ملخص
أن يقرأ الحاكم الرواية الجيدة فهذه إشارة حضارية، فهو من جهة سيتمكن من خلالها من دون شك من فهم مشكلات مجتمعه فهماً عميقاً أكثر مما يتحصل عليه جراء قراءة تلك التقارير السياسية والاجتماعية الباردة والمطبوخة على نار خاصة، غرضها البحث عن إرضائه وطمأنته.
هناك سلوكات تبدو بسيطة في ظاهرها لكنها وازنة وحاسمة التأثير في المجتمع، إلا أننا لا ننتبه إليها أو لا نقرأها بالقدر الكافي، وإذا ما أردنا أن نعدد العوامل الفاعلة وبصورة واضحة ومباشرة في تطوير مجتمع ما، فمنها تلك المتداولة كثيراً في النقاشات العامة السياسية والفكرية، وعلى رأسها تأتي الحكامة الفاهمة والعادلة، ثم يليها التعليم ومحاربة الأمية، لكن علينا أن ننتبه إلى أمر أساس وهو أنه ليس كل تعليم يستطيع أن ينقذ المجتمع من التخلف، فهناك بعض أنظمة التعليم المتداولة في بلداننا تساعد في تكريس الجهل والعنف والكراهية، وهي بذلك تكرس الأمية الثقافية والسياسية، وهي أمية أخطر بكثير من الأمية الأبجدية.
وأما العامل الآخر الفاعل في تحديث المجتمع فهو الحضور الفاعل للمرأة في المجتمع، الحضور النوعي وليس ذلك الذي تلجأ إليه بعض الأنظمة السياسية في بلدان الجنوب كديكور لمداهنة الغرب، وأما العامل الآخر الذي يشكل حجر الزاوية في تقدم مجتمع فهي المواطنة، بوصفها السلطة العليا التي تجمع بين الجميع، وفيها يتحقق احترام وتكريس التنوع الإثني واللغوي والديني والهوياتي.
لكن ما أريد التطرق إليه في هذه المقالة هو ذلك التأثير الرمزي والعميق في الوقت نفسه الذي قد يخلفه سلوك الحاكم في تعامله مع الأدب والفنون، وقد يحدث هذا من باب القناعة وقد يكون من باب الصدفة، فيصبح هذا السلوك كرة ثلج تكبر وتكبر، فتؤثر في الذوق العام وتحدث تغييراً في المجموعات الاجتماعية والأفراد.
أتحدث هنا عن أثر السلطة الأخرى للحاكم، السلطة الرمزية، تلك التي قد تجعل من حركة تصدر منه بعفوية أو بقصد لحظة فارقة يجري فيها تكريس سلوك ثقافي لدى المواطن البسيط، ويحدث هذا من دون اللجوء إلى استعمال أجهزة الأيديولوجية للدولة التي هي تحت تصرفه بوصفه القائد الأول والمطلق.
إن سلوك الحاكم مهما كان بسيطاً أو عابراً له دلالته وقراءاته وتأويلاته من قبل العامة، إيجابياً كان أم سلبياً، وحين يكون هذا السلوك نبيلاً، حتى ولو لم يكن مقصوداً لذاته، فإنه يعود على الخيال الجمعي بالإيجاب.
أن يقرأ الحاكم الرواية الجيدة فهذه إشارة حضارية، فهو من جهة سيتمكن من خلالها، من دون شك، من فهم مشكلات مجتمعه فهماً عميقاً أكثر مما يتحصل عليه جراء قراءة تلك التقارير السياسية والاجتماعية الباردة والمطبوخة على نار خاصة، غرضها البحث عن إرضائه وطمأنته.
أن يقرأ الحاكم الرواية الجيدة فهذا يحدث نادراً وبخاصة في بلدان الجنوب ويعتمدها في فهم آليات مجتمعه، فهو من دون شك يقر بالحق في حرية الخيال التي هي جوهر الكتابة الإبداعية، وأن هذا الخيال الصادق هو القادر على تكذيب الخطابات المليئة بالبهتان الذي تنشره كثير من مراكز البحث التي تشتغل تحت يافطات بتسميات كبيرة وعريضة في "الإستراتيجيات" و"الاستشراف" و"المستقبليات" و"التنمية البشرية"، وغيرها من عناوين الدجل المتعلمن.
