ملخص
تشير شهادات مصادر ميدانية وناشطين إنسانيين إلى أن شبكات تهريب البشر باتت بديلاً لسيناريو المنظمة الفرنسية، إذ تتتبع الأطفال في معسكرات النزوح وعلى الطرق الوعرة الممتدة نحو ليبيا، مستغلة فقدان الهوية، وتمزق الأسر، وغياب الحماية.
في ظل الحرب المشتعلة في السودان منذ أبريل (نيسان) 2023، بات الأطفال في قلب مأساة إنسانية تتسع يوماً بعد آخر، تجسدت أبرز فصولها في الفاشر وسط انهيار تام لمنظومة الحماية والأمان. فبحسب ما رصدته الأمم المتحدة، شكل الأطفال الشريحة الأكثر تضرراً من القتال بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، إذ تكشف تقارير أممية عن معاناة حادة شملت الجوع والمرض والنزوح القسري، وارتفاع معدلات سوء التغذية إلى مستويات خطيرة دفعت العاملين في المخيمات لمعالجة آلاف الحالات من سوء تغذية حاد، إضافة إلى تفشي الكوليرا وأمراض أخرى.
ووفق بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، سُجل أكثر من 1100 انتهاك جسيم بحق الأطفال في الفاشر منذ بدء الحصار في أبريل (نيسان) 2024، شملت القتل والتشويه، والاعتداءات الجنسية التي طاولت عشرات الأطفال، فضلاً عن تجنيد القُصّر واستخدامهم من قبل جماعات مسلحة، إلى جانب حالات اختطاف وثقتها فرق الاستجابة الإنسانية.
وعلى رغم رفع الحصار في الـ 26 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لم تتوقف المأساة، فآلاف الأطفال فروا مع ذويهم، أو من دونهم، نحو معسكرات النزوح في "طويلة"، حيث يستمر النزوح والتجويع كواقع يومي. وقد حذرت منسقة الشؤون الإنسانية في السودان، دينيس براون، من أن قوات "الدعم السريع" تستخدم "التجويع كسلاح حرب" في الفاشر، بينما تثبت تقارير طبية مقتل أعداد كبيرة من الأطفال داخل المنازل والمخيمات والأسواق نتيجة القصف والانتهاكات المتصاعدة. وتتعاظم الأخطار مع استهداف المخيمات نفسها، ما يفتح الباب أمام موجات جديدة من الاختطاف والاستغلال، ويستحضر إلى الذاكرة واحدة من أكثر القضايا التي هزت دارفور قبل سبعة عشر عاماً، فضيحة منظمة "آرش دو زوي" الفرنسية عام 2007.
استغلت المنظمة الفوضى الإنسانية الناجمة عن الحرب الأولى في دارفور لتنفيذ محاولة واسعة النطاق لاختطاف أكثر من مئة طفل ونقلهم خارج السودان تحت غطاء العمل الإغاثي، قبل أن تفشل السلطات التشادية العملية ويُعتقل القائمون عليها، وقد كشفت تلك الحادثة هشاشة البيئات المنكوبة أمام عمليات الاستغلال العابر للحدود، وهي هشاشة تعود اليوم إلى الواجهة في الفاشر، وإن بوسائل وجهات مختلفة، لتضع أطفال المدينة من جديد أمام دائرة تهديد لا تزال مفتوحة على احتمالات أشد قسوة.
وقائع صادمة
في عام 2007، وجدت منظمة "آرش دو زوي" نفسها في قلب واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في تاريخ العمل الإنساني في أفريقيا، بعد عملية وصفت دولياً بأنها محاولة اختطاف منظمة لأطفال من إقليم دارفور وتشاد تحت غطاء "الإغاثة" و"إنقاذ اليتامى"، فقد كانت المنظمة، التي تأسست مطلع عام 2004 على يد رجل الإطفاء الفرنسي أريك بروتو عقب كارثة تسونامي في إندونيسيا، تقدم نفسها كجهة خيرية غير ربحية تُعنى بمساعدة الأطفال المتضررين من الكوارث. ومع انتهاء مهمتها في جنوب شرقي آسيا، وجهت اهتمامها نحو أزمة دارفور، ورفعت شعاراً لافتاً على موقعها الإلكتروني "أنقذوا أطفال دارفور قبل فوات الأوان"، معلنة نيتها نقل ألف طفل إلى فرنسا على مراحل "لرعايتهم".
