Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مصالحة" سيرة الملك خوان كارلوس الأول بقلمه

استعادة سردية شخصية وسياسية يشعر أنها اختطفت منه تحت ضغط الفضائح والابتعاد الإجباري من الحياة العامة

الملك الإسباني خوان كارلوس الأول (أ ف ب)

ملخص

تشهد إسبانيا، في لحظة رمزية بالغة الدلالة، عودة للملك السابق خوان كارلوس الأول (مواليد 1938)، الرجل الذي ارتبط اسمه بمسار الانتقال الديمقراطي للبلاد بعد وفاة الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو، الذي تحول في العقد الأخير من رمز للاستقرار السياسي إلى شخصية مثيرة للجدل ومحطة للمساءلة الأخلاقية والقانونية.

يقدم الملك الإسباني خوان كارلوس الأول في كتاب بعنوان" مصالحة"، محطات من ذكرياته وسيرته الذاتية في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الملوك الإسبان. وقد صدر الكتاب حديثاً في ترجمة فرنسية (ستوك، باريس، 500 صفحة)، بينما أجل صدوره في إسبانيا إلى أوائل ديسمبر (كانون الأول) 2025 لتفادي إرباك المراجع الرسمية المرتبطة بالذكرى الـ50 لوفاة فرانكو، وتولي خوان كارلوس العرش في الـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1975، وكذلك ذكرى عودة الديمقراطية مع دستور 1978. لم يجرؤ أي ملك قبله على تدوين مذكراته، لا سيما أنها كتبها في المنفى، ومن قلب عزلة داكنة على جزيرة صغيرة قرب أبو ظبي، حيث يقيم منذ عام 2020 بعيداً من الوطن.

ويبدو أن هذه المذكرات حظيت بتغطية إعلامية موازية، إن لم تكن أوسع، من تلك الخاصة بالذكرى الـ50 لوفاة فرانكو واسترجاع الملكية، التي لم يدع الملك السابق إليها. 

يبرر خوان كارلوس إقدامه على هذا المشروع قائلاً إن هذا الكتاب محاولة أخيرة لاستعادة سردية شخصية وسياسية يشعر أنها اختطفت منه تحت ضغط الفضائح، والابتعاد الإجباري من الحياة العامة، وبرودة العلاقة مع ابنه الملك فيليبي السادس. وهي سردية مضادة للسرديات التي راكمتها الصحافة الإسبانية خلال العشرية الأخيرة، تعيد للملك دوره المركزي في الانتقال الديمقراطي للسلطة، مؤكدة أن سقوطه الأخلاقي لا يلغي إنجازاته السياسية.

في هذا الكتاب يذكر خوان كارلوس بمرحلة كان "الملك فيها بالنسبة إلى الإسبان هو الديمقراطية"، بعد أن تخلى بعد موت فرانكو عن صلاحياته المطلقة وأدار مفاوضات الانتقال، وصولاً إلى قراره الحاسم الذي أوقف عام 1981 محاولة انقلاب عسكرية كادت تعصف بالبلاد.

لكن هذه المذكرات التي يستعيدها الملك ليست بريئة، فهي، في عمقها، تبرير متأخر لماض مزدوج: ماض صنع فيه الديمقراطية، وماض آخر صنع فيه الفضائح.

مع فرانكو

 ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن علاقة الملك بالجنرال فرانكو تعد في الكتاب من أكثر النقاط إثارة للجدل. فخوان كارلوس لا يخفي احترامه العميق للديكتاتور، بل يتحدث عن ذكائه وقوة شخصيته، مؤكداً أنه كان بمثابة "الأب الثاني" له، وأنه "مدين له بالعرش".

أثارت هذه العبارات غضب شريحة واسعة من الإسبان، لا سيما رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، ووزير الثقافة، وعائلات ضحايا القمع الفرنكوي، والجمعيات التي تناضل من أجل الذاكرة الديمقراطية. وقد وصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بفرض غرامة على الملك السابق لانتهاكه روح هذه الذاكرة وخروجه عن الإجماع الذي تأسست عليه الديمقراطية الإسبانية منذ 1978، القائم على تجاوز إرث الديكتاتورية لا على تمجيده. لكن الملك، في المقابل، يصر على أن فرانكو "وهبه العرش" لكنه لم يمنحه مساراً سياسياً معداً سلفاً، وأنه استغل هذه الشرعية الشكلية لكي يقود البلاد إلى الديمقراطية.

لا تقدم هذه المذكرات التي وضعها الملك بالتعاون مع الكاتبة والمؤرخة الفرنسية لورانس ريجيس دوبريه،  مراجعة نقدية لماضيه، بقدر ما تعيد إنتاجه من منظور دفاعي يطغى عليه الشعور بالمرارة تجاه واقع يرى خوان كارلوس أنه ينكر فضله.

من بين أكثر الصفحات صدقاً في الكتاب تلك التي تناول فيها الملك علاقته بابنه الملك فيليبي السادس، يكتب خوان كارلوس بمرارة واضحة عن "الإبعاد" الذي شعر به منذ عام 2020، وعن تحول قصر لازارزويلا، مقر الإقامة الرسمي لـملك إسبانيا، إلى مكان لا يرحب به، وعن قرار فيليبي قطع المخصصات المالية السنوية التي تقدمها الموازنة الملكية له، وإعلانه التخلي عن إرثه المحتمل المرتبط بحسابات والده في الخارج. ويرى الأب أن ابنه قد تصرف "كملك" لا "كابن"، وهو يتفهم موقفه، لكنه في الوقت عينه لا يخفي جرحه الإنساني وشعوره بأنه قد أصبح "غريباً" عن البيت الذي حكمه أربعة عقود. أما الملكة ليتيزيا، فيشير إليها باقتضاب، معترفاً أن وجودها قد عمق التباعد داخل العائلة، من دون أن يخوض في تفاصيل قد تزيد من حدة التوتر.

الملكة صوفيا

 في هذه المذكرات تحضر أيضاً الملكة صوفيا بوصفها الضمير الأخلاقي للعائلة، فهي زوجة صابرة، ومساندة وفية، على رغم الخيانات والانفصال العاطفي، ويظهر حنين الملك إليها بوصفها آخر خيط يربطه بصورته القديمة كرب أسرة.

وتحضر في الكتاب كذلك أسماء ولية العهد الأميرة ليونور والرئيس الفرنسي جيسكار ديستان والملكة إليزابيث الثانية ونلسون مانديلا وبوش الأب والابن والملك الحسن الثاني، وسواهم.

لا تخفي هذه المذكرات أن حياة خوان كارلوس بعد عام 2008 كانت سلسلة من الأخطاء المدمرة، أولها قبول "هبة مالية" قيمتها 100 مليون دولار، وفتحه حسابات في المصارف السويسرية فجرت فضائح مالية، ورحلته الشهيرة إلى بوتسوانا لصيد الأفيال في أوج الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن علاقاته العاطفية، لا سيما مع الألمانية كورينا لارسن، والفضائح التي أثارها بعد تداول قصص مغامراته وأسماء عشيقاته في وسائل الإعلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حطمت هذه الوقائع صورة الملك الذي نظر إليه كـ"الأب" الذي قاد إسبانيا إلى الحرية، مما اضطره إلى التنازل عن العرش عام 2014 حفاظاً على الملكية، وإلى مغادرة إسبانيا عام 2020 للحؤول دون توريط ابنه في فضائحه، لكن هذه المذكرات أقل ميلاً إلى الاعتراف بمسؤولية الملك الكاملة، بل بمسؤولية محدودة. فهو يقر بأنه ارتكب أخطاء بدافع الثقة المفرطة، ظاناً أنه محمي. غير أن هذا التعاطي الانتقائي مع الأخطاء، إن دل على شيء، فعلى رغبة واضحة في التوبة من دون الإدانة الذاتية، وعلى الدفاع عن السيرة السياسية من دون الغرق في تفاصيل السقوط الشخصي.

حساسية سياسية

جاء نشر هذه المذكرات في فرنسا قبل إسبانيا بقرار محسوب، فقد أراد الناشرون الإسبان تفادي تزامن الإصدار مع الذكرى الـ50 لوفاة فرانكو، وما قد يثيره ذلك من حساسية سياسية، لكن التأجيل لم يخفف الاحتقان. فقد أصبح الكتاب جزءاً من "معركة الذاكرة" التي تعيشها إسبانيا اليوم، بالتزامن مع صعود موجة جديدة من الاحتجاجات الداعية إلى إقامة الجمهورية. ففي شهر يونيو (حزيران) الماضي خرج آلاف المتظاهرين في مدريد في أكبر مسيرة مناهضة للملكية، رافعين شعار "حتى يرحلوا". وفي مناطق عدة في شمال البلاد، تنامت الدعوات إلى استفتاء حول مستقبل النظام الملكي.

في هذا السياق، تبدو مذكرات خوان كارلوس الأول أشبه بمحاولة مضادة لاستعادة المبادرة السياسية، أو في الأقل لاستعادة المكانة الرمزية للرجل في الذاكرة الوطنية، مقدمة الملك السابق كمدافع عن الدستور والديمقراطية. لكنها في الواقع قد تعمق الشرخ بينه وبين الملكية، لأن خطابها يتعارض مع استراتيجية الملك فيليبي السادس التي تقوم على القطيعة مع إرث والده وترميم صورة الملكية عبر تعزيز الشفافية، وما العنوان الذي تحمله "مصالحة" إلا تعبير عن رغبة الملك السابق في إنهاء القطيعة بينه وبين الشعب والتاريخ والعائلة.

طبعاً لا يقدم الكتاب تصوراً جديداً للمصالحة بقدر ما يقدم رواية شخصية للمصالحة مع الذات، فهو لا يمد يداً سياسية إلى القوى التي تتهمه بالفساد، ولا يقدم مراجعة نقدية لعلاقته بفرانكو، ولا يعتذر صراحة عن الأذى الذي ألحقه بالمؤسسة الملكية، بل يقدم صورة رجل على حافة العمر، متعب، يعيش أيامه الأخيرة في عزلة  المنفى بعد أربعة عقود من المجد السياسي، ويتوق إلى أن يدفن في بلده، في الأرض التي خدمها وظل بحسبه وفياً لها.

إن مذكرات خوان كارلوس الأول ليست مجرد سيرة ملك سابق، بل هي وثيقة حساسة تكشف عن التوترات التي تخترق إسبانيا اليوم بين الذاكرة الديمقراطية وإرث الديكتاتورية، وبين الملكية التقليدية ومتطلبات الشفافية الحديثة، وبين سلطة الماضي وسلطة الأجيال الجديدة. لعلها تعيد للحياة سيرة "ملك لير" آخر لم يعد ابنه، الملك فيليبي السادس، يزوره، الذي يفكر، على شفير الحياة، بحنين إلى أرضه وإلى ذكرياته المجيدة.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب