Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النزوح والشتات يبعثران ملامح الهوية السودانية

في المخيمات المنتشرة في الدول المجاورة تدور نقاشات عميقة تهدف إلى إعادة إنتاج الانتماء إلى الوطن وفق شروط جديدة

يقول الكاتب أيمن محمد "السودانيون في الخارج لا تجمعهم هوية واحدة، فالسوداني القادم من دارفور لا يعامَل بالطريقة نفسها التي يُعامل بها القادم من الخرطوم أو الشمالية" (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص

رأى الكاتب السوداني أيمن محمد أن الهوية السودانية تعيش، اليوم، حالة إعادة تعريف قسري فرضتها الحرب والشتات، مضيفاً أن "الهوية ليست مجرد فكرة ثقافية نحتفظ بها داخل رؤوسنا، بل تجربة اجتماعية تتشكل في الحياة اليومية، فحين يغادر السوداني بلده، طوعاً أو قسراً، يجد نفسه مطالباً بالإجابة على أسئلة لم تكن مطروحة من قبل، مَن أنا في هذا المكان؟ وما الذي يربطني بالسوداني الآخر الذي لا يشبهني؟ وكيف أشرح ذاتي للآخرين؟".

بعد أكثر من عامين من اندلاع حرب السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع" أعاد النزوح والشتات، سواء داخل البلاد أو خارجها، رسم ملامح الهوية السودانية، وسط تشظٍّ جغرافي وانقسام اجتماعي غير مسبوق.

ففي مخيمات النزوح المنتشرة في حدود الدول المجاورة، وفي مدن اللجوء تدور نقاشات عميقة تهدف إلى إعادة إنتاج الانتماء إلى الوطن وفق شروط جديدة تتقاطع فيها اللغة والمنطقة والعرق والانتماء السياسي وغيره، إذ أصبح السؤال عمن هو السوداني؟ واقع يفرض نفسه في كثير من النقاشات الدائرة بين الأفراد والجماعات السودانية.

 

تأكل تدريجي

في السياق، رأى الكاتب السوداني أيمن محمد أن الهوية السودانية تعيش، اليوم، حالة إعادة تعريف قسري فرضتها الحرب والشتات، مضيفاً أن "الهوية ليست مجرد فكرة ثقافية نحتفظ بها داخل رؤوسنا، بل تجربة اجتماعية تتشكل في الحياة اليومية، فحين يغادر السوداني بلده، طوعاً أو قسراً، يجد نفسه مطالباً بالإجابة على أسئلة لم تكن مطروحة من قبل، مَن أنا في هذا المكان؟ وما الذي يربطني بالسوداني الآخر الذي لا يشبهني؟ وكيف أشرح ذاتي للآخرين؟".

تابع محمد "السودانيون في الخارج لا تجمعهم هوية واحدة، فالسوداني القادم من دارفور لا يعامَل أو يُعرّف بالطريقة نفسها التي يُعامل بها القادم من الخرطوم أو الشمالية. حتى بين السودانيين أنفسهم تُعاد قراءة الهوية على أسس جهوية أو لغوية أو طبقية. وبالتالي، نحن أمام تآكل تدريجي لفكرة الهوية السودانية كمظلة شاملة، مقابل صعود هويات فرعية تبحث عن تمثيل أو حتى حماية"، وأضاف محمد "هذا لا يعني أن الهوية الوطنية انتهت، لكنها فقدت مركزيتها لمصلحة مرجعيات أكثر خصوصية. وما يثير القلق هو أن كثيرين باتوا يتعاملون مع انتمائهم كأمر تكتيكي وأداة للمرور، أو البقاء، أو التفاهم لا كقيمة متجذرة"، وختم الكاتب السوداني "الشتات ليس فقط إعادة توزيع جغرافي للسودانيين، بل هو أيضاً معمل لصياغة هوية جديدة، والسؤال الأهم ليس من هو السوداني؟ بل من يملك الحق في تعريفه؟".

إثبات الذات

وقالت الباحثة في قضايا الهوية والانتماء هيفاء عبد الغني إن "الهوية ليست دائماً ما نعتقد أنها مجرد ثوابت أو موروث، فأحياناً تظهر المجتمعات أقوى ملامحها عندما تُنتزع من بيئتها الأصلية". وأضافت "في حال السودانيين، أعتقد أن وجودهم في المنافي لم يفرّقهم كما يشاع، بل دفعهم لإعادة اكتشاف عناصر مشتركة، كاللغة، والعادات اليومية، وحتى المطبخ، بوصفها أدوات لإثبات الذات والتواصل"، وزادت عبد الغني "الانقسامات وسط المجتمع السوداني موجودة منذ ما قبل الحرب، وهي ليست نتيجة للشتات بل كُشِف عنها في ظروف جديدة. ما يحدث ليس تفتتاً للهوية، بل إعادة ترتيب طبيعي في مجتمع يواجه أزمة. لكن في المقابل، نرى أن كثيرين من السودانيين، في الخارج، باتوا أكثر وعياً بأن هويتهم مهددة، وبالتالي أكثر حرصاً على التعبير والدفاع عنها، وقالت أيضاً "نجد مثلاً في مجموعات اللاجئين في الدول المختلفة أن الأطفال يتعلمون اللغة العربية السودانية في المنزل، حتى إن كانت لغة الدراسة أجنبية، وهذا دليل على أن جذور الهوية لا تُمحى بسهولة، بل تتخذ أشكالاً مرنة"، وختمت الباحثة في قضايا الهوية والانتماء "صحيح أن الشتات يطرح تحديات، لكنه أيضاً فرصة للتعلق أكثر بهويتنا، نحن نشهد بدايات تشكّل هوية سودانية عابرة للحدود، وهو تطور لا يعني الانفصال عن الوطن، بل إعادة ربطه بالواقع الجديد".

أداة تعبئة

في حين أشارت المتخصصة في مجال الإعلام والهوية زهور طه إلى أن غياب المؤسسات الإعلامية الوطنية أتاح الفرصة للناشطين والهواة في مواقع التواصل الاجتماعي لملء هذا الفراغ، والمشكلة أن معظمهم مال نحو الخطاب المشحون بالعاطفة والانقسام، "ونجد أن الهوية هنا لا تُبنى على الحوار، بل على الترندات، وعلى من يملك الصوت الأعلى، لا الحجة الأقوى".

وعن أثر الخطاب الإعلامي على وعي الأفراد بأنفسهم قالت طه "المواطن السوداني اليوم قد يرى نفسه خائناً في عين مجموعة، وبطلاً في أخرى، فقط لأن خوارزميات الإنترنت قررت ذلك، وبالتالي لم تعد الهوية نتاج التجربة الشخصية أو التاريخ المشترك، بل أحياناً نتاج ما يُعاد تكراره في الهاتف المحمول"، وتابعت المتخصصة في مجال الاعلام والهوية "الخطير في الأمر أن كثيراً من هذه السرديات تغذيها جهات سياسية أو مسلحة لها أجنداتها، ما يعني أن خطاب الهوية أصبح أداة تعبئة لا أداة فهم. وهذا يُفقد السودانيين فرصة التفاهم حول أنفسهم، ويكرّس صوراً نمطية تستخدم لاحقاً في التمييز وحتى في العنف الرمزي والمادي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إقصاء الآخر

من جانبه، رأى الباحث في علم الاجتماع السياسي نادر عيسى أن "ما يجري داخل السودان ليس مجرد حرب عسكرية، بل حال إعادة توزيع قسري للانتماءات"، ولفت إلى أن "الهوية الوطنية ظلت هشة تاريخياً، وانهارت بشكل غير معلن بعد اندلاع الحرب، فالأفراد باتوا يعرّفون أنفسهم بحسب مناطقهم، أو الجهات التي تسيطر على محيطهم، وهذا التحول ليس بريئاً ولا موقتاً"، وبين عيسى أن "الصراعات الجهوية والقبلية ليست جديدة على السودان، لكنها كانت تدار، في السابق، تحت مظلة وطنية أو في سياقات سياسية يمكن احتواؤها. أما اليوم، ومع تفكك مؤسسات الدولة، لم يعد هناك مركز موحّد، فكل جهة تصيغ تعريفها الخاص للهوية وتقصي الآخر"، وواصل "حتى في المدن الكبرى مثل الخرطوم التي كانت تمثّل نقطة التقاء لهويات متعددة أصبح الخطاب فيها مناطقياً صريحاً، وأحياناً عدائياً، وهذا مؤشر إلى أن التشظي لم يعد جغرافياً فقط، بل أصبح اجتماعياً وأخلاقياً". ونوه الباحث في علم الاجتماع السياسي إلى أن "إعادة بناء الهوية الوطنية في الداخل تتطلب أكثر من وقف إطلاق النار، فضلاً عن حاجتنا إلى مشروع سياسي يعترف بالتعدد من دون أن يسمح له بابتلاع فكرة الوطن".

فجوة وشرخ

في سياق متصل، أوضحت المتخصصة في علم النفس التربوي هالة عثمان أن "الأطفال الذين تشكّلت طفولتهم وسط الحرب أو في بيئات اللجوء يعيشون فجوة هوية قد تنمو لتصبح شرخاً نفسياً واجتماعياً"، وتابعت عثمان "الطفل السوداني في هذه المرحلة لا يمتلك سردية مستقرة عن بلده، ولا يعرف رموزه، ولا يملك ذاكرة مدرسية أو مجتمعية تشكّل شعوراً بالانتماء. هذا فراغ خطير وهنا يبرز دور الأسرة، لكن أن تقوم بهذا الدور، وحدها، أمر غير كافٍ لأن الانتماء لا يبنى فقط في المنزل، بل عبر المدرسة، والحي، والإعلام، وحتى التفاعل مع الدولة، وحين تغيب هذه البُنى يصبح الطفل معلقاً بين هويات موقتة، ويتبنى ما يجده من محيطه، والذي قد يكون مشوشاً أو مشبعاً برؤية الآخر عنه"، وواصلت المتخصصة في علم النفس التربوي "نشهد اليوم مراهقين يعرفون أكثر عن ثقافات الدول المستضيفة مما يعرفون عن السودان، ليس لأنهم اختاروا ذلك، بل لأن السودان، كمفهوم وواقع، غائب عن حياتهم اليومية، لذلك إذا لم ينتج السودانيون سردية جامعة تصل إلى هؤلاء الأطفال حيثما كانوا، فإننا نخاطر بفقدان جيل كامل من الهوية".

المزيد من متابعات