكو" للتراث غير المادي للبشرية في زمن الحرب

أدخلت طقوس "الجرتق" الزواج السوداني العالمية من أوسع أبوابها (حسن حامد)

 

ملخص

يصادف هذا الإنجاز بحسب متخصصين في التراث أهمية كبرى في ظل ما يواجهه التراث الثقافي السوداني من تحديات بالغة بسبب الحرب، الأمر الذي يجعل الاعتراف الدولي خطوة لدعم الجهود المبذولة لحمايته.

على رغم قسوة الحرب وظلالها السلبية التي شكلت عبئاً ثقيلاً على المجتمعات السودانية، يتواصل التمسك بالعادات والتقاليد المتجذرة تاريخياً رافضة الاندثار، لا سيما طقوس "الجرتق" في الزواج السوداني الذي دخل العالمية من أوسع أبوابها بعد أن أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" ضمن قائمتها التمثيلية للتراث غير المادي للبشرية، وذلك في ضوء اجتماعات الدورة الـ20 للجنة "اليونيسكو" الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي التي تقام فعالياتها في نيودلهي بالهند خلال الفترة من 8 إلى الـ13 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري.

ويعد هذا التسجيل اعترافاً رسمياً بالأهمية الثقافية والاجتماعية لطقس "الجرتق" بوصفه أبرز الموروثات المرتبطة بالهوية السودانية، إلى جانب ما يحمله من دلالات ضاربة في عمق الوجدان الشعبي، إذ يجسد رموزاً تتمثل في البركة والحماية والخصوبة، ويجمع عناصر مادية مثل الذهب والحنة والحرير والعطور السودانية التقليدية، ومعانٍ روحية تعزز الروابط الأسرية والتماسك المجتمعي.

جاءت المشاركة في هذا المحفل بعد إعداد ملف بواسطة المجلس القومي السوداني للتراث الثقافي وترقية اللغات القومية بالتنسيق مع مركز بيت السودان ومكتب "اليونيسكو" في الخرطوم، وفق متطلبات اتفاقية 2003 لصون التراث الثقافي غير المادي وبمشاركة واسعة من المجتمعات الحافظة لهذا التراث في جميع أنحاء البلاد، حيث يعد الاعتراف الدولي الثاني في الأعوام الأخيرة بعد تسجيل الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف في ديسمبر لعام 2023 .

يصادف هذا الإنجاز، بحسب متخصصين في التراث، أهمية كبرى في ظل ما يواجهه التراث الثقافي السوداني من تحديات بالغة بسبب الحرب، الأمر الذي يجعل الاعتراف الدولي خطوة لدعم الجهود المبذولة لحمايته.

 

في الأثناء أكد الأمين العام للمجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات القومية أسعد عبدالرحمن أن تسجيل "الجرتق" ضمن قائمة التراث العالمي يعكس صمود المجتمعات وتمسكها بتراثها، بينما يعد خطوة محورية لضمان نقل هذا الموروث إلى الأجيال القادمة بوصفه جزءاً أصيلاً من الهوية الثقافية السودانية والذاكرة الإنسانية المشتركة.

لاحقاً، قال وزير الثقافة والإعلام والسياحة خالد الأعيسر، إن الوزارة ستواصل جهودها لتعزيز حضور التراث السوداني في المحافل الدولية والحفاظ على الهوية الثقافية السودانية، مشيراً إلى أن إدراج "الجرتق" ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي خطوة تعكس التقدير العالمي للتراث السوداني والحفاظ على ملكية السودان وشعبه لهذا الموروث، مما يؤكد تمسك أبنائه بتراثهم الأصيل ويعزز حضور الهوية الثقافية السودانية في المحافل الدولية. وعدّ هذا التكريم بمثابة اعتراف بجمال الروح السودانية وعمق الإرث الثقافي الذي يحمله الشعب جيلاً بعد جيل.

موروث أصيل

في السياق، قالت الباحثة والمهتمة بالتراث السوداني ليلى سلطان إن "طقوس (الجرتق) موروث أصيل يعد من أهم مراسم الزواج السوداني، وكان يقام عادةً في اليوم الثاني من فعالية الزواج وسط أجواء احتفالية تتخللها الأهازيج التقليدية التي ترددها الفتيات والنساء، إذ يرتدي العريس جلابية بيضاء مطرزة بالون الأحمر ويتلفح بثوب طويل يُسمى (السرتي)، بينما تظهر العروس بثوب (الجرتق) الأحمر، وتتزين بالحلي الذهبية من رأسها إلى قدميها، والمعروفة شعبياً بالجدلة".

وأضافت سلطان "يجلس العروسان على سرير مصنوع من الخشب يطلق عليه العنقريب وتطلى قوائمه باللون الأحمر، ويغطى بسجادة مخملية يشترط أن تكون حمراء أيضاً، بينما تجهز صينية الجرتق بواسطة نساء كبار في السن ضمن عائلة العروس التي تحوي أدوات مصنوعة من الفخار يوضع بداخلها العطور السودانية التي تعكف النساء على تجهيزها في المنزل مثل عجينة الدلكة المصنوعة من دقيق الذرة أو الدخن الممزوجة بالمسك والصندل، إضافة إلى الضريرة التي توضع على رأس العروسين، وهي عطور جافة من المحلب والصندل تعد أيضاً رمزاً للفأل، فضلاً عن أدوات رمزية مثل السيف والسوط، حيث يحملان معاني القوة والعزة". وتابعت "يشهد حفل (الجرتق) نفث اللبن، إذ يحاول الشريكان بخه (رشّه) على وجه بعضهما كإشارة إلى النقاء وبداية حياة جديدة مليئة بالخير والبركة وسط حماسة وتصفيق الحضور، ويتخلل ذلك غناء على أنغام الأغاني القديمة المعروفة بالسيرة ".

