ملخص
الجلوس لفترات طويلة بات سلوكاً يومياً خطراً يرتبط بزيادة أمراض القلب والسكري وفقدان الكتلة العضلية وتيبس المفاصل، لكن الأبحاث تؤكد أن الحركة المنتظمة ولو لدقائق قصيرة قادرة على عكس هذه التأثيرات وتحسين جودة الحياة. ويقترح الخبراء حلولاً بسيطة مثل تبديل أوضاع الجلوس وتمارين القوة والتمدد والأنشطة القصيرة المتكررة خلال اليوم.
أصبح الجلوس الوضع الافتراضي غير الرسمي للبشرية، فبالنسبة إلى معظمنا يعني العمل الجلوس إلى مكتب، والسفر الجلوس خلف مقود السيارة، والاسترخاء بعد يوم طويل الجلوس على الأريكة، ونُكافأ على هذا السلوك أيضاً، إذ تحتفي ثقافة "العمل المتواصل" بساعات الجلوس الطويلة أمام المكاتب، بينما تمنحنا الشاشات دفعات من الدوبامين المبهج بمجرد نقرة زر أو تمريرة إصبع.
والمشكلة أن الجسم البشري صمم للحركة ولا يؤدي وظائفه على نحو جيد عندما يطلب منه البقاء في الوضع نفسه لفترات طويلة، فالجلوس بحد ذاته ليس خطراً، إذ يحتاج الإنسان إلى توازن بين الراحة والجهد ليحافظ على أدائه الأمثل، لكن قضاء فترات طويلة من اليوم في السكون قد يعرض الصحة لأخطار حقيقية.
وقد ربط الجلوس المفرط بارتفاع خطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري من النوع الثاني، وبزيادة احتمالات الوفاة الباكرة أيضاًن وتشير "هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية" NHS إلى أن الجلوس لفترات مطولة "يؤدي إلى تباطؤ في عملية الأيض، مما يؤثر في قدرة الجسم على تنظيم مستويات السكر وضغط الدم وتفكيك الدهون".
ولمعرفة المزيد اطلعتُ على الدراسات العلمية التي تبحث في مقدار الجلوس الذي يمكن اعتباره مفرطاً، ثم استعنت بآراء عدد من الخبراء لاكتشاف طرق عملية للحد من آثاره السلبية.
ما أضرار الجلوس المفرط؟ ومتى يصبح مفرطاً؟
تشير معظم الأدلة إلى أن تقليل وقت الجلوس يرتبط بنتائج صحية أفضل، وغالباً ما يُستخدم حدّ تسع إلى 10 ساعات من الجلوس يومياً كمؤشر على بداية التأثيرات السلبية، سواء في ما يتعلق بفقدان الكتلة العضلية مع التقدم في العمر أو بصحة القلب، وتشير دراسات إلى أن قضاء تسع أو 10 ساعات أو أكثر جلوساً كل يوم بات أمراً شائعاً لدى كثر في المملكة المتحدة.
لكن لا يوجد مقدار محدد من الجلوس يبدأ عنده الضرر بصورة مفاجئة، فبحسب الهيئة الصحية البريطانية "لا توجد حالياً أدلة كافية لتحديد حد زمني معين للجلوس اليومي"، إذ تتدرج العلاقة بين الجلوس المفرط وآثاره الصحية عبر طيف واسع يختلف من شخص إلى آخر، إلا أن ما تتفق عليه الدراسات هو أن قضاء وقت أقل في الجلوس يعود بالنفع على الصحة.
فقدان العضلات والقوة البدنية
نشرت مجلة "أرشيفات الصحة العامة"Archives of Public Health هذا العام دراسة واسعة النطاق هدفت إلى تحديد عدد ساعات الجلوس اليومي التي ترتبط بزيادة خطر الإصابة بما يُعرف بالـ "ساركوبينيا" sarcopenia، أي الفقدان التدريجي للقوة والكتلة العضلية المرتبط بالتقدم في العمر، والذي يؤدي غالباً إلى تراجع القدرة الجسدية.
ومن خلال متابعة 9998 مشاركاً، وجدت الدراسة أن من يجلسون تسع ساعات أو أكثر يومياً كانوا أكثر عرضة بنسبة 90 في المئة للإصابة بالـ "ساركوبينيا"، مقارنة بمن يجلسون أقل من أربع ساعات في اليوم.
وعلى رغم أن الارتباط لا يعني بالضرورة وجود علاقة سببية مباشرة، فإن تحليل البيانات أظهر علاقة خطية [علاقة وطيدة] واضحة بين مدة الجلوس اليومية واحتمال الإصابة بالـ "ساركوبينيا".
وأضافت الدراسة أن "الأشخاص الذين لا يشاركون في أنشطة ترفيهية بدنية لديهم أيضاً معدلات أعلى من الـ "ساركوبينيا" مقارنة بمن يمارسون أنشطة قوية بانتظام".
وباختصار تشير هذه النتائج إلى أن التحرك المنتظم وتقليل فترات الجلوس يمكن أن يخففا من آثار الـ "ساركوبينيا"، كما تؤكد أهمية التمارين التي تنشط الجسم والدورة الدموية، خصوصاً تمارين القوة التي تسهم بفاعلية في إبطاء تطور هذه الحال بفضل قدرتها على تقوية الأنسجة العضلية.
تيبس المفاصل وآلامها
ليست الـ "ساركوبينيا" الأثر الجسدي الوحيد المحتمل للجلوس المفرط، فالجسم البشري يعمل وفق ما يعرف بمبدأ "سايد" SAID، وهو اختصار لعبارة "التكيف المحدد مع المتطلبات المفروضة"Specific Adaptation to Imposed Demands، أي أنه يتأقلم ليحسن أداء الأنشطة التي يكررها باستمرار، فإذا قضيت وقتاً طويلاً في وضعية واحدة فسيتكيف جسدك ليصبح أكثر كفاءة في البقاء على ذلك الوضع، فعند الجلوس لفترات طويلة كل يوم تتصلب عضلات الورك القابضة مع الوقت لتسهيل إبقاء الفخذ في الوضع المرتفع، مما يجعل مد الساق أو إطالة العضلة لاحقاً أمراً شاقاً ومؤلماً.
ومع مرور الوقت قد يؤدي ذلك إلى انزعاج أو إصابة، إذ تضطر العضلات المحيطة إلى التعويض عن العضلة التي فقدت مرونتها أو وظيفتها الطبيعية، وأظهرت دراسة شملت 447 موظفاً مكتبياً ونشرت في مجلة "جورنال أوف لايف ستايل ميديسن"Journal of Lifestyle Medicine، أن المشاركين يقضون في المتوسط 6:29 ساعة من أصل ثماني ساعات عملهم اليومية جالسين، ومن بين هؤلاء قال نحو 48.8 في المئة إنهم لا يشعرون بالراحة في أماكن عملهم، فيما أبلغ أكثر من نصفهم عن مشكلات في الرقبة (53.5 في المئة)، وأسفل الظهر (53.2 في المئة)، والكتفين (51.6 في المئة).
صحة القلب
أظهرت دراسة حديثة شملت 89530 شخصاً ونشرت في مجلة "الكلية الأميركية لأمراض القلب"Journal of the American College of Cardiology، أن المتوسط اليومي للجلوس أو الخمول بلغ 9:04 ساعة خلال الأسبوع، وتبين أن الربع الأعلى من المشاركين، أي الذين جلسوا لفترات أطول، كانوا أكثر عرضة للإصابة بقصور القلب والوفاة بسبب أمراض القلب أو الأوعية الدموية، مع ارتفاع واضح في الأخطار عند تجاوز 10:06 ساعة من الجلوس يومياً.
وأشار التقرير إلى أن "زيادة وقت الجلوس ارتبطت أيضاً بارتفاع خطر الإصابة بالرجفان الأذيني [اضطراب في ضربات القلب] والنوبات القلبية، في علاقة شبه طردية"، أي أن الخطر يتصاعد تدريجياً كلما زادت فترات الجلوس، كما أوضحت الدراسة أن "الارتباط بين الجلوس المفرط وقصور القلب والوفيات الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية استمر حتى بين الأشخاص الذين يلتزمون بالمستويات الموصى بها من النشاط البدني المعتدل أو المكثف"، وبين من يقضون أكثر من 10:06 ساعة جلوساً يومياً، أدى استبدال جزء من هذا الوقت بأنشطة بدنية إلى تقليص كبير في الأخطار الإضافية التي يسببها السلوك الخامل.
وقد ظهرت هذه الفوائد بعد خفض وقت الجلوس بنحو 30 دقيقة فقط يومياً، وذلك حتى لمن يمارسون الرياضة بانتظام، وتشير النتائج إلى أن الجلوس لـ 10 ساعات أو أكثر يومياً يظل سلوكاً ينبغي تعديله للحفاظ على صحة القلب.
