Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب تترك بصمتها على خريطة الخرطوم السكانية

مؤشرات على فقدان العاصمة نصف سكانها بسبب المعارك والهجرة العكسية القسرية وتحولها من الاكتظاظ إلى الوحشة

تشير تقديرات وزارة الرعاية الاجتماعية إلى نزوح 5  ملايين من سكان الخرطوم إلى الولايات الأخرى وخارج البلاد (حسن حامد)

ملخص

على رغم إعلان مجلس الأمن والدفاع السوداني أن الخرطوم باتت الآن آمنة، ووجه الحكومة المركزية بالعودة لها وممارسة نشاطها ومهماتها من مقارها المخصصة لها هناك، لكن بعضهم يتمسك بالبقاء في الريف.

في أحد أحياء جنوب أم درمان بمنطقة الفتيحاب، يجلس الحاج دفع الله  مساعد وهو يتأمل شوارع الحي الخالية من الحركة، مجتراً شريطاً طويلاً من ذكريات ما قبل الحرب، فلم يعد معظم جيرانه القدامى في الحي، وبخاصة غير الملاك الذين كانوا يسكنون بالإيجار.

يفتقد مساعد الأنس وتبادل الزيارات وتفاصيل الحياة الاجتماعية التي كان يعج بها الحي، لكنه على رغم الوحشة والظروف المعيشية القاسية التي يشكو منها يأمل في أن يعودوا يوماً وتعود معهم الرفقة ولحمة الحي المجتمعية.

قرية واسعة

يشبه السبعيني مساعد العاصمة الخرطوم بأنها أصبحت مثل قرية واسعة يغطي الظلام شوارعها ليلاً بسبب انقطاع الكهرباء حيث يتفادى الناس الخروج، والوحشة نهاراً لقلة الحركة نهاراً، ويتحسر على بعض جيرانه الذين عادوا لكنهم سرعان ما نكصوا أدراجهم لولاية كسلا مرة أخرى، بعد أن وجدوا منزلهم عبارة عن كومة من الخراب والدمار وخالياً من كل من أي أثاث وكل محتوياته ما بين منهوبة أو محطمة.

ويقول إن "ملمح الحياة والباعث الوحيد على الأمل هو مجموعة من الشباب داخل سور مسجد الحي الصغير منهمكون في إعداد وجبة طعام من الفول والعدس لتوزيعها على الأسر العائدة حديثاً للحي والتي تعيش منذ عودتها من دون المياه والكهرباء، بينما يزداد الضغط على المطابخ الخيرية مع كل فوج عائد، نظراً إلى زيادة الحاجة للطعام".

إعلان ولكن

وعلى رغم إعلان مجلس الأمن والدفاع السوداني أن الخرطوم باتت الآن آمنة، ووجه الحكومة المركزية بالعودة لها وممارسة نشاطها ومهماتها من مقارها المخصصة لها هناك، لا يرى الحاج دفع الله أن كثيرين سيعودون مجدداً باستثناء أصحاب الأملاك، لأن كثيراً منهم وجدوا ضالتهم في الريف مع أهلهم حيث الحياة أرخص نسبياً مما هو عليه الحال في العاصمة الآن، فكل السلع أسعارها غير محتملة، فكيف يكون تأثير الحرب في الحياة وسط الخرطوم؟ وهل يتقلص تعداد سكانها مستقبلاً؟

عودة قسرية

حفزت الحرب على العودة العكسية القسرية للولايات الآمنة التي فتحت ذراعيها لملايين الفارين من العاصمة الخرطوم، أول مدن البلاد المنكوبة بالحرب، فضلاً عن انقطاع سبل عيش كثيرين، ولم يعد ميزان ثقل الخدمات الأساس لمصلحة العاصمة بعد الحرب، فقد أصبح المرضى ينقلون للعلاج خارجها بعد أن كان العكس هو الصحيح لأعوام طويلة مضت، وظل الريف هو الطارد.

 

ومن جملة سكان ولاية الخرطوم المقدر عددهم قبل الحرب بأكثر من 8 ملايين نسمة في محلياتها السبع، أم درمان والخرطوم وكرري والخرطوم بحري وأم بدة وشرق النيل وجبل أولياء، تشير تقديرات وزارة الرعاية الاجتماعية إلى نزوح نحو 5  ملايين من سكان العاصمة السودانية إلى الولايات الأخرى وخارج البلاد.

معظم سكانها

ووفق منظمة الهجرة الدولية فقد شكل الفارون من العاصمة السودانية الخرطوم 71 في المئة من جملة النازحين داخلياً واللاجئين إلى دول الجوار وغيرها، وذلك بنزوح أكثر من 80 في المئة من سكان العاصمة، حيث هُجرت أحياء بأكملها وتحولت أطلالاً تسكنها القطط والكلاب الضالة.