 

وأشارت الباحثة في التراث السوداني إلى أن "المجتمعات السودانية، على رغم ظروف الحرب والتغييرات الاجتماعية، فإنها تتمسك بعادة الجرتق المتوارثة التي تربط الأجيال بماضيها الذي يجمع بين الفرح والتقدير للعائلات، وعلى رغم دخول إضافات جديدة فإن جوهر (الجرتق) يظل كما هو يحكي قصة تراث ينبض بالحياة مهما تغلبت ظروف الحياة".

رمزية ودلالات

من جانبها أشارت حلا عبدالرحمن صاحبة محال لطقوس" الجرتق" إلى أن "أهم ما يميز (الجرتق) السوداني العروس المخصبة بالحناء وهي تتلألأ بالحلي الذهبية وكأنه تتويج ملكة في ليلة العمر متوشحة بالثوب الأحمر الغاني، وتغطى بالقرمصيص، وهي قطعة من القماش ذات ألوان زاهية تعبر عن رمزية الحياة، حيث تفوح منها رائحة العطور السودانية التقليدية، ويلف حول خصرها الرحط، وهو عبارة عن خيط من الحرير تتشابك فيه قطع الحلوى، إذ يقوم العريس بقطعه ونثر الحلوى والبلح على المعازيم، ومن يتمكن من محتواه يكون فألاً عليه". أما "جرتق" العريس فهو يشتمل على ثوب السرتي وشريط أحمر يتوسطه هلال ذهبي يوضع على جبينه، علاوة على الضريرة التي توضع على رأس العروسين، بخاصة العريس، إذ إن العروس يكون رأسها مغطى بالحلي الذهبية، ويكون ذلك وسط إيقاع الدلوكة وزغاريد النساء.

وأوضحت عبدالرحمن أن "(الجرتق) لا يقف عند الزواج، بل يشمل الختان، وعند بعض القبائل السودانية الولادة، إذ لا يطبق بشكل شائع كما معروف في الزواج، وفي كلتا الأحوال يعبر عن الحماية من الحسد ودفع الشر".

ومضت صاحبة المحال في القول "في تقديري على رغم تحديث العادات والتقاليد والتوجه إلى إقامة حفلات الزواج في القاعات أصبح الجرتق يقام عقب انتهاء الحفل، فضلاً عن إضافة أدوات جديدة تغلبت على صينية (الجرتق) واندثار العنقريب، إلى جانب تفاصيل أحيكت على القرمصيص التقليدي بوضع الجنيهات الذهبية وأحياناً النقود أو أنواع من أحجار الزينة، لكن تتفق المجتمعات السودانية في المحافظة على هذه الطقوس التي تطفي على الزواج السوداني ميزة خاصة".

إنجاز عالمي

على صعيد متصل أوضح الباحث المجتمعي أيوب عبداللطيف أن "(الجرتق) السوداني متأصل في عمق الوجدان الشعبي، إذ تمتد جذوره إلى فترة حضارة مروى، ويجسد رموزاً تدخل في إطار البركة والحماية والخصوبة، فضلاً عن عناصر مادية مثل الحناء والذهب والحرير والعطور السودانية التي تعدها نساء الحي تمتد لأيام عدة، منذ تحديد موعد العرس وإحضار ’الشيلة’، وهي مستلزمات تتعلق بمناسبة الزواج من مواد استهلاكية وعطور جافة مرفقة بالمال، وبدورها تقوي الروابط الأسرية بين أهل العروسين". وذكر أن "هناك جدلاً حول أصل كلمة ’الجرتق’، إذ يذهب البعض إلى أنها نوبية، ورُصدت لها معانٍ، فهي زينة تلبس عند الزواج أو الختان، إلى جانب المعتقدات الدينية، التي تدل بعض متعلقاتها كحصن من العين والسحر والحسد والشر وفقاً لما جاء في كتاب مقالات عن الفولكلور السوداني للكاتب نصر الدين سليمان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومضى أيوب قائلاً "لـ(الجرتق) أدوات مصنوعة من مواد مختلفة، فنجد قديماً صينية الجرتق تتكون من النحاس وتحمل أدوات تؤدي دوراً بارزاً في هذا الطقس، ومنها ما هو فخاري مثل ’الحق’، بمقاسات مختلفة ويوضع بداخله العطور الجافة مع عدد من الأواني تعرف باسم ’الكورية’ تستخدم لحفظ زيت الطيب والبخور بأنواعه المختلفة، بخاصة بخور اللبان المسبع لمنع العين والصندل، لا سيما أن من أساسات (الجرتق) السيف أو السوط الذي يحمله العريس، وهما يحملان رمزية تدل على القوة والعزة في هذا اليوم المميز، وعند بعض القبائل جريد النخل، إذ إن دلالاته تعد غريبة يرمز من خلاله إلى الخصوبة والنماء".

وزاد "من ضرورات (الجرتق) أيضاً الحرير الأحمر، وهو عبارة عن خيوط تتوسطها خرزات في الغالب تكون زرقاء تعصب على اليد اليمنى للعروسين، إصافة إلى عقد السوميت وسبحة اليسر المنظومة من المرجان بحيث تحتوي على 99 حبة، ولها دلالات تعبر عن الفأل والفرح، علاوة على خاتم الفضة الذي يحتوي على حجرين (فص الدم وعظم السمك) الذي يرمز للخصوبة والبقاء".

وأشار الباحث المجتمعي إلى أن "(الجرتق) السوداني أصبح من العادات والتقاليد المعترف بها عالمياً، ويشارك به في المحافل والمهرجانات الدولية، ويحظى باهتمام واسع من المشاركين حتى أدرج ضمن القائمة العالمية للتراث والثقافة".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات