ملخص
فيما لا يزال المشهد اللبناني مشدوداً إلى اللااستقرار السياسي والأمني على رغم بعض المحطات الإيجابية التي تنتظر الترجمة، يخرج وزير الثقافة غسان سلامة بخطابٍ هادئ يوازن بين الواقعية السياسية والتمسك بالقانون.
وفي حديثٍ صريح لـ "اندبندنت عربية"، تناول فيه علاقة رئيس الجمهورية جوزاف عون برئيس الحكومة نواف سلام، وملفاتٍ شائكة من مسألة صخرة الروشة إلى حصر السلاح، مروراً بـ "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، والثقافة كرافعة اقتصادية ووطنية، قدّم سلامة رؤية مبنية على خبرة سياسية تفاوضية لكيفية إدارة الأزمات والصدام.
ومن موقعه كأستاذ قانون ووزيرٍ عايش تفاصيل "اتفاق الطائف"، وكمثقفٍ أممي خبر الحروب والاتفاقيات في أكثر من ساحة عربية، تحدث سلامة بلغة تجمع بين القانوني الواقعي والمفكر الإصلاحي، مؤكداً أن الثقافة في لبنان ليست ترفاً بل "وزارة سيادية" تحفظ الذاكرة الوطنية وتدعم التعافي الاقتصادي.
يعترف وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة بوجود تباينات بين رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، لكنه يعتبرها طبيعية ولها سببان أساسيان. الأول مؤسسي، مرتبط بالنظام السياسي الهجين الذي أفرزه "اتفاق الطائف"، حيث نصّ على سلطة تنفيذية جماعية. فالمادة 17 من الدستور تركت هامشاً لرئيس الحكومة في ترؤس مجلس الوزراء ووضع جدول أعماله، فيما يحق لرئيس الجمهورية الحضور وترؤس الجلسة. ويقول سلامة، الذي شارك استشارياً في إعداد "اتفاق الطائف" ضمن اللجنة العربية، إن واضعي الاتفاق كانوا يحلمون ربما بأن الطبقة السياسية في لبنان ستصبح قادرة يوماً على الحكم الجماعي، لكن ذلك لم يتحقق. فالسنوات الخمس والثلاثون الماضية شهدت تحويراتٍ وتفسيراتٍ متعددة للطائف.
أما السبب الثاني للتباين، فهو أن الرئيسين لا ينتميان إلى الطبقة السياسية التقليدية. فالرئيس عون قادم من تجربة عسكرية، والرئيس سلام من خلفية دبلوماسية، وهما في طور تعلم "مهنة السياسة" والتعاون ضمن احترام نصوص الدستور. ويرى سلامة أن لا خلافات جوهرية بينهما في القضايا الأساسية، بل بعض التباين في التفاصيل الثانوية. ويشير إلى أن سلام أكثر تمسكاً بالنصوص القانونية وميلاً إلى التطبيق الحرفي للمادة 95 من الدستور المتعلقة بطائفية الوظيفة، في حين أن عون أقل رغبة في فتح مشكلات جديدة. ويخلص سلامة إلى القول إن العلاقة بين الرجلين تُضخَّم إعلامياً، فهما واقعيان، ورئيس الحكومة متمسك بالقانون لأنه قاضٍ سابق، فيما رئيس الجمهورية يفضّل تجنب التصعيد.
الروشة وهيبة الدولة
في جلسة مجلس الوزراء الإثنين الماضي قررت الحكومة تعليق عمل جمعية "رسالات" التابعة لـ "حزب الله"، بسبب مخالفتها بشكل واضح وصريح التصريح الذي أعطي لها لإقامة فعالية أمام صخرة الروشة في بيروت في ذكرى اغتيال الأمينين العامين للحزب حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، والذي شكل تحدياً مباشراً لقرار الحكومة. وعلى رغم تأييد 19 وزيراً من أصل 23 حضروا الجلسة سحب العلم والخبر من الجمعية المعنية، إلا أن رئيس الحكومة فضل بعد التنسيق مع رئيس الجمهورية الاكتفاء بتعليق عملها لحين الانتهاء من التحقيقات.
وعن حادثة الروشة يقول الوزير سلامة إن ما حدث مؤسف، لكنه يؤكد في الوقت ذاته حق الجميع في التعبير وإحياء ذكرى قادتهم، شرط احترام القوانين. ويرى أن اختيار الموقع أثار امتعاضاً لدى بعض فئات بيروت، وكان من الأفضل ضبط الفعالية ضمن الشروط التي وضعها محافظ بيروت في الترخيص، وهي عدم قطع الطرقات وعدم إضاءة صخرة الروشة وألا يتجاوز عدد المشاركين الـ 500 شخص، لكن الشروط الثلاثة تم خرقها.
ويضيف أن الحكومة كانت أمام خيارين: إما تجاهل ما حصل، أو تذكير الجمعيات بأن هيبة الدولة تقتضي احترام شروط الترخيص. من هنا جاء استدعاء الجمعية المعنية إلى التحقيق أمام المحقق العدلي والمحافظ. ويؤكد سلامة أن وقف عملها أو سحب الترخيص أمر طبيعي وسبق أن حصل مع جمعيات أخرى، ويمكن اللجوء إلى مجلس شورى الدولة للطعن في القرار، وقد نجحت جمعيات في استعادة تراخيصها سابقاً.
أما عن تصريحات بعض النواب، ومنها استعادة النائب حسن فضل الله عبارة النائب محمد رعد "القرار بلّوه واشربوا مياهه"، فيرفض سلامة التعليق، معتبراً أن التصريحات الآنية تفقد أثرها سريعاً، وهو لم يطّلع على الكلام مباشرة وربما صدر في لحظة عاطفية، وينفي أن يكون اعتمد أسلوب الجواب الدبلوماسي لتجنب الرد على مواقف "حزب الله".
ماذا يعني الجيش خط أحمر؟
ولدى سؤال "اندبندنت عربية" وزير الثقافة اللبناني عن رأيه بمَن يعتبر بأن الجيش وقوى الأمن "خط أحمر" رداً على الانتقادات التي طاولت أداءهما في موضوع إضاءة صخرة الروشة، فيرد بسؤال، "ماذا يعني خطاً أحمر بالسياسة، ولا أعرف ما المقصود من هذا التعبير، كذلك لا أعلم ما المقصود من أن مهمة الجيش هي منع الفتنة، فلكل من الجيش وقوى الأمن الداخلي وظيفة مختلفة. الجيش يحافظ على الأمن العام ويحول دون الاشتباك المباشر بين الناس، بينما تتحمل وزارة الداخلية وقوى الأمن مسؤوليات التنفيذ داخل المناطق".
ويرى سلامة أن "محاولة تصوير الأمر وكأن رئيس الجمهورية يدافع عن الجيش فيما رئيس الحكومة يهاجمه، هو في غير محله، وأنا شاهد شخصياً على عمل حثيث يقوم به الرئيس سلام لتنظيم مؤتمر خاص لدعم الجيش في المملكة العربية السعودية في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو لا يزال يسعى لانجاحه على رغم الكلام عن تجميده حالياً، وبالتالي فإن تصوير الأمور وكأن هناك مَن يحب الجيش وهناك من يكرهه أمر غير دقيق، فضلاً عن أن رئيس الحكومة هو الذي طلب من الجيش تقريراً شهرياً في شأن قرار حصر السلاح وهو الذي يتعاون معهم في هذه المسألة".
أين أصبح حصر السلاح؟
وجدد الوزير سلامة التأكيد على أن قرار حصر السلاح اتُخذ في جلستي الخامس والسابع من أغسطس (آب) 2025، وجلسة الخامس من سبتمبر (أيلول) الماضي، لم تُلغِ القرارين السابقين بل جاءت استمراراً لهما. وشدد على أن "الجيش اللبناني جاد والكل يدعم فكرة التنفيذ على مراحل، خصوصاً أن مسألة السلاح عمرها أكثر من 40 عاماً ولا يمكن إنجازها دفعة واحدة، ومن الطبيعي أن يكون هناك تدرج في عملية التنفيذ". وأضاف أن "الجيش جاد بإنهاء عملية حصر السلاح جنوب الليطاني في نهاية العام الحالي والعمل على احتواء تحركات في شمال الليطاني، وقد استمعنا الإثنين الماضي إلى أول تقرير في هذا المجال وسنستمع إلى تقارير شهرية".
أما عن التأخر في التنفيذ فقال إن "الخطأ في التفكير خلال الأشهر الماضية كان باعتبار مهمة الجيش استكمالاً لما بدأه الجيش الإسرائيلي، وهذا غير صحيح لأن الجيش لا يتعامل مع مواطنين لبنانيين كأعداء. إلا أن ذلك لا يعني أن ليست هناك طرق أخرى، ومنها لجنة 'الميكانيزم' التي أثبتت فعاليتها ليس المطلقة ولكن الكبيرة في منطقة جنوب الليطاني والتي قد تنسحب على كل الأراضي اللبنانية".
الاحتلال عقبة لكنه لن يوقف حصر السلاح
يتفق سلامة مع قائد الجيش رودولف هيكل على أن الاحتلال الإسرائيلي للنقاط الخمس في الجنوب عقبة أساسية أمام استكمال خطة حصر السلاح، لكنه يشدد على أن ذلك لن يوقف العملية. وينقل عن قائد الجيش قوله إن "الطرف الإسرائيلي لم يقدم أي إشارة إيجابية"، فيما وصف الوزير نص وقف الأعمال العدائية بأنه "حمّال أوجه" ولا يستحق أكثر من علامة 5 على 20، لكنه النص القائم الذي يحترمه الجيش و"حزب الله"، بينما تواصل إسرائيل خروقاتها بالآلاف والنقاط المحتلة باتت من الإسمنت وكأن البقاء فيها طويل الأمد. ويرى سلامة أن هذه الترتيبات منحت إسرائيل حرية الحركة وشنّ الضربات بفضل الدعم الأميركي، فيما يلتزم لبنان بعدم الرد، ما ينتج منه عدم توازن كامل في التنفيذ. ومع ذلك، يصرّ سلامة على أن هذه المعادلة قد تصعّب حصر السلاح لكنها لا تلغيه.
ولكن ماذا لو بقي "حزب الله" على موقفه ورفض تسليم سلاحه فما هو مصير خطة الجيش وقرار الحكومة؟ يجيب سلامة: "سنرى حينها، نحن في المرحلة الأولى المخصصة لجنوب الليطاني حتى نهاية العام، وعندها نقيّم النتائج"، مضيفاً أن "الحكم على النجاح أو الفشل سابق لأوانه، ولا يمكن الحديث عن تفاؤل أو تشاؤم وعن حظوظ النجاح قبل الذهاب للتنفيذ، مثلما لا يمكن لأب لديه طفل مريض أن يتحدث عن حظوظ شفائه أو عدمها قبل أن يخضعه للعلاج".
كلام لاريجاني في الاجتماع غير التصريح
كما تطرقنا مع وزير الثقافة إلى التصريحات الإيرانية لا سيما ما أعلنه الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني لجهة قدرة "حزب الله" على "قلب الموازين"، فقال "أنا لا أقرأ تصريحات، أقرأ ما يجري على الأرض، وما يجري على الأرض هو أن هناك خطة لحصر السلاح تنتهي أولى مراحلها في نهاية السنة، أما التصريحات فيمكن رصد مجموعة منها أحياناً متطرفة وأحياناً أخرى أكثر اعتدالاً". ويكشف أن ما سمعه من لاريجاني خلال لقائه رئيس الحكومة نواف سلام كان مختلفاً تماماً عن التصريحات العلنية، ما يدل على أن الكلام الإيراني موجّه غالباً لجمهور داخلي أو سياق تفاوضي معقّد مع الولايات المتحدة.
ويشير إلى أن المفاوضات بين طهران وواشنطن تعثرت بعد أن كانت واعدة في مارس (آذار) الماضي، ما دفع الإيرانيين إلى رفع سقف الخطاب. ويرى أن القادة في إيران يرون أمامهم إمكانية مواجهة عسكرية أو تفاوض سياسي، لذا يلجأون إلى إثبات "عضلاتهم" في المنطقة قبل المسارين. ويخلص إلى أن لبنان يتأثر بموجات التوتر بين واشنطن وطهران، لكنه ليس المسرح الأساس للأحداث في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لست محسوباً على سلام
يصف الوزير سلامة أن القول إن الحكومة خيّبت آمال اللبنانيين بأنه "مجحف جداً". وينفي أن يكون وزيراً محسوباً على رئيس الحكومة، موضحاً أنه صديقه منذ 40 سنة لكن هذا لا يلغي استقلاليته الوزارية. "أفضل ما في هذه الحكومة"، بحسب سلامة، "هو أنها تتمتع بحرية الرأي والموقف ولا تتضمن اصطفافات شبيهة باصطفافات سابقة". ويشيد بحرية الرأي داخل الحكومة الحالية وبنزاهة الوزراء الجدد، مشيراً إلى أن "التضامن الوزاري فيها يقوم على القناعة لا الاصطفاف".
ويستعرض إنجازات الحكومة، من القوانين الإصلاحية إلى مشاريع تنظيم القطاع المصرفي، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتقدم في مشروع الفجوة المالية الذي صيغ بكثير من الزخم الأخلاقي لمعالجة وضع المتضررين، وآلية التعيينات الإدارية، معتبراً أنها "حكومة عمل لا حكومة توازنات".
"اتفاق الطائف" بعد 36 سنة: نص يحتاج إلى تطوير
بعد مرور 36 سنة على "اتفاق الطائف"، يرى سلامة أن الاتفاق نجح في إنهاء الحرب لكنه لم يُطبّق بالكامل كنظام سياسي متكامل. ويؤكد أن الهدف الأساس من ذلك الاتفاق الذي تم التوصل إليه في عام 1989 كان وقف الحرب والاقتتال بين اللبنانيين، وكانت حينها الميليشيات تستولي على البلد، وبالتالي كان المطلوب محاولة إقناع الميليشيات من جهة بالكفّ عن الاقتتال من خلال عناصر في الاتفاق يريدونها، ومن جهة أخرى فتح صفحة جديدة في النظام السياسي اللبناني.
ويستعيد سلامة ما قاله لوزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل آنذاك عندما سأله عن رأيه في الاتفاق كأستاذ وليس كمستشار، فقال "أتمنى أن يُعمل بالاتفاق لفترة حتى تهدأ الأحوال، ثم يجتمع اللبنانيون لتطويره نحو صيغة أكثر حداثة وألا يكونوا مستجيبين فيه لمتطلبات الناس التي كانت تملك قرار الشارع". ويؤكد أن "واضعي الطائف لم يكونوا خبراء قانونيين يبحثون عن النظام الأمثل، بل سياسيون يسعون لوقف الحرب. ومن الطبيعي بعد عقود أن يحتاج النص إلى تطوير، لأن لا نص مقدساً في الدساتير". لكن سلامة يأسف لأن الطبقة السياسية فسّرت "الطائف" وفق مصالحها، ولأن المجلس الدستوري لم يُمنح كامل صلاحياته في التفسير. ويعلن بصفته وزيراً التزامه بتطبيق "الطائف" نصاً وروحاً، لكنه كأستاذ قانون يرى ضرورة إعادة النظر في بعض بنوده.
الثقافة… وزارة سيادية
يعتبر غسان سلامة أن وزارة الثقافة التي شغلها سابقاً في عام 2000 ثم عاد إليها اليوم، ليست وزارة ثانوية بل "وزارة سيادية". وفضّلها على وزارات أخرى عُرضت عليه، فهي بالنسبة له "وزارة سيادية لها وزن كبير على رغم أن بعض اللبنانيين لا يتنبهون لذلك".
أسهم لدى توليه وزارة الثقافة في المرة الأولى، في استضافة بيروت القمة العربية وكذلك القمة الفرنكوفونية، وهو اليوم "القيّم على الذاكرة الوطنية"، كما يقول. يشرح أن مسؤوليته تشمل مواقع أثرية كجبيل وصور وبعلبك وصيدا، وأن كل حجر يُكتشف يعيد كتابة جزء من تاريخ لبنان.
كما أعاد سلامة إطلاق المجلة الأثرية "بعل"، ويعمل على رقمنة أرشيف المكتبة الوطنية والأفلام واللوحات.
ويرى أن للثقافة ثلاث وظائف رئيسية: أولاً حماية التراث والذاكرة الوطنية، وثانياً دعم الصناعات الثقافية التي تسهم بنسبة كبيرة في الاقتصاد الوطني، من صناعة الكتب والأغاني إلى التصميم والهندسة وكل ما له علاقة بالإبداع، وهو ما يدفعه إلى التأكيد بأن وزارة الثقافة في لبنان هي عضو أساس بالتعافي الاقتصادي والمالي وهي فاعل أساس في الاقتصاد الوطني، وهذا ما جعل وزير الاقتصاد عامر البساط يخصص جزءاً كبيراً في مؤتمر الاستثمار الذي سينعقد في بيروت في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل للصناعات الثقافية.
أما الوظيفة الثالثة لوزارة الثقافة فهي وفق سلامة "تعزيز الوحدة والاستقرار الداخلي عبر فعاليات تجمع اللبنانيين حول القيم المشتركة"، مثل لقاء أهالي ضحايا انفجار المرفأ في المكتبة الوطنية، حيث اعترف أمامهم رئيس الحكومة بمسؤولية الدولة، وأكد لهم وزير الثقافة احترام رغبتهم ببقاء الصوامع كما هي. ويعد باحتفال مماثل في عيد الاستقلال في 22 نوفمبر المقبل، كذلك تستعد وزارة الثقافة إلى حدث كبير في ذكرى مئوية الدستور اللبناني.
ويختم الوزير سلامة بأن وزارة الثقافة ليست ترفاً بل رافعة وطنية واقتصادية وروحية في آنٍ واحد، ودورها أساس في تعافي لبنان وفي ترميم ما تهدم في الدولة والذاكرة.