Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين أزمة عابرة واحتمال النهاية... ما الذي تبقّى من النخبة التونسية؟

يرى البعض استحالة نهاية تلك الفئة رغم عطالتها وعدم قدرتها على التغيير

يبقى ما تفرزه المدرسة التونسية من نخب مختلفة المشارب أداةً للمشهد العام الاجتماعي والسياسي (رويترز)

ملخص

فقد التعليم في تونس شيئاً فشيئاً دوره الرمزي والتاريخي في إنتاج النخب واكتسحت السوشيال ميديا الفضاء العام، وبات لها دور في التأثير وفي صناعة الرأي العام وتوجيهه على حساب ما كانت تنتجه مؤسسات التعليم.

تظل المدرسة في تونس الرافد الأساس لإنتاج النخب، وقد تشكلت النواة الأولى للنخب في البلاد منذ عشرينيات القرن الـ20 إلى لحظة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. وبمرجعية مزدوجة فرنسية عربية، وبالتوازي ازدهرت الحركة السياسية من خلال حركة الشباب التونسي والحزب الدستوري، وكغيرها من المستعمرات الفرنسية استفادت تونس في بداية القرن الماضي من دعم الحكومة الفرنسية للتعليم من أجل إدارة شؤونها، بخاصة أن غالب تلك المستعمرات كانت مجتمعات بدائية يعتمد اقتصادها على الفلاحة.

وأدخلت إدارة الاستعمار الفرنسي للمستعمرات التعليم الحديث وحافظت على التعليم الديني، وراهن التونسيون على تعليم أبنائهم باعتبار التعليم مصعداً اجتماعياً من ناحية، وملاذاً يحمي أبناءهم من التجنيد في صفوف الجيش الفرنسي من ناحية أخرى.

بعد الاستقلال، وجدت الدولة التونسية الغضة نفسها أمام شبه فراغ، بعد مغادرة الاستعمار الفرنسي في شقيه المدني والعسكري، لذلك راهن الزعيم الحبيب بورقيبة وقتها على التعليم، من أجل جسر الهوة التي تركتها الإدارة الاستعمارية في مؤسسات الدولة. واختار بورقيبة نهجاً تحديثياً علمانياً في وضع أسس التعليم في تونس الذي خلصه من التعليم الديني ووحده تحت سلطة الدولة، كما حافظ التعليم على عدد كبير من المدرسين الفرنسيين الذين فضلوا البقاء في تونس وكانت لهم بصمة قوية في نحت شخصية التلميذ والطالب التونسي.

كانت فكرة الزعيم الحبيب بورقيبة هي خلق ما يسمى "النخبة الأحادية"، إلا أن الواقع أفرز نخباً متنوعة المشارب السياسية والفكرية بين يمين، ويسار ووسط وقومية، وهي نخبة غير متجانسة تحمل مشاريع وبرامج متناقضة فكريا وأيديولوجيا.

بين الانفتاح والانغلاق

وبين السبعينيات والثمانينيات دخل النظام الذي وضعه الزعيم بورقيبة في أزمة أدت إلى نهايته، ودخلت تونس مرحلة نظام زين العابدين بن علي الجديد بالمنوال نفسه تقريباً وبنسق راوح بين الانفتاح والانغلاق وصولاً إلى لحظة الانهيار عام 2011.

وشهد التعليم في عهد بن علي عدة إصلاحات حافظت في جوهرها على اللغة الفرنسية، بينما تنامى عدد خريجي الجامعات وانحسرت سوق الشغل، وتفاقمت بطالة أصحاب الشهادات العليا، ولم يعد التعليم منتجاً للنخب ومصعداً اجتماعياً تراهن عليه الأسرة التونسية.

وبرزت سرديات ناقدة للمدرسة التونسية التي أصبحت في تقدير البعض، منتجة للفشل، والعاطلين من العمل، بينما خير عدد من خريجي المدرسة التونسية الهجرة خارج البلاد بحثاً عن أفق أرحب مادياً واعتبارياً.

 

يبقى ما تفرزه المدرسة التونسية من نخب مختلفة المشارب أداةً للمشهد العام الاجتماعي والسياسي، فكلما تراجعت المدرسة وفشل التعليم وتنامى عدد المنقطعين، ازدادت فرص الإرباك الاجتماعي الذي تغذيه الشرائح الساخطة على واقعها.

اليوم وأمام تدهور البنية التحتية للمدرسة العمومية وضعف المكانة الرمزية والاعتبارية للمربي وتنصل التلاميذ من الضبط المدرسي، ووسط تنامي الدعوات إلى ترذيل النخب والحط من قيمة العلم تقبل تونس على مرحلة فارقة في تاريخها. هل انتهى فعلاً دور النخب؟ وهل يأمل التونسيون مجدداً في تشكيل قاعدة مشتركة بين مختلف النخب السياسية والثقافية قادرة على رسم ملامح المستقبل؟

تضاؤل دور النخب

لم تستثمر النخبة في تونس لحظات الحرية الرطبة في فترة ما بعد عام 2011 في تأصيل التجربة الديمقراطية وبناء المؤسسات القادرة على صد رياح العودة إلى الوراء، فعمت الهشاشة السياسية على مختلف مكونات المشهد وصولاً إلى مرحلة التهريج، وهو ما فسح المجال أمام رئيس الجمهورية قيس سعيد، ليتصدى لما سماها وقتها "محاولات تفكيك الدولة من الداخل".

ودخلت تونس منعطفاً جديداً من أبرز مظاهره قطع حبل الود بين السلطة والجسم الحزبي والمدني والنقابي، بينما عجزت النخب عن طرح عرض سياسي يجتمع حوله التونسيون في مناخ من الحرية والديمقراطية. فهل ولت حقبة النخب السياسية والثقافية في تونس؟

يستبعد الكاتب الصحافي خالد كرونة انتهاء حقبة النخب، ويقول "لا يمكن رسم خرائط المستقبل من دون نخب، وهو مبدأ عام يسري على كل البلدان، إلا أن ما نلاحظه هو تضاؤل دور النخب وانكماشه في هذه اللحظة المرتبكة من تاريخ الإنسانية عامة ومن واقع تونس خاصة".

ويقر كرونة بـ"اتساع التيار الشعبوي في العالم، وهو تيار يقوم أساساً على ازدراء النخب"، مشيراً إلى "حال من الفراغ، بسبب ضمور وعي النخبة بضرورة التصدي لأسئلة الراهن، الناتج من تضييق هامش الفضاء العام"، ويلفت الكاتب الصحافي إلى "حيرة النخب إزاء ما يجري من حولنا إقليمياً ودولياً واتجاهات التغيير في العالم". ويرى أن "هذه النخب قاصرة حتى الآن عن اجتراح مشروع اقتصادي واجتماعي بديل، وستظل منقسمة، وأقصى ما يمكن أن تتفق حوله هي مطالب إصلاحية تتصل بالحريات والدفع نحو استكمال المؤسسات الدستورية"، مستبعداً "ولادة مشروع مشترك بخاصة أن غالب النخب تفكر بعقول ما وراء البحار، أو سجينة أسوارها الأيديولوجية القديمة، بينما تبحث تونس عن سبل إسعاف الاقتصاد الوطني، والحد من الآثار السلبية المحتملة لعواصف إقليمية".

النخب وحدها القادرة على التغيير

بينما يرى البعض استحالة نهاية النخب على رغم عطالتها وعدم قدرتها على التغيير يرى الأمين البوعزيزي أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية في الجامعة التونسية، في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن الحديث عن نهاية النخب هو "صياغة مهذبة لترذيل النخب، لأن النخب في تقديره لن تنتهي، بل قد تضمر، بخاصة في أجواء الشعبوية، بينما يتشوف المواطنون إلى النخب، لأنها القادرة على التغيير، وخلاص أي بلد مأزوم لا يكون إلا عبر نخبه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير البوعزيزي إلى "الكلفة الباهظة لإبعاد النخب من إدارة الشأن العام، علاوة على وصمها بالخيانة والعمالة في إطار تدمير رصيدها الرمزي"، لافتاً إلى "حال انسداد الأفق في الواقع الراهن في تونس"، داعياً النخب إلى الحلم والعمل على رسم ملامح مشروع جديد لتونس.

فقط مثقفون وسياسيون

في المقابل ينفي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية فريد العليبي وجود نخبة أصلاً، مقراً بوجود سياسيين ومثقفين لا يمثلون كتلة واحدة منسجمة، وإنما فئات وشرائح متناقضة، وما يحدث اليوم تونسياً هو محاولة تعويض هذه الفئة أو تلك بأخرى من حيث التأثير في مجريات الحياة الاجتماعية والسياسية، وبطبيعة الحال فإنه في مجرى الصراع يأفل نجم البعض، بينما يبزغ نجم البعض الآخر".

ويوضح العليبي أن "مصطلح النخبة في حاجة إلى مراجعة نقدية، فقد استخدم من دون تدقيق، وهو مصطلح يحيل إلى مجموعة من الأفراد لهم تأثير في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو ما يميزها عن بقية الناس".

ومن هذا المنطلق يمكن القول إن "النخب السياسية والثقافية في تونس لم توجد أصلاً، مشيراً إلى صعوبة تجاوز المثقفين والسياسيين في تونس تناقضاتهم الموضوعية".

ويشدد أستاذ الفلسفة على أن "الناس يصنعون مصيرهم بأيديهم وفق شروط موضوعية مستقلة عنهم، مستبعداً إمكان أن تتحد النخب الثقافية أو القوى السياسية، التي تعوزها المؤسسات التي تنخرها البيروقراطية".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير