ملخص
أن يتمحور كلام المرشد حول "الوطن" و"إيران" و"الشباب الإيراني" الغيور، يعني أنه قد يشكل مؤشراً على تحول جديد في الخطاب السياسي باتجاه الداخل الإيراني، وتغيير يرقى إلى مستوى التحول الاستراتيجي في هذا الخطاب. وقد يكون نتيجة إدراك عميق لحجم وعمق التحديات التي يواجهها النظام، سواء على مستوى الشرعية أم محاولة جسر الهوة القائمة بينه وبين القواعد الشعبية.
ما بات واضحاً، ويزداد وضوحاً كلما ابتعدنا من تاريخ الضربة الإسرائيلية بمشاركة أميركية، التي استهدفت النظام الإسلامي في إيران خلال يونيو (حزيران) الماضي، هو أن هذا الهجوم أحدث تغييرات عميقة في سلوك النظام وقياداته ومؤسساته، قد تتعدى مسألة التغيير التكتيكي إلى التغيير الجوهري، بصورة بدأت تنعكس على سلوكياته العامة، بحيث فرض على القيادة ومراكز القرار نوع من الخطاب الجديد أكثر واقعية، يعتمد على قراءة الحقائق التي كثيراً ما تغافل عنها المسؤولون خلال العقود الأربعة الماضية، عندما غلبوا وقدموا البعد الأيديولوجي وهويتهم الإسلامية على الخطاب الوطني والهوية الإيرانية. أو في الأقل لم يستطيعوا التوفيق أو التوليف بينهما لإنتاج هوية مركبة، تشكل خط دفاع عن إيران والنظام في مواجهة الأخطار والتحديات.
ولعل أبرز تجليات التغييرات في السلوك، ظهر عندما أجبرت الطبقة العسكرية، بعد الصفعة التي تعرض لها الذراع الأيديولوجية للنظام في مؤسسة "حرس الثورة الإسلامية"، على التخلي عن الخطاب العسكري الاستعراضي المليء بالتحدي والتهديد بالردود الماحقة والساحقة ضد أي طرف يحاول التعرض لإيران أو يعتدي عليها، والعودة لنوع من الواقعية في تعريف القدرات العسكرية للذارع الأيديولوجية للنظام.
تخل عن مصطلحات النظام
وفي خطابه الأخير أمام الفائزين بالمسابقات الرياضية والعلمية الدولية، كان لافتاً أن المرشد الأعلى وعلى مدى 27 دقيقة استغرقها الخطاب، لم يحصل أن استخدم أياً من التعريفات الأيديولوجية والعقائدية التي تشكل مرتكزات الهوية الدينية للسلطة، كالنظام الإسلامي والثورة الإسلامية و"الحرس الثوري". ولم يجير الإنجازات الرياضية والعملية التي حققها هؤلاء المحتفى بهم إلى البعد العقائدي والدوافع الدينية، ولم يؤطرها في قوالب جاهزة ومسبقة دأب على تكريسها كجزء من إنجازات النظام والثورة الإسلاميَين.
خطاب المرشد هذا الذي جاء خالياً من أية اشارة إلى مصطلح النظام الإسلامي، ولم يستخدم صفة الإسلامية للثورة عندما ذكرها، حتى تعمده عدم الإشارة إلى القيادات العسكرية الذين اغتالتهم إسرائيل في هجومها، مكتفياً بالإشارة إلى العلماء النوويين، لا يمكن اعتبارها هفوة أو مسألة عشوائياً فرضتها طبيعة اللقاء. بل قرار عن سابق تصور وتصميم، حاول فيه المرشد تجنب المحطات التي قد تدفعه لاستخدام المصطلحات الأيديولوجية والعقائدية والدينية، خصوصاً إذا ما أراد الحديث عن قادة "الحرس" المقتولين، باعتبار هذه المؤسسة عقائدية وأيديولوجية وإسلامية.