أن يقرأ الحاكم الرواية فهو أيضاً سيدفع بصورة غير مباشر المواطنين البسطاء إلى المغامرة في مثل هذه القراءة، وقبل فترة غير بعيدة تسربت بصورة ما بعض عناوين سلّة الكتب التي حملها معه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لقراءاته في عطلة الصيف، وسلة كتب الصيف هي عادة غربية تمارسها النخب والأسر بصورة عامة، حتى إن دُور النشر الأوروبية تنشر روايات خاصة بهذه الفترة نسميها الدخول الأدبي الثالث بعد الدخول الأول في سبتمبر (أيلول)، والدخول الثاني في أعياد الميلاد، ولكل دخول أدبي كتبه الخاصة، وحين اكتشف القراء عناوين الكتب التي اختارها أوباما تحولت هذه العناوين إلى الصدارة الإعلامية، وأصبحت محط فضول لدى كثر، وقد عرفت هذه الكتب بين عشية وضحاها وارتفعت مبيعاتها وازداد عليها الطلب بصورة مثيرة.
وفي السياق ذاته سئل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الكتاب الذي هو بصدد قراءته في الصيف، فأجاب مشيراً إلى رواية "مساءلة الغريب" لكمال داود، وهذا التصريح زاد من الترويج للكتاب وفي اليوم التالي ارتفعت مبيعاته.
وفي موقع آخر شوهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن وهو يدخل مكتبة في نيويورك ويقتني كتاباً عن فلسطين بعنوان "حرب الـ 100 عام على فلسطين: تاريخ الاستعمار الاستيطاني والمقاومة من 1917 - 2017" لرشيد خالدي، فأثار اختياره هذا نقاشات وردود فعل حول الكتاب والكاتب، وحول طبيعة هذا الاختيار بين مؤيد وناكر، ورفعت هذه الحركة الاختيار من مبيعات الكتاب كثيراً.
كل حركة من الحاكم في اتجاه الكتاب، إيجاباً أو سلباً، تؤثر في علاقة المواطن بالثقافة والقراءة، وبالطريقة ذاتها حين يمنع الحاكم كتاباً من الكتب فإن الناس تهب لقراءته، فالكتب التي يفضلها الحاكم كما الكتب التي يقمعها ويحرقها تثير فضول القراء بصورة أتوماتيكية، فكثير من الكتب التي منعت في العالم العربي يجري تداولها أكثر من تلك المسموح بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أن يقرأ الحاكم الشعر ويحضر أمسيات شعرية فهذا الموقف سيمنح الشعر والشعراء موقعاً تحت شمس البلاد التي يحكمها، وأن يجلس الحاكم إلى طاولة الشعراء فسيطل على مجتمعه من خلال الجنون العاقل الذي يسكن القصيدة الجميلة، وسيعطيه هذا الحضور، إذا كان صادقاً، طاقة إيجابية في فهم بعض من مناطق الظل في بلده، وربما سيسهم في زرع شتلات القراءة الشعرية التي تمنح المواطن إحساساً رهيفاً ووعياً سياسياً وحضارياً، لكن من مدخل آخر.
أن يزور الحاكم أروقة الفنون التشكيلية ويتأمل اللوحات الفنية والمنحوتات البديعة، ويحضر معارض الفنانين التشكيليين ويعيش قليلاً من متعة الألوان وجنون الأشكال والأحجام، والأهم من ذلك أن ينتقي بعضاً من اللوحات لبيته أو قصره أو لمتاحف البلد، فهذا السلوك سيجعل من دون شك العامة تنتبه لأهمية الفن التشكيلي والنحت في تهذيب المشاعر ورفع الوعي الجمالي والحضاري، وكثيراً ما يتحول هذا الاقتناء إلى عامل محدد لبعض مقاييس سوق الفن، هذه السوق التي تعاني الإهمال وغياب القيم والمسطرات المادية والجمالية، بخاصة في بلداننا في الجنوب، حيث لا توجد مرجعيات في تحديد قوانين سوق الفن التشكيلي، وعلى رأسها كيفية تسعير هذه القيم الإبداعية، فنظام سوق الفن التشكيلي غائب تماماً أو يكاد، ويعيش حالاً من الفوضى.
أن يذهب الحاكم إلى صالة السينما ويشاهد فيلماً مع العامة فسيعرف من دون شك الخلل الذي تعانيه السينما في مسألة التوزيع وغياب القاعات وحق الحرية في المشاهدة والاستمتاع بالأفلام العالمية الجديدة، وربما سيدفعه هذا الحضور في صالة للعرض السينمائي إلى تصحيح الاختلال القائم.
عندما يتصالح الحاكم مصالحة جمالية وسياسية مع الرواية والشعر والفن التشكيلي والسينما والموسيقى فهو بذلك يحقق هدفين في الوقت نفسه، فمن جهة يرفع الحس الجمالي لديه ويؤثر هذا من دون شك في رؤيته لمفهوم السلطة حيال حرية الخيال والإبداع، ومن جهة ثانية فإنه يعيد الاعتبار للـ "أنتلجانسيا" الإبداعية ويمنحها المكانة التي تستحقها في مجتمعها.