Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المفقودون في غزة... ربما الموت أسهل من البحث عنهم

يشكو الفلسطينيون من ازدواجية المعايير ما بين الاهتمام باستخراج رفات الرهائن وإهمال ضحايا القطاع

فلسطينيون يبحثون عن رفات ضحاياهم بين أنقاض المباني وسط الدمار الواسع النطاق (أ ف ب) 

ملخص

بأدوات بسيطة يبحث الغزيون عن جثث مفقودة تحت الأنقاض، وبالجرافات يبحثون عن رفات الرهائن الإسرائيليين، مفارقة عجيبة تحملها قصص مؤلمة عن المفقودين.

تسير نائلة بين الأزقة التي دمرها القصف الإسرائيلي في غزة ترفع الحجارة المتناثرة بأيديها لتصل إلى بيتها الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية في الحرب واختفت تحته جثة ابنها، تنفض الغبار عن بقايا الأبواب والصور وتشم رائحة الملابس المحروقة علها تهديها إلى أثر ولدها المفقود منذ أشهر.

بالنسبة إلى نائلة لم يعد الموت نهاية رحلة ابنها، بل كان بدايتها بعد فقدان جثته تحت الأنقاض، بصوت يخنقه الأسى تقول "ربما انتهت الحرب، ولذلك عدت إلى المكان الذي فقدت فيه ابني، لم أتعرف على الشارع من كثرة الدمار، لقد وجدت منزلي تحول لحفرة كبيرة".

تحت الأنقاض

نائلة التي قتل زوجها خلال الحرب حين قررت النزوح جهزت حقائبها وغادرت بيتها برفقة ابنها، لكنه هرع مسرعاً نحو البيت، فقد نسي جهازه المحمول، حاولت الأم إيقافه، لكنه ركض مسرعاً، وعندما دخل إلى المنزل قصفت الطائرات الإسرائيلية المكان ودفنت جثمانه تحت الأنقاض.

"كان الوضع أشبه بالبركان"، تضيف نائلة، التي لم تتمكن من العودة إلى بيتها بسبب تطاير الحمم النارية إثر القصف المتواصل، وحينها طأطأت رأسها وهربت من القذائف المتفجرة، وبعد توقف إطلاق النار في غزة، عادت مجدداً للبحث عن ابنها تحت الأنقاض.

تعمل نائلة وحدها، بيدها تحاول رفع الحجارة، وتشم رائحة بقايا الملابس، بعد بحث طويل، وجدت جثة ابنها، صرخت بصوت عالٍ، "عدي"، لكنه لم يسمعها، لقد فارق الحياة منذ أشهر، خرت الأم على الأرض وودعت ابنها وبكت كثيراً وحملته إلى ثلاجة الموتى في المستشفى، ودعته ودفنته.

عثرت عليه من دون مساعدة

نائلة التي فقدت الأمل في العثور على جثة ابنها، نجحت بعد رحلة بحث بأيديها وحدها ومن دون مساعدة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وعجز الدفاع المدني عن استخدام معداته القليلة المهترئة المعطوبة، في العثور على رفاته ودفنته.

 

ترفع يديها للسماء، تقرأ عليه آيات من القرآن، تتفوه بكلمات متقطعة "هو ما رجع حي، بس الأرض رجعته لي بطريقة ثانية، لقد وجدته بعد ساعات بحث، غيري لم يجدوا ضحاياهم وفي حاجة إلى معدات ثقيلة لاستخراج الجثث من تحت طبقات من الأنقاض".

10 آلاف مفقود

في الحرب فقد الغزيون آثار 10 آلاف شخص، يعتقد الدفاع المدني أنهم ضحايا قتلوا ولا يزالون تحت الأنقاض، ومنذ توقف القتال بموجب خطة ترمب للسلام والازدهار في غزة، بدأت العائلات برفقة رجال الإسعاف والدفاع المدني والطوارئ بالبحث عن الذين اختفت آثارهم.

لا يملك الدفاع المدني معدات ثقيلة للبحث لاستخراج الرهائن، وينهمك الغزيون بأعمال حفر بدائية بحثاً عن جثامين أحبائهم تحت الأنقاض، يحفرون ركام البيوت المدمرة بأدوات بدائية بسيطة في مختلف أحياء وشوارع وأزقة قطاع غزة، في محاولة لطي صفحة الألم والوجع التي لن تنتهي إلا بعد انتشال الضحايا ودفنهم.

اختفى أثر مصعب، وظن ابنه عمر أن أباه معتقل عند الجيش الإسرائيلي، لكن هذه الاعتقاد لم يقنع قلبه، وذهب للبحث عن رفات والده في ثلاجة الموتى، هناك وجد قميصاً يشبه الذي يرتديه الأب حمله شمه واستنشق الرائحة، وأخذ يسأل كثيراً عن الجثة.

رائحة الجثث المتحللة

فتح عمر الجثامين التي كانت في أكياس بيضاء بلا أسماء، لم يجده بالمطلق، ولما أبلغه رجال الدفاع المدني أنهم أحضروا القميص ظناً منهم أنه يعود لجثة ما، ركض الابن إلى مكان بيته المدمر وبدأ ينبش عن جثة أبيه، يقول "تمنيت لو لم أعرف أنه قتل، كنت أظنه معتقلاً".

عندما وصل عمر إلى منطقته، دفعه شعور غريب للمضي، شم رائحة تراب وموت قديم، كان لديه إحساس مرعب يبكي ويصرخ ويتقدم ببطء فوق الأنقاض كأنه على موعد مع جثة أبيه، تنفس بصعوبة وأخذ ينقب بأظافره بين حجارة البيت المدمر.

 

يشم عمر رائحة جثامين متحللة كريهة من أسفل الأنقاض، جلب مطرقة ومجراف وأخذ ينبش في الأنقاض، تعب وتصبب العرق من جبنيه كان يلهث كثيراً عندما اتصل بفريق الدفاع المدني طالباً المساعدة.

يقول عمر، "أعيش وجعاً مزدوجاً يتمثل بفقدان أبي وعدم تمكني من انتشال جثمانه، بسرعة سجلت اسم والدي في سجلات المفقودين، ورد على الدفاع المدني أنهم في حاجة إلى معدات وحفارات ضخمة للوصول إلى الجثامين، فالركام هائل، والبيوت متداخلة. كل ما أتمناه اليوم انتشال جثامين حبيبي ودفنه بكرامة".

ننسى تحت الأنقاض

وسط هذه القصص المفجعة واستمرار معاناة الغزيين، لم يعد الركام مجرد جزء من بقايا حرب وحشية، إنما صار عبارة عن مقبرة كل حجر أسفله اسماً، وبعد عامين على حرب طاحنة وساحقة بدأت غزة أعمال الحفر والنبش سعياً إلى انتشال جثث أحبة بقوا تحت الردم.

عندما كان آدم يقف على نافذة بيته قصف الجيش الإسرائيلي المنطقة، ودمر بيت ملكة بالكامل، ومنذ ذلك اليوم تبحث الأم عن جثمان ابنها المدفون تحت أربع طبقات، تقول "أريد أن أكرمه بالدفن، حتى لو بقيت منه عظمة واحدة".

حاولت ملكة إزالة الركام بإمكانات بسيطة، لكن كمية الدمار الواسعة والقطع الأسمنتية الكبيرة تتطلب معدات غير متوافرة بفعل المنع الإسرائيلي لدخولها، وتضيف "كلما رأيت محاولات استرداد جثث الرهائن الإسرائيليين، أشعر أني أعيش في عالم لا يعترف بإنسانيتي".

 

غاضبة ملكة تسأل "هل من العدل أن يبذل كل هذا الجهد لجثة إسرائيلي، بينما نحن ننسى تحت الأنقاض؟ كل ما أريده هو أن أحزن كما يجب، أن أبكي على قبور لا على أطلال وركام".

حاول الدفاع المدني انتشال جثة ابنها، لكنه فشل، تقف ملكة وبيدها وردة بيضاء صغيرة، تشم بأنفها رائحة ما وتسير نحوها ببطء شديد الدموع تسيل على وجنتيها يداها ترتجفان تضع الزهرة على أنقاض بيتها، وتهمس "حولت ركام بيتي إلى قبر لابني".

وردة بيضاء

من طريق شم رائحة الجثث المتحللة اهتدت ملكة إلى مكان ابنها تحت الأنقاض، ومنذ ذلك اليوم باتت زيارتها لأنقاض بيتها طقساً يومياً تقف عنده وتكلمه، تقول "رائحة جثته تمر على جرح مفتوح، الحرب لم تنته حين يسكت السلاح، لكن الحرب تسكن القلب وتظل بداخله حتى أدفن جثة ابني".

كل يوم تحفر ملكة بأيديها وبأدوات بسيطة تكسر الحجارة للوصول إلى جثة ابنها، وكثيراً طلبت مساعدة الدفاع المدني الغارق في كم كبير من الاستغاثات لانتشال المفقودين تحت أنقاض غزة، لكن من دون نتيجة.

تمكنت ملكة من تحديد مكان الجثة عبر الرائحة، ثم نسقت مع الدفاع المدني لاستخراجها باستخدام أدوات بسيطة جداً، لكن الركام والحديد صعباً المهمة في غياب المعدات اللازمة.

أمراض لا سيطرة عليها

يقول متحدث الدفاع المدني محمود بصل "المهام التي كانت تستغرق ساعة واحدة باتت تستغرق ساعات طويلة، إذ تعمل الطواقم منذ الصباح حتى المساء من دون أن تتمكن من إتمام عمليات الانتشال، كل يوم نتلقى مناشدات من الأهالي لإخراج ذويهم من تحت الركام، لكن انعدام المعدات يجعل الأمر شبه مستحيل". ويضيف "المعدات الثقيلة غير موجودة، ملف المفقودين هو الملف الأصعب الذي يواجه الدفاع المدني منذ بداية الحرب، نحتاج إلى جرافات وبواقر وكباشات ضخمة، وهذه المعدات ما زالت عالقة عند المعابر، ما يؤدي إلى تعطيل عملنا بصورة كاملة".

ويؤكد بصل أن عشرات العائلات تحاول بأيديها نبش الركام، بحثاً عن جثامين أبنائها من خلال استخدام وسائل بدائية، لكنه يشير إلى أن هذه الممارسات تشكل خطراً على حياتهم في ظل وجود مخلفات الحرب التي لا يجيدون التعامل معها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غزة أمام كارثة إنسانية حقيقية، فالجثامين لا تدفن، تسبب تتكاثر الأمراض نتيجة تحلل الجثث، وبالفعل حذرت المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية حنان بلخي من أن انتشار الأوبئة في قطاع غزة أصبح خارجاً عن السيطرة بسبب الجثث العالقة تحت الأنقاض.

البحث عن رفات الرهائن

الغزيون لا يبحثون فقط عن جثث ضحاياهم، وإنما يبحثون أيضاً عن رفات الرهائن الإسرائيليين، ولكن ليس بالطريقة نفسها، إذ تساعدهم جرافات وفرق دولية ومعدات ثقيلة، وهذا لأمر أثار غيظ أهالي المفقودين. هنا يؤكد متحدث الدفاع المدني أن هناك ازدواجية في معايير التعامل جثث الفلسطينيين والإسرائيليين.

يقول مهند ولديه جثة قريب تحت الأنقاض، "تتواصل عمليات البحث عن جثث الإسرائيليين القتلى في قطاع غزة بإمكانات جيدة وتتسابق الأطراف الدولية وتتضاعف الضغوط لاستعادة رفاتهم، لكنهم يتجاهلون نحو 10 آلاف جثمان من ضحايا غزة مدفونة تحت الركام".

يعكس مشهد هذا تناقض ازدواجية المعايير الإنسانية والأخلاقية، ويقول متحدث الدفاع المدني "هناك ازدواجية للمجتمع الدولي في درجة حرصه على انتشال ضحايا غزة ورفات الرهائن، ولا نرى حرصاً من المجتمع الدولي والمنظمات على انتشالهم".

ينفي الصليب الأحمر تقديم أي مساعدة في انتشال جثث الرهائن الإسرائيليين، وتقول المتحدثة باسمه كريستيان كاردون "المنظمة تسهل تسليم رفات أشخاص سقطوا من الجانبين في الحرب وليس بالبحث عنهم، عملية البحث عن رفات قتلى الجانبين ربما تستغرق أياماً أو أسابيع، وهناك احتمال ألا يتم العثور عليهم أبداً".

اقرأ المزيد

المزيد من متابعات