عمق التحديات
أن يتمحور كلام المرشد حول "الوطن" و"إيران" و"الشباب الإيراني" الغيور، يعني أنه قد يشكل مؤشراً على تحول جديد في الخطاب السياسي باتجاه الداخل الإيراني، وتغيير يرقى إلى مستوى التحول الاستراتيجي في هذا الخطاب. وقد يكون نتيجة إدراك عميق لحجم وعمق التحديات التي يواجهها النظام، سواء على مستوى الشرعية أم محاولة جسر الهوة القائمة بينه وبين القواعد الشعبية، من خلال التركيز على الهوية الوطنية والإيرانية التي تجمع بين مكونات الشعب المذهبية والقومية والإثنية، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخطاب الوطني الجامع
والعودة للخطاب الوطني الجامع، الذي يشكل محور برنامج العمل الحكومي الذي تبنته حكومة الرئيس مسعود بزشكيان منذ انتخابه رئيساً للجمهورية، الذي حظي بدعم واضح من المرشد الأعلى، كان نتيجة إدراك عميق لحجم الانقسام الحاصل بين النظام الأيديولوجي والقاعدة الشعبية، بما هي تعبير عن توجهات واتجاهات متعددة ومختلفة لا يمكن حصرها في معارضة ما أو تيار علماني أو جماعة إصلاحية أو قوى تعمل على قلب النظام والقضاء عليه، بل تجد تعبيراتها في إحساس المرشد ومنظومة السلطوية بأنها تفقد ما تبقى لها من شرعية شعبية لم تعد الجماعات المؤيدة للنظام قادرة على تعويضها وتشكيل حامل للحفاظ على الهوية الدينية والأيديولوجية للنظام، خصوصاً بعد الانتفاضة الشعبية التي وقعت بعد مقتل الفتاة مهسا اميني في سبتمبر (أيلول) 2022، وكشفت عن انقسام عمودي ثقافي بين أيديولوجية النظام وتوجهات المجتمع، وكانت الأخطر على الهوية الدينية للنظام ووضعته أمام أسئلة وجودية ترتبط بمستقبل بقائه واستمراره ممسكاً بالسلطة. وهو انقسام كان ذروة التحركات الشعبية والتراكم الاعتراضي، الذي نتج من سلسلة سابقة من المواجهات حصلت على خلفيات اقتصادية وسياسية.
تركيز المرشد الأعلى في خطابه على الهوية الوطنية والإيرانية، فضلاً عن أنها محاولة لترميم الهوة القائمة بين النظام وهذه الشرائح التي تشكل العصب الأساس لأية عملية تغيير، وتحمل بداخلها بذور التحولات بما فيها من أخطار حقيقية لاستمرار السلطة القائمة. فإنها تعتبر محاولة من المرشد لفهم عمق الأزمة التي يواجهها النظام، وتفرض عليه التحرك من أجل استعادة الشرعية الشعبية عبر الخطاب الوطني الجامع بعيداً من الخطاب الأيديولوجي الذي فقد جاذبيته لدى غالبية الشعب الإيراني، خصوصاً شريحة الشباب.
تقديم الخطاب الوطني والقومي، قد يدفع المرشد الإيراني ومعه جزء من منظومة السلطة والقرار، باستثناء المتشددين أو الراديكاليين الذين يتعاملون مع أي تحول باعتباره تهديداً وجودياً لمصالحهم ومكاسبهم وبنيتهم الأيديولوجية، قد يدفعهم إلى إعادة تعريف مفهوم العمق الاستراتيجي للنظام، التي قامت سابقاً على مبدأ تفضيل أو تقديم الخارج بما يعنيه من نفوذ وامتداد عبر الجماعات الموالية له في الإقليم، بحيث يصبح هذا العمق قائماً على البعد الإيراني القومي عوضاً عن البعد الإسلامي والعقائدي. أي التأسيس لمرحلة فهم جديد داخل القيادة ومنظومة السلطة لتحولات النظام الإقليمي الذي يركز على المصالح القومية، مما يعني إلى حد ما اعترافاً ضمنياً من هذه القيادة والمنظومة بأن الاستثمارات السابقة في الإقليم، التي تجاوزت مفهوم تصدير الثورة إلى مبدأ المصالح الاستراتيجية لا يمكن أن تحقق أهدافها ما لم يسطع النظام بلورة مفهوم قومي ووطني لهذه المصالح. وهذا يفرض عليه أن يعكس المعادلة التي كرسها على مدى العقود الماضية، التي أعطت الأولوية للنفوذ والدور الخارجي على حساب الداخل وأزماته ومطالباته، بأن يقدم الداخل باعتباره القادر على تشكيل جدار الدفاع عنه، ويسهل له القدرة على مواجهة التحديات والضغوط التي يتعرض لها نتيجة السياسات التي التوسعية.
إلا أن السؤال الذي تطرحه هذه المتغيرات في خطاب المرشد الإيراني وسياسات الحكومة هو: هل ستؤسس لمسار جديد في مفهوم السلطة والحكم، والانتقال إلى مرحلة من الانفتاح الحقيقي جامع لكل الإيرانيين ويضمن حقوقهم وحرياتهم الشخصية والسياسية في إطار تعددي واسع، بحيث يمكن وصفه بأنه تحول جوهري، أم أن منظومة السلطة ذهبت إلى هذا الخطاب من منطلق تكتيكي يمكن الانقلاب عليه في أية لحظة يشعر فيها النظام أنه ابتعد من دائرة الخطر، خصوصاً وأن الجماعات الراديكالية التي تعتبر الحليف الأول للنظام في البعد الأيديولوجي ستلجأ إلى أعلى مستويات المقاومة أمام مثل هذا التغيير؟