لكن في أكتوبر 2007، انهار هذا الخطاب بالكامل أمام وقائع صادمة. ففي مدينة أبيشي شرق تشاد، أوقفت السلطات المحلية ستة من أعضاء المنظمة، بينهم بروتو نفسه، بينما كانوا يستعدون لنقل 103 أطفال على متن طائرة بوينغ مؤجرة من شركة إسبانية، تمهيداً لوصولهم إلى عائلات فرنسية وبلجيكية دفعت مبالغ تراوحت بين 1700 و9 آلاف دولار مقابل "استضافة" طفل بدعوى أنه "يتيم من دارفور"، ولم تمض ساعات حتى تبين للسلطات التشادية، ولمنظمات دولية لاحقاً، أن كثيراً من هؤلاء الأطفال ليسوا أيتاماً، وأن بعضهم لاجئون تشاديون، بل إن عدداً منهم له آباء وأمهات على قيد الحياة. كذلك كشف أحد الوسطاء السودانيين أمام محكمة نجامينا أنه سلم بنفسه نحو ستين طفلاً للمنظمة، وسط اتهامات بتزوير وثائق تفيد بأنهم أيتام من دارفور.
أثارت القضية ضجة عالمية، واعتُقل تسعة فرنسيين وسبعة إسبانيين، قبل أن ترحل تشاد المتهمين إلى فرنسا بعد صدور أحكام بالسجن ثماني سنوات ودفع تعويضات بلغت نحو 25 مليون دولار تقريباً، وعلى رغم صدور عفو رئاسي تشادي لاحقاً، بقيت سمعة المنظمة منهارة، وانهار نشاطها بعد انكشاف حجم التجاوزات.
وفي السياق الحقوقي، قال المحامي محمد عبد الحي "هذا نموذج للالتفاف على المبادئ الإنسانية، إذ تداخل فيها العمل الخيري مع ممارسات تندرج قانونياً تحت الجرائم العابرة للحدود، بما فيها تهريب الأطفال، والتزوير، وتسهيل التبني غير القانوني". ويوضح أن المنظمة انتهكت قواعد أساسية نصت عليها اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، التي تشدد على حماية هوية الطفل ومنع نقله عبر الحدود من دون ضمانات قانونية صارمة. كذلك خرقت قوانين تشاد والسودان المتعلقة بحماية القُصّر، وتجاوزت الأنظمة الدولية التي تنظم عمليات التبني في سياقات النزاعات.
انتهاكات جسيمة
تتعرض الطفولة في دارفور اليوم لأخطر موجة انتهاكات منذ اندلاع الحرب الأخيرة، إذ تتقاطع عوامل العنف والاختطاف والتجنيد والاستغلال في بيئة أشبه بالفراغ الأمني الكامل. فبحسب منظمات الأمم المتحدة، تتكرر حالات الاختطاف الداخلي داخل مناطق القتال، سواء خلال الهجمات على القرى أو أثناء فرار العائلات من الفاشر ومحيطها، وبعض الأطفال يُستخدمون كـرهائن لتسهيل مرور المقاتلين، فيما يتم احتجاز آخرين قسرياً خلال العمليات العسكرية.
وتوثق يونيسف أيضاً حالات تجنيد واستخدام للمراهقين من قبل مجموعات مسلحة، إضافة إلى أطفال فُصلوا عن أسرهم خلال النزوح العشوائي، ما يجعلهم عرضة لخطر الاختفاء أو الاستغلال الاقتصادي والجنسي، وهناك إشارات عدة على نشاط شبكات تهريب وتجارة بشر تستهدف أطفال دارفور. وعلى رغم غياب الأدلة، فإن الاستغلال المحلي داخل مناطق الحرب آخذ في التزايد، ويشكل تهديداً مباشراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعيد هذه الأوضاع إلى الواجهة الظروف ذاتها التي سبقت فضيحة منظمة "آرش دو زوي"، إذ تهيمن الفوضى، وتنعدم أنظمة الحماية، وتتشتت الأسر على طرق النزوح. وبعد سيطرة قوات "الدعم السريع" على الفاشر، نزح آلاف المدنيين خارج المدينة، بينهم مئات الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في رحلة فرار بلا أسر، وقُتل ذوو بعضهم أو فُقدوا أثناء المعارك. ووفق بيانات "يونيسف"، وُثقت 154 حالة لأطفال نازحين بمفردهم منذ سقوط الفاشر، فيما تعجز منظمات الإغاثة عن حصر الأعداد الحقيقية بسبب الانهيار الأمني ونقص الموارد.
وصف متطوعون في مخيم "طويلة"، الوضع بالمأساوي مؤكدين أنهم يستقبلون يومياً أطفالاً تعرضوا لصدمات من فرط تعرضهم للقصف ومشاهداتهم الجثث، وأن الخوف من المجازر دفعهم للنزوح بمفردهم. وأنهم باتوا لا يتذكرون أسماء أمهاتهم، بل لا يتذكرون أسماءهم، ولأنهم لا يملكون أي وثائق، فيصعب التعرف إلى هوياتهم، وأفادت المديرة التنفيذية لـ"يونيسف" كاثرين راسل من أن نحو 130 ألف طفل في الفاشر تعرضوا لانتهاكات جسيمة، تشمل القتل والتشويه والعنف الجنسي، خلال حصار المدينة، وأن "لا طفل في مأمن".
فراغ أمني
قالت المتخصصة في حقوق وحماية الطفولة نجلاء أحمد "تُظهر المقاربة بين فضيحة منظمة آرش دو زوي، وما يتعرض له أطفال دارفور اليوم أن السياقات متباعدة زمنياً لكنها متقاربة في البنية التي تسمح بانتهاك حقوق الطفل، ومنها الفوضى، وانهيار الدولة، وغياب الرقابة، وتضاؤل قدرة الأسر على الحماية، ففي 2007، استغلت المنظمة الفرنسية فراغاً إنسانياً ورقابياً نتج من حرب دارفور الأولى، فحاولت نقل 103 أطفال تحت غطاء الإغاثة، قبل أن يتضح أن كثيراً منهم ليسوا أيتاماً وأن العملية حملت ملامح خطف منظم. كان ذلك نتاج بيئة سمحت لفاعلين أجانب بالتحرك عبر الحدود من دون مساءلة، حيث انهارت آليات الحماية الرسمية، وضعفت مؤسسات الدولة، وغابت الرقابة على تحركات المنظمات".
وأوضحت أحمد "أما اليوم، فالمشهد أكثر تعقيداً ووحشية. فالحرب الممتدة منذ ما يقارب الثلاثة أعوام أنتجت فراغاً أمنياً واسعاً، وفتحت الباب لفعل مختلف، استغلال داخلي تباشره جماعات مسلحة وشبكات تهريب بشر محلية وإقليمية تعمل في الظل، لا تحت شعار الإغاثة، بل تحت منطق العنف والربح. وتشير شهادات مصادر ميدانية وناشطين إنسانيين إلى أن شبكات تهريب البشر باتت بديلاً لسيناريو المنظمة الفرنسية، إذ تتتبع الأطفال في معسكرات النزوح وعلى الطرق الوعرة الممتدة نحو ليبيا، مستغلة فقدان الهوية، وتمزق الأسر، وغياب الحماية، وتستهدف هذه الشبكات الأطفال بوصفهم الفئة الأكثر قابلية للاستغلال، سواء في أعمال قسرية، أو في تجنيد مقاتلين صغار، أو في نقلهم ضمن مسارات الاتجار الإقليمية، بينما يظل الخطر محلياً في الغالب، لا مرتبطاً بعمليات تبن دولية".
وأضافت الباحثة "على رغم اختلاف الوسائل، فإن أوجه الشبه واضحة، هشاشة الطفل أمام القوى الأكبر، وغياب الدولة الضامنة، وانعدام التوثيق والمساءلة. ففي 2007، لم يُعرف الكثير من هويات الأطفال إلا بعد انفجار الفضيحة، واليوم، يُفقد أطفال دارفور خلال النزوح ويُدفنون بلا تسجيل، أو يُختطفون خلال الهجمات، أو يُجندون من دون قدرة على إثبات هوياتهم. الخطر الحالي أوسع بكثير، فقد وثقت تقارير دولية أن مئات الأطفال غير المصحوبين وصلوا إلى معسكر طويلة ومناطق أخرى بعد سقوط المدينة، ووفق مصادر ميدانية، وصل 450 طفلاً إلى طويلة بعد الأحداث من دون أسرهم، وسبقهم 930 طفلاً آخرين في موجات نزوح سابقة".
مساءلة دولية
حذر المدير الإقليمي لبرنامج الأغذية العالمي، إريك بيرديسون، من أن "الناس في الفاشر يخوضون صراعاً يومياً للبقاء، وقد استنفدوا جميع آليات التكيف، وسيموتون بلا وصول فوري للمساعدات الإنسانية"، وعلى رغم هذه التحذيرات، لا يزال المجتمع الدولي عاجزاً إلى حد كبير عن توفير حماية حقيقية، فيما آلاف الأطفال النازحين بمفردهم وثقتها "يونيسف" منذ سقوط الفاشر وحتى نوفمبر، وسط صعوبة تتبع الحالات أو توثيقها.
ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى تفعيل آليات مراقبة ومساءلة دولية لحماية الأطفال، فقد أوصى مهتمون بضرورة فتح ممرات إنسانية آمنة، وإنشاء قواعد بيانات لتتبع الأطفال المفقودين، وضمان وصول المساعدات الغذائية والنفسية، وتمويل برامج الحماية الطارئة، حيث أن غياب هذه الإجراءات يعرض الأطفال لأخطار أكبر بكثير من فضيحة 2007، لكن على نطاق أوسع وأكثر وحشية، إذ يتحول الطفل إلى الحلقة الأضعف في دوامة الحرب والفوضى والاستغلال المباشر، محاطاً بعوامل تهدد حياته وأمانه وكرامته بشكل يومي ومستمر. فيما وصف ممثلو الأمم المتحدة لحقوق الطفل والنزاعات المسلحة ما يحدث بأنه "سرقة لطفولة" أطفال السودان، ودعوا إلى وصول إنساني عاجل وآمن.