Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القراءة كتابة مؤجلة في "الحياة ليست رواية" لعبده وازن

القارئ وصديقه وبينهما جوسلين كائنات مقتلعة من جذورها مجروحة ومأخوذة بأسئلة الهوية المضطربة

القارئ بريشة إميلي جيبسون (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

يمضي الشاعر والناقد الأدبي عبده وازن فن السرد الروائي، ويباغتنا برواية جديدة هي الثالثة له، عنوانها "الحياة ليست رواية" (دار المتوسط - 2025)، يمتزج فيها بعض من معالم سيرته وآرائه الشخصية والأحداث التاريخية والأسماء الحقيقية والأفكار الأدبية والفلسفية، بالمتخيل الحكائي.

 تدخل الرواية القارئ، بلا توقع، في عالم يتحدث فيه وازن ببراعة عن القراءة والكتابة والأدب والحياة الواقعية والمتخيلة، والعلاقات الإنسانية والحب والموت والأحداث التي رافقت الحرب اللبنانية من خلال حبكة تنسجها شخصيات ثلاث رئيسة: "القارئ" وجوسلين وجوزف، فضلاً عن شخصيات ثانوية تشرع السرد على وقائع ومفاجآت.

أما العنوان، "الحياة ليست رواية"، فهو بمثابة لغز ينفي التشابه بين الواقع والسرد، ليؤكد في الوقت عينه استحالة معرفة الحدود والفصل بينهما. كأن وازن يكتب ضد إمكان الحكاية، ثم يسلك دربها حتى النهاية مختبراً هشاشتها، غازلاً من خيوطها نسيجاً جديداً للمعنى الذي يقع على الحد الفاصل، إن كان ثمة حد فاصل بين الحياة الحقيقية والسرد. ويمكن اعتبار هذه الرواية انعكاساً لرؤية وازن نفسه إلى الوجود وعلاقته بالأدب.

أبطال الرواية كائنات مقتلعة من جذورها، مجروحة من اليتم والفقد والغياب، مأخوذة بأسئلة اضطراب الهوية، يشدها فضول معرفة الماضي الذي يتفلت في بعض الأحيان من عقاله. كأن تعثر جوسلين على رسائل غرام قديمة تعود لوالدها أرسلتها إليه حبيبته منى قبل زواجه من والدتها، وقد التقت بها وارتبطت بعلاقة صداقة معها. أو يبقى أحياناً أخرى أسير ورق وذكريات، يخاف من يقلبها أن تحرقه بحقيقتها وآلامها، فيعرض عنها كما فعل جوزف حين قرر أن يتعرف على أمه الحقيقية. وجوزف هو صديق "القارئ"، القطب الرئيس المحرك للأحداث، منذ مقاعد الدراسة.

"القارئ" أو الراوي شخصية غامضة لا نعرف له اسماً، نعرفه فقط بلقبه الذي أطلقته عليه جوسلين المتخصصة مثله بالأدب الفرنسي والنظريات النقدية، والتي تناقشه في مسالك القراءة. هو كائن مجبول بالروايات، ولد من الكتب لا من رحم الحياة. يعيش أيامه كما تقرأ الحكايات، ويفهمها كما تحلل الشخصيات في نصوص دوستويفسكي وفلوبير وبروست وكافكا وغيرهم، ولعله خارجها لا أحد. فهو إنسان يعيش في شقته - المكتبة، داخل اللغة، يتحصن بالكتب في مواجهة العالم، محيياً حبكاتها، مصادقاً أبطالها الذين باتوا امتداداً لذاته، أو بات هو امتداداً لهم، يتكلم بلسانهم ويقتبس أقوالهم، ناظراً إلى العالم بعيونهم، متماهياً مع عوالمهم المختلفة حتى اختلاط الحدود بين الواقع والخيال.

المثلث المعقد

"القارئ" هو قرين جوزف في مثلثه العشقي لجوسلين اللبنانية الفرنسية الآتية إلى بيروت، وتحديداً إلى بيت جدتها مدام أنجيل، جارته، بحثاً عن ماضي أبيها الذي خطف وقتل على خطوط التماس في مطلع الحرب الأهلية. أحبها "القارئ" سراً، لكنها وقعت في حب صديقه جوزف، ووقع هو خارج هذا الحب، فلم يجرؤ على إعلانه لكن جوسلين أحست به. ثلاثي لا يربطه إذاً منطق العشق المعتاد، بل حالة يحكمها التأمل والرغبة ويقودها "القارئ" نفسه كشاهد ومراقب قادر على الإعراض عن رغباته وكتم غيرته، ليفسح المجال لجوسلين وجوزف ليكونا عاشقين في بيته، مكتفياً بمراقبتهما في سلوك يتأرجح بين عمق الصداقة والوفاء، وعمق الرغبة والعاطفة المكبوتة في صورة من أكثر صور الحب والعشق تعقيداً. فـ"القارئ" يحب جوسلين التي تحب جوزف، وجوزف يقيم علاقة مع جوسلين لا أكثر، على طريقة الحب في مسرحية راسين "أندروماك"، إذ أوريست يحب هرميون، التي بدورها تحب بيروس، الذي يحب أندروماك، التي تحب هكتور، الذي مات.

جوزف، على ما تخبرنا به الرواية طفل متبنى، شاء القدر أن يتعرض لحادثة صدم دخل إثرها في غيبوبة، ثم ما لبث أن فارق الحياة. فأدى موته إلى انهيار حياة الأبطال الثلاثة. كانت هذه الحادثة مفصلاً في حياة "القارئ" ومنطلقه إلى الدخول إلى القلعة الحصينة للأنا، والكشف عما فيها من خصوصيات دفينة لا يصل إليها أحد إلا في خلوة تجربته وأفكاره، التي يسردها في روايته، سابراً غور نفسه ودخيلته، محللاً شخصيته في علاقته مع جوسلين ومع جوزف، ومع مشاعر الحب والصداقة، والانجذاب الجنسي والغيرة والذنب، وخشية من أن تكون الحادثة التي تعرض لها صديقه بسبب حسده منه. يستعين بالروايات في تقاطع حوارات تكشف عن أمكنة وأزمنة متداخلة ومواقف متعارضة، علماً أن صوت السارد يبقى صدى لذات واحدة تتكلم من عمق التجربة الإنسانية.

لا يكتفي عبده وازن بسرد حكاية هذا الثلاثي، بل يتعداها لينقب في طبقات الكينونة، ذاهباً إلى أقصى حدودها، وسع امتداد الأسئلة الوجودية والثقافية والسياسية التي يطرحها على خلفية الحرب اللبنانية، محولاً العلاقة الثلاثية إلى اختبار في التواصل العميق، تتجلى فيه الرغبة في كسر العزلة حتى مع مَن غيبته الغيبوبة، حين يتناوب مثلاً كل من "القارئ" وجوسلين على شرب النبيذ وقراءة الروايات بصوت عال، في غرفة جوزف داخل المستشفى، إيماناً منهما أن قراءة الروايات كفيلة بانتشاله من غيبوبته.

مرآة القراءات

بهذا المعنى، تتحول الرواية إلى مرآة تعكس الأحداث والقراءات المختلفة، معيدة بـ"ألخيميائية" جميلة تشكيل الذات بين السطور، فاتحة في الوقت عينه نوافذ لمراجعة كبريات الروايات الأدبية من عاطفية أو إروسية أو بوليسية أو تراسلية أو فلسفية أو روايات المغامرات، وللتفكير في ماهية القراءة والكتابة بوصفهما فعلاً وجودياً يمنع تلاشي الحياة، فيمسك بها ليترجمها بغية زيادة القدرة على فهمها وتحليلها عبر تصوير الحياة لنقلها إلى عالم الإدراك.

"القارئ"، بطل الرواية، ليس إذاً إنساناً عادياً، بل هو كائن يبتلع الكتب، كأن القراءة صارت مهنته كما يمتهن الطب أو الهندسة أو المحاماة. وهو شاب فرنكوفوني ثري درس (مثل جوسلين) الآداب الفرنسية في الجامعة اليسوعية، فقرر قبل نيله الإجازة هجر الجامعة، وتكريس حياته للقراءة. والقراءة عنده ليست استهلاكاً أو تسلية، بل فعل خلق. فهو يقرأ ليعيد العالم إلى صيغه الأولى وليصنع من القراءة كتابة مؤجلة، أو لنقل كتابة تعيش داخل القراءة. هكذا يصر على قولته المتكررة "أنا قارئ يكتب، ولست كاتباً".