لكن في المقابل قالت المنظمة إن أكثر من مليون شخص من بين تلك الأعداد الكبيرة ممن غادروا العاصمة أو نزحوا منها بسبب الحرب والنزاع، عادوا لها خلال الأشهر الـ 10 الأخيرة، أي بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 وسبتمبر (أيلول) الماضي.

فقر وخراب

وارتفعت معدلات الفقر في الولاية إلى 80 في المئة، مما يعني أن عدد الباقين أو العائدين أقل من نصف عدد سكانها قبل الحرب، فقد تعرض أكثر من 70 في المئة من المقار الحكومية ومحطات وشبكات وخطوط إمداد الكهرباء والمياه والمرافق الصحية والتعليمية والأثرية للنهب والحرق والتدمير والتخريب الذي لم ينج منه حتى أسفلت الطرقات، لتفرُغ العاصمة السودانية من كامل منظومة خدماتها وتتحول أحياؤها، بفعل التهجير القسري والنهب، إلى بقع مهجورة عطشى ومظلمة ومكدسة بالنفايات، وشوارع تغطيها الجثث المجهولة والأوبئة.

لن يعودوا

ولما كان معظم سكان العاصمة قبل الحرب هم من العمال وموظفي دواوين الدولة والقطاع الخاص والبنوك، إضافة إلى شريحة كبيرة من أصحاب الأعمال وأصحاب المهن الحرفية والهامشية، فهم بالأصل وافدون من الريف طلباً للرزق والخدمات، وكانوا يعملون في الزراعة أو الرعي أو ممن وجد في العاصمة سوقاً رائجة لمنتجاتهم الحرفية واليدوية، وهذه الفئة الأخيرة بحسب المهندس الحضري أكثر الفئات المرشحة لعدم العودة والبقاء في ولاياتهم، كون الظروف هناك تعد أفضل نسبياً الآن بعدما خسرت العاصمة الخرطوم بريقها الجاذب لهم.

حل موقت

وفي السياق يقول المهندس في المجال الحضري عز الدين أبو شيبة إنه "يبدو أن أزمة التمدد السكاني التي كانت تعانيها الخرطوم قبل الحرب فقد حُلت تلقائياً بصورة موقتة بعد أن فقدت العاصمة أكثر من 85 في المئة من سكانها ما بين نازح ولاجئ، وتحولت الولايات الآمنة إلى وضع أفضل نسبياً من حيث الخدمات التعليمية والصحية وفرص العمل".

 

لكن التحدي المطروح لضمان عدم النزوح من الريف نحو الخرطوم مرة أخرى هو السعي إلى خلق توازن ومعادلة التنمية والخدمات بالاستفادة من تجربة الحرب التي كشفت خلالاً كبيراً في هذا الجانب، ولفت أبو شيبة إلى أن الضغط السكاني على الخرطوم أدى إلى مشكلات وتعقيدات اجتماعية مثل تفشي البطالة والجريمة والمخدرات والتسول، وزيادة أعداد المشردين وأطفال الشوارع، إضافة إلى ارتفاع معدلات الطلاق وقضايا النفقة والرعاية الأسرية.

وأكد المهندس الحضري أن العلاج الناجع لكل ذلك يأتي من خلال نقل المدينة إلى الريف عبر توفير الخدمات وزيادة القيمة المضافة للمزارعين على وجه التحديد، حتى يعودوا للزراعة والإنتاج الحيواني.

تأثيرات عميقة

ورأى أبو شيبة أن "من ضمن التأثيرات العميقة الدمار الهائل الذي ألحقته الحرب بالبنية التحتية والمنشآت العامة بالبلاد عامة والخرطوم بخاصة، كون المرافق الخدمية لم تعد تغطي حتى من بقي ممن لم يتمكنوا من مغادرة العاصمة، فكيف يكون الحال إذ عاد كل سكانها؟".

ومع تفاقم الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة الفقر داخل البلاد بأكثر من الضعفين إلى نحو 80 في المئة حالياً، بات أكثر من 23 مليون سوداني يعيشون تحت خط الفقر، وأوضح وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية معتصم أحمد صالح أن الحكومة بدأت تخطط لخفض معدلات الفقر عبر إطلاق مشاريع إنتاجية، إضافة إلى توجيه أموال المسؤولية الاجتماعية لتحقيق الاستقرار المعيشي وتعزيز التنمية المحلية في مختلف الولايات.

مؤشرات متذبذبة

وعلى الصعيد نفسه ذكر أستاذ العلوم الإدارية أمير المأمون أن المؤشرات الحالية غير مستقرة ويصعب البناء عليها بسبب استمرار الحرب وتهديدات "الدعم السريع" التي يأخذها كثر بجدية، بحكم ما أصابهم منهم خلال العامين الأخيرين.

ويرى المأمون أنه في حال نجاح المبادرات المطروحة في وقف الحرب وعودة الاستقرار، سيتوقف الأمر على مسيرة الإصلاح العام وإعادة الإعمار وبرنامجها الزمني، فالخرطوم لها ثقلها التاريخي والسياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، متابعاً أنه "غالباً ما يتقلص عدد سكان العاصمة الخرطوم إذا أحكم تخطيط إزالة السكن العشوائي ببدائل عادلة مرضية ومنظمة، فالشروع في تحقيق تنمية متوازنة جادة ومحكمة، وبخاصة في الخدمات العامة، سيؤدى قطعاً إلى خفض تعداد سكان الخرطوم".

فوضى واستئثار

وفي السياق أشار المتخصص في التنمية المحلية بشير نور الدين إلى أن استئثار العاصمة السودانية لفترات طويلة بالنصيب الأكبر لمعظم الخدمات الأساس، وبخاصة الصحية منها وغير الصحية، ضاعف ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة طلباً لتلك الخدمات المنعدمة بالأطراف، موضحاً أن الخرطوم كانت تعيش فوضى تنموية وديموغرافية بسبب حروب الأطراف، وما خلفته من فقر ونزوح واختلال التوازن التنموي، وهو ما كشفت عنه هذه الحرب بجلاء، وبالتالي فلا بد من سياسات حكومية جديدة تؤمن للناس الحياة الكريمة والخدمات في مناطقهم الأصلية، حتى لا يعودوا مرة أخرى للعاصمة بحثاً عن الخدمات وفرص العمل التي كانت تتمركز بالعاصمة.

وأضاف نور الدين أنه "الآن ومع ما حدث في الخرطوم وفقدانها معظم عوامل جاذبيتها، فمن المرجح أن بعض السكان يُغادرون العاصمة نحو الريف أو الولايات الأخرى، بخاصة أولئك الذين يعانون ضعف الخدمات أو ضغوطاً معيشية، لكن هذا لا يعني أن هذا التقلص سيكون مستداماً في حال استمر الاختلال في معادلة التنمية والخدمات على ما هو عليه قبل الحرب، في حال نجح مشروع إعادة إعمار الخرطوم".

 

ويعتقد المتخصص في التنمية الريفية أن الفرصة باتت الآن مواتية لإصلاح الوضع بالتوزيع العادل للخدمات على مستوى ولايات السودان بعد أن كشفت الحرب عن خلل مهول في تطبيق الحكم اللامركزي، وتركز أكثر من 70 في المئة من خدمات الصحة والصانعات والمصارف وحركة الأموال والاقتصاد في العاصمة.

رؤية جديدة

وكان والي ولاية الخرطوم أحمد عثمان حمزة أكد أهمية بناء رؤية إستراتيجية جديدة تستوعب متطلبات مرحلة إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي والاجتماعي، حيث تشن سلطات ولاية الخرطوم منذ أشهر حملات عنيفة على السكن العشوائي والأجانب المقيمين بطريقة غير شرعية في العاصمة من كل الجنسيات، ووجهت اللجنة المعنية بتفريغ العاصمة من الأجانب غير الشرعيين، نداء عاجلاً إلى جميع أصحاب المنازل بضرورة التبليغ الفوري عن الأجانب المخالفين الذين يقيمون أو يعملون داخل منازلهم، عبر أقرب مركز شرطة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأوضح الرئيس المناوب للجنة العميد سامي بشارة أن اللجنة اتخذت قرارات عدة في شأن العمالة المنزلية الأجنبية الذين دخلوا البلاد بطرق غير شرعية ولا يحملون تصاريح عمل رسمية، حيث يجري بالتنسيق مع دائرة الأجانب في شرطة ولاية الخرطوم لتسلم أي أجانب وترحيلهم فوراً.

زيادة وأسباب

وبحسب إحصاءات رسمية يقدر عدد سكان الخرطوم قبل الحرب بنحو 8 ملايين نسمة، إلا أن دراسات قائمة على مؤشرات الاستهلاك اليومية للسلع وعلى رأسها الخبز التي قامت بها بعض بيوت الخبرة، ترى أن تعداد سكان العاصمة تخطى 12 مليون نسمة. وهذه الرقم أيضاً قبل الحرب أيضاً.

وتعزو تلك الدراسات الزيادة الكبيرة في عدد سكان العاصمة الخرطوم إلى الهجرة الداخلية الناتجة من النزاعات المسلحة وشح فرص العمل وغياب الخدمات في الولايات، فضلاً عن الزيادة الكبيرة الناتجة من لجوء عدد من جنسيات الدول الأفريقية المجاورة إلى الخرطوم، سواء لاستخدامها كمعبر نحو أوروبا أو للاستقرار فيها بصورة نهائية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير