ملخص
يعتبر كثير من الباحثين اليوم أن جهاز كشف الكذب أو البوليغراف أداة يمكن استخدامها بحذر شديد داخل التحقيق، لكنها بعيدة من أن تكون معياراً علمياً لإيجاد الحقيقة. وهناك من يعتبره أقرب إلى "أداة نفسية" منه إلى جهاز قياس موضوعي، خصوصاً حين يفشل في قراءة الجسد، أو في التفريق بين خوف البريء وارتباك الكاذب.
الجهاز قد يخطئ في تفسير التوتر الطبيعي والقلق والصدمة على أنه دليل كذب، بينما ينجح بعض الكاذبين المحترفين أو أصحاب الاضطرابات النفسية الخاصة في اجتياز الاختبار من دون ارتباك ظاهر.
انطلق التحقيق مع الأميركي كيفن سويت في مركز الشرطة في أوكلاهوما، وقد وصل جسده بالأسلاك إلى جهاز أمامه تمر على شاشته خطوطاً متعرّجة. كان الموقوف الخاضع لجهاز كشف الكذب المتَّهم الأبرز في قضية اختفاء خطيبته آشلي تايلور.
في تلك الجلسة طرح عليه المحققون أسئلة عن ليلة اختفائها ومكان وجوده وعن آخر مرة رآها فيها، وكان المحققون لا يستمعون إلى إجاباته قدر ما ينظرون في خطوط الجهاز أمامهم الذي يراقب دقات قلبه وحركة تنفّسه ورجفة يديه وتعرّق جلده. عندما انتهى الاختبار، توصل المحققون إلى وجوب تفتيش قطعة أرض يملكها والد سْوِيت حيث وجدوا بقايا الفتاة، وفوارغ رصاص من عيار 0.40، تطابقت مع سلاح استخدم في جريمة سابقة قتلت فيها طفلتان وبقيت لأعوام من دون كشف القاتل، وقد تم كشفها بالصدفة من خلال هذه الجريمة.
بعد هذه القضية تم اعتبار جهاز كشف الكذب بأنه آلة تساعد على كسر جمود التحقيق عندما تندر الأدلة التقليدية. لكن الجهاز ذاته كان سبباً لفشل الكشف عن جرائم أخرى. إذ تبين أن المجرم المدرب يمكنه أن يكذب على جهاز كشف الكذب في حال تمكن من إخفاء العوارض الجسدية التي تظهر حين يكذب الإنسان، وهي نبض القلب وضغط الدم وسرعة وعمق التنفّس واستجابة الجلد الكهربائية الناتجة من التعرّق الخفيف. لهذا يمكن اعتبار جهاز كشف الكذب أو البوليغراف، مجموعة تحسسية تقيس ثلاثة مؤشرات رئيسة أثناء الاستجواب.
في سياقات معيّنة من أنواع الكذب، أثبت الجهاز أنه قادر على أن يكون أداة مفيدة، لكنه في قضايا أخرى أثبت العكس. ففي ثمانينيات القرن الماضي، كان غاري ريدجواي واحداً من المشتبه فيهم في سلسلة قتل مروّعة لنساء في ولاية واشنطن الأميركية، عُرفت لاحقاً باسم جرائم "قاتل النهر الأخضر". خضع ريدجواي لاختبار كشف الكذب وخرج منه "نظيفاً"، فخفّ الضغط عنه، وبقي حراً طيلة أعوام. بعد نحو عقدين، قاد تطور فحوص الحمض النووي الشرطة إليه من جديد، فاعترف بقتل عشرات النساء، وأصبح واحداً من أكثر القتلة المتسلسلين دموية في التاريخ الأميركي.
حقيقة أن رجلاً بهذا القدر من الخبرة في القتل استطاع عبور جهاز كشف الكذب من دون أن يُكشف، ظلت مثالاً على أن الجهاز يمكن أن يُخدَع، وأن الكذب ليس دائماً مقترناً بالارتباك الجسدي الظاهري.
في عالم التجسس، كانت القصة الأكثر إحراجاً للأجهزة التي تؤمن بالبوليغراف. فقد نجح الجاسوس الشهير ألدريتش آمْز، الذي نقل أسراراً حساسة من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى الاستخبارات السوفياتية، بالمرور في اختبارات كشف الكذب الدورية. وفي رسالة كتبها لاحقاً من سجنه، تحدّث عن هذه الاختبارات بثقة واستهزاء، بوصفها عقبة نفسية كان يجب أن يتعلّم كيف يسترخي أمامها، لا أكثر. النتيجة الواقعية أن جهازاً يفترض أنه يحمي أهم أسرار الدولة، فشل في التقاط واحد من أخطر الجواسيس لأعوام طويلة.
الأخطر من الفشل في كشف الجناة هو أن يتحوّل الجهاز نفسه إلى أداة ظلم للمتهمين، كما حدث في قضية خوان ريفيرا في ولاية إيلينوي الأميركية، والذي كان متهماً بقتل طفلة عمرها 11 سنة. لم يكن هناك دليل مادّي يربطه بالجريمة، لكن الشرطة لجأت إلى جهاز كشف الكذب ضمن سلسلة طويلة من التحقيقات. خضع ريفيرا لاختبارين أو أكثر، وقيل له إن النتائج تُظهر أنه يكذب أو يخفي شيئاً. تحت ضغط تلك الجلسات والاستجوابات التي تلتها، انتهى به الأمر إلى التوقيع على اعتراف متناقض. بعد 20 عاماً من سجنه، أظهرت فحوص الحمض النووي أن السائل المنوي الذي عُثر عليه في جسد الضحية ليس له، وأُسقط الحكم عنه.
سيرة قصيرة لجهاز كشف الكذب
ظهرت فكرة جهاز كشف الكذب في أواخر القرن الـ19، ثم أخذت شكلاً أكثر وضوحاً في عشرينيات القرن الـ20 في الولايات المتحدة، حين حاول باحثون في كاليفورنيا مساعدة الشرطة على إدارة التحقيقات المعقّدة عبر أداة "علمية".
في أواخر القرن الـ19 بدأ علماء مثل تشيزاري لومبروزو بوضع فكرة مثل هذا الجهاز، لكن أول جهاز يمكن اعتباره مكتملاً صمّمه جون لارسن في كاليفورنيا في أوائل عشرينيات القرن الـ20، ليتعاون مع الشرطة في تتبّع المشتبه بهم في القضايا الجنائية. لاحقاً جاءت التحسينات التقنية على يد ليونارد كيلر وغيره، فتحوّل الجهاز من أداة تجريبية في المختبر إلى وسيلة تُستخدم في أقسام الشرطة وبعض الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. وفي الأعوام الأخيرة عاد التقدير لهذا الجهاز لأن بعض الوكالات الأميركية وسّعت استخدامه في التحقيقات الداخلية وملاحقة تسريب المعلومات الحساسة، سواء في مكتب التحقيقات الفيدرالي أو في وزارة الأمن الداخلي، في سياق ما يشبه "مطاردة داخلية للولاء" بقدر ما هي بحث عن الحقيقة.
في العقد الثالث من القرن الحالي، بات يُستخدم جهاز كشف الكذب في سياقات عدة، ففي الولايات المتحدة، تستعمله أجهزة أمنية واستخباراتية في اختبارات التوظيف الأمني والتحقيقات الداخلية وأحياناً في تضييق دائرة الأشخاص المشبوهين في ارتكابهم جرائم خطيرة. أما في معظم الدول الأخرى، فيقتصر استخدام هذا الجهاز في قضايا جنائية محددة، أو في فحوصات تتعلق بالفساد أو تسريب المعلومات. ومعظم الأنظمة القضائية المتقدمة لا تقبل نتائجه كدليل حاسم في المحاكم، بل تعتبره أداة مساعدة يمكن أن تدعم تحقيقاً أو تشكك في رواية ما، لكنها لا تكفي وحدها للإدانة أو التبرئة.
وجاء في تقارير بحثية مستقلة، بما فيها مراجعات علمية أميركية قديمة وحديثة، أن دقة الجهاز في الواقع الميداني أقل بكثير مما يروّج له أنصاره، وأن نسب الخطأ وعلى رأسها الأخطاء المسمّاة "الإيجابيات الكاذبة" أي اتهام الصادق بالكذب، ليست قليلة.
بعض الدراسات الحديثة تذهب أبعد من ذلك، وتعتبر أن الاعتماد على نتائج جهاز كشف الكذب قد يكون "أسوأ من رمي قطعة نقد في الهواء"، لأن الجهاز قد يخطئ في تفسير التوتر الطبيعي والقلق والصدمة على أنه دليل كذب، بينما ينجح بعض الكاذبين المحترفين أو أصحاب الاضطرابات النفسية الخاصة في اجتياز الاختبار من دون ارتباك ظاهر.
ما هو الكذب؟
الكذب ليس أن تقول شيئاً تعرف أنه غير صحيح فقط، بل وأن تخفي جزءاً من الحقيقة، وأن تستخدم لغة مموّهة كي لا تقول "نعم" ولا تقول "لا" أيضاً.
من المنظور النفسي، يتولّد الكذب غالباً كوظيفة دفاعية كالطفل الذي يكذب ليهرب من العقاب، والراشد الذي يكذب ليحافظ على مصالحه أو لحماية نفسه وغيره. لهذا تتغيّر اللغة والظروف التي يستخدم فيها الكذب، لكن البنية نفسها تبقى، أي الكذب لحماية الذات، أو الكذب لحماية العلاقة، أو لحماية مكانة اجتماعية أو حماية أملاك وماديات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حياتنا اليومية، هناك مستويات كثيرة للكذب. وجميعنا نعرف الكذبة البيضاء ونتواطأ اجتماعياً على قبولها، وقد نعتبرها أحياناً مجاملة أو طريقة لتقديم وعد نعرف أنه لن يتحقق بالكامل، أو نستدعيها لتقليل متعمّد من حجم مشكلة صحية لمريض، أو للتهرب من رواية القصة الحقيقية الكاملة كي لا نؤذي آخرين. فالكذبة البيضاء تبدو وسيلة في المسائل البسيطة وغير الجرمية لتسهيل العلاقات الاجتماعية أو لتقليل الأضرار التي قد تسببها الحقيقة. وهناك مقابلها الكذب الثقيل الذي يقطع العلاقات حين ينكشف في حالات مثل الخيانة العاطفية أو في سرقة موصوفة، أو عند تقديم شهادة زور أمام القضاء. وهناك نوع ثالث من الكذب أكثر مراوغة، أي أن يكذب الإنسان على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين، فيعيد ترتيب ذكرياته بطريقة تجعل قصته التي اخترعها هي الحقيقة بعدما صدّقها هو نفسه.
اجتماعياً وسياسياً، لا يُسمّى الكذب باسمه في حالات كثيرة. ففي عالم الإعلام والدعاية والعلاقات العامة، يختبئ الكذب وراء عبارات تمت صياغتها بطرق ملتوية، كجعل أحد السياسيين الفاسدين صاحب أخلاق عالية، أو بتقديم رواية لحدث معين بطرق تخفف من حجمه أو تضخّمه لغايات مختلفة. الدعاية والإعلان يلعبان الدور نفسه بتجميل ما ليس جميلاً، أو برفع قيمة ما لا قيمة له بحسب طريقة تقديمه إعلانياً وإعلامياً للجمهور. وبالطبع فإن هذا النوع من الكذب لا يمكن كشفه في الجهاز، ويمكن أن يصير مقبولاً اجتماعياً كجزء لا يتجزأ من الخدمة التي يؤديها للحملة الإعلانية أو السياسية أو الإعلامية. فالمحامون يوصفون بالكذب في معظم دول العالم، وقد بات وصفهم هذا طبيعياً تقريباً كأنه جزء من مهنتهم.