ملخص
تتزايد مخاوف الروائيين من أن يطيح الذكاء الاصطناعي التوليدي بمهنـتهم، بعدما بات قادراً على إنتاج روايات ونصوص كاملة وفتح باب لأسواق احتيالية تعتمد محتوى سريعاً بلا قيمة. وبينما يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى الإبداع الحقيقي، تكشف الظاهرة اندفاع الجمهور نحو الكتابة السطحية، ما يدفع بعض المتخوفين إلى توقع مستقبل شفهي للحكايات يعيدها إلى أصلها الأول.
في غضون أعوام قليلة فقط أصبح الرأي السائد أن مؤلفي الروايات مهددون بالزوال أمام السيل الجارف، وليس في ذلك أية مبالغة، من "الذكاء الاصطناعي التوليدي" generative AI الذي يشن هجوماً حقيقياً على مهنتهم، فبحسب استقصاء حديث نهضت به "جامعة كامبريدج" البريطانية، تبين أن أكثر من نصف الروائيين الـ 258 المنشورة أعمالهم في بريطانيا، إضافة إلى 74 شخصية بارزة في صناعة الكتب، يعتقدون أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي قادرة على استبدال أعمالهم برمتها، ويشعر كتّاب الرومانسية والإثارة والجريمة بأنهم الأكثر عرضة للخطر، وأنهم الفئة الأكثر تعرضاً للتهديد.
وليست التطبيقات الذكية الشهيرة المتاحة للجمهور، من قبيل "تشات جي بي تي" و"كلود" Claude وغيرهما، وحدها التي تتهدد بإشباع الشغف الإنساني اللامحدود لسرد القصص وسماعها، ذلك الشغف الذي لم يخفت عبر 5 آلاف عام من التاريخ البشري المدوّن، وربما يمتد أبعد من ذلك بكثير.
ظهرت تطبيقات مصممة خصيصاً لأتمتة كتابة الروايات من بينها "سودورايت" Sudowrite و"نوفلكرافتر"Novelcrafter لمساعدة المستخدم على العصف الذهني أو التفكير الإبداعي وتنقيح النصوص، بينما يتولى "كويكس أي آي بوك كرييتر" Qyx AI Book Creator و"سكويبلر"Squibler صياغة كتب كاملة من الغلاف إلى الغلاف، وبدوره يتكفل "سباينز" Spines بالتفاصيل كافة نيابة عنك، بدءاً بالتصميم ووصولاً إلى النشر النهائي.
إذا لم تكن فكرة آلات كتابة الروايات التي تخيلها جورج أورويل قبل 78 عاماً في رواية "1984" مرعبة بما يكفي للكتّاب والقراء، فإن واقع التأليف الروبوتي اليوم يكشف عن جانب أشد خبثاً ودهاء، وإحدى الصيحات الرائجة على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تشجع الناس على إنتاج وبيع كتب قصيرة غير خيالية بصيغة PDF، تُكتب كاملة من العدم وخلال ثوان عن مواضيع لا يكترثون لها ولا يعرفون عنها شيئاً، ويُقال للراغبين في المشاركة في هذه الحيلة الربحية إن في مستطاعهم "تأليف" كتاب عن أي موضوع يخطر في بالهم، وطرحه للبيع على الإنترنت في اليوم نفسه، ثم جني آلاف الدولارات شهرياً في لمح البصر.
أما المهارات المطلوبة والتي يمكن اكتسابها عبر "دورات الخداع" على الإنترنت في مقابل مبالغ زهيدة فلا تتجاوز بضع حيل تقنية وتسويقية بسيطة لإتمام هذا الاحتيال حتى نهايته، وباعتباري قد نشرت 12 كتاباً غير روائي، وأعمل على رواية ستبقى حبيسة الأدراج على الأرجح، وصحافياً مهتماً بشؤون التكنولوجيا منذ ثلاثة عقود، لدي من الأسباب ما يكفي لأن أرغب في تصديق أن كل ما سبق محض هراء، فالذكاء الاصطناعي التوليدي أداة بحث مفيدة للكتاب البشر الحقيقيين، إذ أقر ثلث المؤلفين في دراسة أعدتها "جامعة كامبريدج" بأنهم يستخدمونه لتسريع المهمات البحثية غير الإبداعية، ولكنه عاجز وسيبقى عاجزاً عن ابتكار فكرة أصيلة، أو أن يروي قصة لإنسان من تلقاء نفسه ومن دون أي توجيه مسبق، لذا لا يلوح في الأفق وقت قريب يتحول فيه حاسوبك المحمول إلى محمصة خبز ناطقة كما في المسلسل الكوميدي البريطاني "القزم الأحمر" Red Dwarf، لا تنفك تغرقك بأفكارها العبقرية، وحتى الجيل المقبل الموعود من الذكاء الاصطناعي العام الذي يُقال إنه يحاكي سلوكيات أشبه بالوعي لدى الإنسان [القدرة على الإدراك والشعور] سيظل في نهاية المطاف مجرد نظام يعيد اجترار البيانات المتوافرة بصيغة مشتقة وكثيفة، وعلى رغم ذلك مخيفة في قدرتها على الإقناع.
ولكن بل، "ولكن" كبيرة جداً، ثمة عقبة مهمة لا بد من أخذها في عين الاعتبار، والحقيقة المؤسفة أن الناس يحبون بشدة المحتوى البسيط والسطحي والمشغول دونما جهد، وأن كثيراً من هؤلاء المؤلفين المهددين، إضافة إلى كتّاب سيناريو الأفلام والتلفزيون والمدونين، ينتجون هذا النوع من الكتابة بالفعل لكسب لقمة عيشهم.
في الحقيقة أمقت الكلمة الجديدة المشؤومة "محتوى" content، كلمة كان أورويل سيندم ربما على عدم ابتكارها، ومع ذلك فإن الجزء الأكبر من المواد المكتوبة اليوم لا يعدو أن يكون مجرد هراء سريع الاستهلاك، وإذا ظهرتَ على القنوات التلفزيونية التقليدية فإن أي هراء تقريباً (يسمى محتوى أيضاً) تنتجه بنفسك أو يُنتجه [الذكاء الاصطناعي] باسمك، سيُنتشر ويصل إلى القراء كما لو أنه يحمل قيمة حقيقية.
الرداءة محل تقدير هائل في شتى المجالات، وخذ على سبيل المثال لا الحصر مدوّن أسفار ناجحاً جداً أتابعه من باب المتعة الغريبة، يكتب عن مغامراته بأسلوب ممل إلى درجة أنه وفّر علي ثروة كاملة بجعل كل مكان يبدو غير مثير للاهتمام، وبالمثل فكثير من المواد المكتوبة على المواقع الإلكترونية وفي المراسلات التجارية والسياسة والإعلانات والخطب الدينية، وحتى الأوراق الأكاديمية، ليست سوى نصوص رتيبة ومنتفخة، ومحتوى لا يختلف كثيراً عما قد يُنتجه الذكاء الاصطناعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبل بضعة أعوام، وقبل استخدام كلمة "محتوى"، استعانت بي إحدى شركات التكنولوجيا لإنتاج "مقالات ترويجية" advertorial، مدفوعة الأجر، وكان الأجر مغرياً وبذلت فيه جهداً كبيراً، مع كامل الاعتراف للشركة بأنها تنتج (بطبيعة الحال)، أفضل منتج في مجالها، وكنت عاقلاً بما يكفي لأمتنع من تقديم أية مادة تشبه الصحافة الحقيقية.
وبعد نحو أسبوعين وأثناء إجازتي تلقيت مكالمة غاضبة من مسؤول في الشركة تفيد بأن العمل لم يلب توقعاتهم على الإطلاق، فسألته "ما الذي كنتم تأملون في الحصول عليه تحديداً؟"، فرد المتصل "هل يسعك فقط أن تجعل المادة المكتوبة أكثر بهتاناً ومللاً؟ ليس من المفترض أن يقرأها الجمهور، والغرض منها ملء مساحة ليس أكثر".
اليوم أنا متأكد أنهم كانوا سيختارون عدم الاستعانة بكاتب بشري والاكتفاء بأحد نماذج الذكاء الاصطناعي لتحقيق المستوى المطلوب من الرتابة مجاناً.
عادة لغوية جديدة أخرى، على شاكلة وصف الكتابة بالمحتوى، أشبه بتحويل أي حال تثير القلق إلى "حال طوارئ"، وبفعل الذكاء الاصطناعي التوليدي نشهد فعلاً ما يمكن تسميته "طوارئ المحتوى" [ناجمة عن الفيض الهائل والمتواصل من المحتوى الرقمي].
الأسبوع الماضي التقيت صديقاً، أستاذ جامعي، وكان يشكو التأثير السلبي الذي يتركه "تشات جي بي تي" في أعمال طلابه المكتوبة، قال "قبل عامين فقط كانت غالبية مقالاتهم جيدة وبعضها دون المستوى والقليل منها مميزاً، وفجأة أصبحت جميع المقالات متوسطة المستوى، ولا يخرج أي منها عن المستوى المتوسط، لا نحو التميز ولا نحو الرداءة، وواضح تماماً أنهم جميعاً يستخدمون الذكاء الاصطناعي في إنجاز أعمالهم".
كان الحل الذي ارتآه الأستاذ دفع الطلاب إلى إجراء عدد أكبر من الاختبارات الشفوية، إذ يختبر قدراتهم شفهياً ومباشرة من دون الاستعانة بأي مصدر خارجي أو أدوات مساعدة.
وعليه فربما يحمل مستقبل الروايات تقليداً شفهياً جديداً ينسج فيه المؤلفون الحكايات أمام جمهورهم شفوياً ومباشرة، من دون نص مكتوب أو سيناريو مسبق؟
© The Independent