كيف تقلص تأثيرات الجلوس المفرط؟
تشير دراسة منشورة في "المجلة الطبية البريطانية" British Medical Journal، تابعت على مدى 13 عاماً نحو 12 ألف شخص تجاوزوا الـ 50 من العمر، إلى أن ممارسة التمارين الرياضية يمكن أن تخفف بعض التأثيرات السلبية للجلوس لفترات طويلة.
وأفادت الدراسة أن فترات الجلوس الطويلة ارتبطت بارتفاع خطر الوفاة، لكن هذا الارتباط وُجد فقط لدى الأشخاص الذين لم تتجاوز ممارستهم للنشاط البدني المعتدل إلى الشديد الكثافة (MVPA) 22 دقيقة يومياً، أما من مارسوا نشاطاً بدنياً أكثر من ذلك فقد انخفض لديهم خطر الوفاة، بغض النظر عن الوقت الذي قضوه جالسين.
ويقول الأستاذ المشارك في "جامعة ألاباما" الأميركية الدكتور إلروي أغويار إن "المعادلة المثالية هي تقليل وقت الجلوس إلى الحد الأدنى، مع إدراج بعض التمارين الهوائية أو تمارين المقاومة ضمن الروتين اليومي"، مضيفاً أن من المفيد أيضاً أخذ فترات قصيرة ومنتظمة للحركة أثناء فترات الجلوس، مضيفاً أنه "لا داعي لاعتبار هذه الفترات نوعاً من التمارين الرياضية بالمعنى التقليدي، فهي ببساطة حركة مقصودة تتخلل الأنشطة اليومية، مثل ركن السيارة على مسافة أبعد قليلاً من المكتب، أو استخدام وسائل النقل العام والنزول قبل المحطة النهائية بموقف واحد".
كما كشف بحث أجراه فريق "بحوث السلوك الخامل" في "جامعة ليستر" البريطانية أن الأشخاص الذين شملهم البحث قضوا في المتوسط بين تسع و10 ساعات يومياً جالسين، وبيّن أن من يقضون جزءاً كبيراً من يومهم في وضع الجلوس يواجهون خطراً أعلى للإصابة بأمراض مزمنة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري من النوع الثاني، فضلاً عن زيادة احتمال الوفاة الباكرة.
وتقول البروفيسورة شارلوت إدواردسون في مقالة نشرتها "جامعة ليستر" إنه "في البداية كان يعتقد أن الجلوس لفترات طويلة مضر بالصحة بغض النظر عن مقدار التمارين التي يمارسها الفرد، وهو ما كان مثيراً للقلق، لكننا ندرك اليوم أن ممارسة نشاط بدني معتدل إلى شديد الكثافة يمكن أن يقلل هذه الأخطار، وإن كان ذلك يتطلب ما بين 30 و75 دقيقة يومياً من هذا النوع من النشاط".
كما وجد فريق "جامعة ليستر" أن إدراج فترات قصيرة ومتكررة من النشاط الخفيف، مثل خمس دقائق من الحركة كل نصف ساعة، خلال فترات الجلوس، يحسن بصورة ملاحظة مؤشرات الصحة القلبية الأيضية، بما في ذلك مستويات الغلوكوز والإنسولين وضغط الدم، ويُعرف هذا النهج باسم "جرعات التمارين القصيرة" exercise snacking، أي إدخال جرعات قصيرة من النشاط البدني على مدار اليوم بدلاً من جلسة تمرين واحدة طويلة.
وأظهر بحث إضافي أجراه فريق" جامعة ليستر" بالتعاون مع باحثين من "جامعة لوبورو" البريطانية أن مساعدة موظفي المكاتب على تقليص وقت الجلوس بنحو 80 دقيقة يومياً، عبر استخدام مكاتب قابلة لتعديل الارتفاع وتوعيتهم بفوائد تقسيم فترات الجلوس، أسهمت في تحسين الأداء الوظيفي وخفض الإرهاق المهني وتخفيف المشكلات العضلية الهيكلية وتقليل الغياب المرضي وتحسين جودة الحياة.
أفضل التمارين لتقليص آثار الجلوس المفرط
ولمن يبحث عن طرق عملية للتخفيف من تأثيرات الجلوس الطويل، تحدثت إلى المدرب الشخصي ومؤسس برنامج "ويل تو ليد" Well to Lead، أولي طومسون، المتخصص في مساعدة عملائه على التحرك بحرية وراحة في حياتهم اليومية، وإليك أبرز النصائح التي أثبتت فاعليتها.
غيّر طريقة جلوسك
يقول طومسون "أؤمن بشدة أن الإفراط في الجلوس يسرع الشيخوخة، تماماً كما أن ممارسة الرياضة تؤخرها، ومن واقع خبرتي فإن مجرد تغيير طريقة جلوسك يحدث فرقاً كبيراً"، مضيفاً أن "معظم الانزعاج الجسدي الناتج من الجلوس الطويل سببه البقاء في وضع ثابت لساعات متواصلة، وتغيير وضع الجلوس كل 15 إلى 30 دقيقة يعود بفائدة خاصة على المفاصل فجرب مثلاً الجلوس متربعاً أو في وضع الركوع، أو على أحد الجانبين، أو على الأرض مسنداً ظهرك إلى الحائط، فهذه الطريقة البسيطة تعرّض الجسم لأوضاع مختلفة وتمنع تيبسه نتيجة البقاء في وضع ثابت لساعات طويلة".
تمارين التمدد
يقول طومسون إن "التمرين الذي أوصي به غالباً عملائي الذين يقضون جزءاً كبيراً من أسبوعهم جالسين هو تمرين تمدد العضلات والأوتار على الأريكة (couch stretch)، وأراه من أفضل التمارين إلى جانب تمرين 90/90 [تمرين تمدد خاص بالورك يعتمد على زاويتين قائمتين في الساقين]، لأنه يساعد في الوصول إلى أنسجة الورك العميقة وتخفيف التيبس الذي تسببه ساعات العمل الطويلة أمام المكتب".
الثبات العضلي
تعتمد تمارين الثبات العضلي الـ (إيزومترية) على شد العضلات من دون حركة، ويُعد تمرين "بلانك" plank أشهرها، ويقول طومسون إن "هذه التمارين وسيلة فعالة لكسر فترات الجلوس الطويلة وخفض ضغط الدم والحفاظ على قوة العضلات وتحسين الدورة الدموية بصورة عامة"، ومن أمثلتها البسيطة الضغط القوي بين راحتي اليدين، أو رفع الجسم عن الكرسي مع إبقاء الذراعين مستقيمتين، أو الثبات في وضع الجلوس على الحائط مدة 30 ثانية أو أكثر، ويضيف طومسون أن "هذه التمارين تنشط العضلات وتحفز الدورة الدموية من دون الحاجة إلى مساحة كبيرة، كما أنها مفيدة جداً لصحة المفاصل مما يجعلها إضافة ذكية ليومك إذا كنت تطمح للحفاظ على لياقتك على المدى الطويل".
تقوية العضلات
تشكل تمارين القوة وسيلة فعالة لمكافحة الـ "ساركوبينيا" وتيبس المفاصل، إذ تعزز قوة العضلات والعظام والمفاصل والأوتار مع الحفاظ على مرونة الجسم، ويُعد تمرين "القرفصاء البلغاري"Bulgarian split squat من أبرز التمارين التي يوصي بها طومسون لمن يقضون فترات طويلة جالسين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشرح طومسون أن هذا التمرين "يساعد في مدّ الرجل الخلفية إلى موضع خلف الحوض، مما ينشط عضلات الردفين ويمدد الأنسجة الأمامية للورك"، مضيفاً أن "تمدد الورك حركة يفقدها كثير منا مع مرور الوقت، وخصوصاً عند الجلوس لفترات طويلة وعدم قضاء وقت كافٍ في هذا الوضع، وعندما يفقد الجسم قدرته على أداء حركة تمدد الورك بفاعلية، تبدأ مناطق مثل أسفل الظهر في تحمل عبء إضافي، مما قد يؤدي إلى الألم مع مرور الوقت".
المماطلة النشطة
إذا كنت تعمل من المنزل فربما تعرف جيداً معنى المماطلة، لكن بدلاً من إضاعة الوقت على الهاتف يقترح طومسون بديلاً أكثر فائدة، ويقول "أنشئ قائمة قصيرة بما يمكن تسميته 'مهمات المماطلة' تتضمن أعمالاً بسيطة مثل تغيير الماء للكلب أو فرز الغسيل أو ترتيب الوسائد أو كنس الأرضية أو إزالة الأعشاب من الحديقة أو تجهيز حقيبة الصالة الرياضية"، مضيفاً أنه "بدلاً من إنجاز هذه المهمات كلها قبل بدء العمل، وزعها على مدار اليوم كلما احتجت إلى استراحة قصيرة، وسيساعدك ذلك في إدخال حركة منتظمة إلى يومك ومنح مفاصلك وعينيك وعقلك فرصة لاستعادة النشاط".
© The Independent