بهذا الالتباس الخلاق بين الفعلين، يقيم عبده وازن معمار روايته، التي تسلك دروباً "ميتاسردية"، إذ تنبش في النصوص داخل النص، وتحفر في تاريخ الرواية ملخصة بعضها، مقيمة بعضها الآخر، مقارنة بين روايات مختلفة، من أقدم رواية في تاريخ الإنسانية كـ"التحولات أو "الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس المادوري خلال القرن الثاني للميلاد، حتى آخر الإصدارات السردية باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والعربية، معرجاً على مسألة ترجمة النص الأدبي، متحدثاً عن دخوله إلى جمال اللغة الفرنسية.

اسماء وروايات

هكذا تحضر في نصه روايات دوستويفسكي وتولستوي وبول أوستر وتورغينيف ونيكوس كازانتزاكيس وألبير كامو وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار ومارغريت يورسنار وجويس كارول أوتس وإيزابيلا أليندي وفيرونيك أولمي وصمويل بيكيت وفرانتز كافكا وغوستاف فلوبير وهنري ميلر والماركيز دو ساد وغوته وثرفانتس وكواباتا وميشيما وستيفان زفايغ وفرجينيا وولف، وألبير قصيري ورومان غاري وبورخيس... قرأ كل هذه الروايات بلغة موليير، وروايات نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق يوسف عواد ومحمود تيمور، بالعربية. وتتحرك أمام أعيننا شخصيات إيما بوفاري وشهرزاد وتيريز ديسكييرو وزوربا اليوناني والأمير ميشكين وآنا كارنينيا وأنطوان روكانتان، وسواهم... كأن عقدة الرواية ليست عند وازن سوى ذريعة للخوض في متن أهم الروايات العالمية والأفلام السينمائية، واضعاً إياها تحت مجهر التأويل، مستنطقاً شخصياتها وأهدافها، مضيفاً إلى العقدة الأصلية عقداً متداخلة ضمن الرواية نفسها، على نحو يشكل ما يشبه "الميتاسرد"، ذاك الذي تحدث عنه جيرار جنيت في دراساته، مانحاً النص بأكمله هيئة درجة يفتحها الراوي ضمن روايته التي تشكل إطار السرد، وهي سمة بارزة في "ألف ليلة وليلة"، يتلقفها لاحقاً عدد من الروايات العربية والأوروبية.

 وفي هذا الإطار، تتكرر المقارنة بين دوستويفسكي، الذي يظهر تارة كعبقري ممسوس، وتارة كنبي يرى ما لا يرى، وبين تولستوي، الذي لا ينكر له المجد، وإن خفت بريقه أمام شعلة كاتب "الأخوة كارامازوف" و"الأبله" و"الجريمة والعقاب"، لتنتهي دوماً بترسيخ تفوق دوستويفسكي، كأنما "القارئ" تابع من أتباعه، فضلاً عن مقارنات أخرى تنبثق في مواضع شتى، وبين روائيين وروايات مختلفة.

وتحضر في الرواية أيضاً كتب ماكيافلي وهولبرغ وسويدنبرغ ورولان بارت وقصائد بودلير ورامبو والسياب وأراغون وقيس بن الملوح ولوحات لكبار الرسامين الذين تفننوا في رسم المرأة القارئة في أوضاع عدة.  في هذا البنيان، تتحول الرواية إلى مكتبة متنقلة، يجر "القارئ" إليها مكتسباته من مكتبات باريس كـ"جيبير جوزف" و"لا هون"، ومكتبة "أنطوان" في بيروت، حيث سيتعرف في نهاية الرواية على روائية شابة تكتب بالعربية، تدعى رنا، يقيم معها علاقة عاطفية انطلاقاً من وصفها روائية.

رواية عبده وازن ليست إذاً حكاية أحداث درامية، بل نهر من التأملات، وحوار داخلي يتقاطع أحياناً مع الخارج. لا حرب هنا، ولا معارك أو مذابح أو تغير في أحوال مدينة، بل صمت الإنسان المنكفئ على وحدته وعلى هشاشته وهويته وعلى استفهاماته الوجودية.  في هذا السياق، نفهم تناول الرواية أسئلة العلاقة باللغة الأم والوطن وثنائية اللغة العربية والفرنسية، ومشكلة الهوية والطائفية والقتل والاستشهاد والصداقة والحب والارتباط والانتحار وحال الجسد بعد الموت، والروح والله وعلاقة الروائي بقرائه، فضلاً عن شؤون الحياة الصغيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا تبحث رواية عبده وازن إذاً عن نهاية لها، بل عن سؤال البداية: من يقرأ من؟ أهو "القارئ" الذي يقرأ الرواية، أم الرواية التي تقرأ "القارئ"؟ ذاك أن هاجسها هو تحول "القارئ" من مستهلك للنصوص إلى كاتب لها. هذا، بعد عودة جوسلين إلى فرنسا، الوطن الثاني الذي فضلته على لبنان وطنها الأول، وفي باريس، قرأت الرسالة التي يعلمها فيها "القارئ" برحيل جوزف. وها هي في لحظة مكاشفة مؤجلة، تبعث له من باريس برسالة إلكترونية يتيمة تخبره فيها عن مشاعرها نحوه كصديق، ومعرفتها بمشاعره التي لم يجرؤ يوماً على البوح بها، لتظل صداقتهما في منطقة رمادية، واقعة بين الحميمية والرغبة المكبوتة، بين الصداقة والحب الذي لم يعلن، والذي فضلت جوسلين البقاء بعيدة منه.

 في المقابل، يظل "القارئ" شخصاً هامشياً، منصرفاً إلى رواياته، مفضلاً صورة الحياة على الحياة نفسها، مؤنساً رفقة شخصياتها كما لو كانت كائنات حية تشاركه يومياته. ولعله باستثناء التبدل العميق الذي أحدثته جوسلين في روحه، لا يعرف من العلاقات سوى ما كان عابراً، هو الذي يرى أن أصدقاءه الواقعيين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة.

هذا بعض من مطارحات رواية عبده وازن، التي تتبدى في متنها ملامح من سيرته، لا سيما حين يستحضر مسقط رأسه، الدكوانة، وحين يكشف عن اهتماماته وقراءاته الأدبية التي تتقاطع مع اهتمامات "القارئ"، وحين يحضر كشخص من شخوص الرواية يوم يخبر "القارئ" الروائية رنا، أنه يعمل على كتابة رواية، لتقترح عليه عرضها على شاعر صديق لها يدعى عبده وازن، كي يصححها عربياً، دامجاً في الوقت عينه بين لعبة السرد الذاتي و"الأوتوفيكسيون" وعالم الرواية، موظفاً ثقافته الهائلة في خدمة السرد.

هكذا، تؤكد لنا "الحياة ليست رواية" أن الحياة لا يمكن اختزالها في نص، وأنها تفرض على الروائي لكي تستقيم روايته أن يكون على تماس بها، يمضغ عصارتها وينهل بما يكفي من ثقافتها، مذكراً إيانا أن كل كائن بشري، مهما بدا هامشياً، هو رواية تمشي على قدمين، وأن فهم شخصية "القارئ" يتطلب قراءة تتجاوز صفحات الكتب، لتعود بنا إلى نسيج الحياة ذاتها، بتناقضاتها ومصادرها المعرفية المتعددة. وكذلك أن الروايات الواقعة على الحد الفاصل بين الواقع والخيال، تعمل وفق طريقتها الخاصة على إدخال القارئ إلى عالم الحكايات، بغية تبيان الكيفية التي يمكنها أن تساعدنا بها الآليات السردية على فهم الحياة.

إن رواية عبده وازن لن تكف عن إدهاش قرائها، وهي من دون شك تحتل مرتبة عليا في عمارته الفكرية اللامعة، مضيفة إليها مدماكاً جديداً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة