ملخص
يستخدم مصطلح "قانون آلان تورنغ" بصورة غير رسمية للإشارة إلى قانون صدر عام 2017 في المملكة المتحدة، والذي عفا بأثر رجعي عن الرجال ممن تلقوا تحذيرات أو إدانات بموجب مثل ذلك التشريع
خلال عام 1952، حوكم رجل بريطاني - سيموت لاحقاً بعد أكثر من دزينة من الأعوام وهو في الـ41 عاماً من عمره - خلال إحدى المحاكم الإنجليزية بتهمة الشذوذ الذي كان مخالفاً للقانون آنذاك في ذلك البلد. وكانت نتيجة المحاكمة التي وجهت إليه الاتهام واعتبرته مذنباً. لكن الرجل وافق على أن يجرى له علاج هرموني "يعيده إلى طبيعة الرجال" في إجراء يعرف عادة بالإخصاء الكيماوي، كبديل للسجن.
كان الرجل يدعى آلان تورنغ الذي سيرحل عن عالمنا خلال السابع من يونيو (حزيران) عام 1954، نتيجة تسمم بالسيانيد (السيانور)، إذ خلص تحقيق إلى أن وفاته كانت انتحاراً، حتى وإن كان ثمة من الأدلة ما يتوافق أيضاً مع احتمال أن يكون التسمم حادثة عرضية. لكن المهم أن السلطات البريطانية وبعد حملة صاخبة، عادت لتقدم في عام 2009، بلسان رئيس الوزراء غوردون براون اعتذاراً رسمياً علنياً عن "الطريقة المروعة التي عومل بها تورنغ، ووصل الأمر بعد ذلك بأعوام إلى أن تمنح الملكة إليزابيث الثانية عفواً خاصاً عن تورنغ وتحديداً خلال عام 2013.
واليوم ومنذ ذلك الحين، يستخدم مصطلح "قانون آلان تورنغ" بصورة غير رسمية للإشارة إلى قانون صدر عام 2017 في المملكة المتحدة، والذي عفا بأثر رجعي عن الرجال ممن تلقوا تحذيرات أو إدانات بموجب مثل ذلك التشريع. فمن هو آلان تورنغ بعد كل شيء، ولماذا كان الاهتمام به؟ علماً أن العالم كله وبخاصة مستخدمي الحاسوب والهاتف المنقولين يجدر بهم أن يعرفوه جيداً، ليس فقط لكونه واضع الأسس الرقمية التي قامت عليها حداثة هذين الجهازين كما سنرى بعد سطور، بل لسبب أبسط من ذلك وأكثر حميمية بكثير.
هؤلاء الناس من أبناء الزمن الراهن ندر لهم أن تساءلوا عن تلك التفاحة التي تستخدمها ماركة "أبل" شعاراً لها، إذ إن معظمهم يعدها التفاحة التي قضمها آدم حين حلت عليه لعنة السماء وطرد من الجنة على اعتبار أنه ارتكب الجريمة الأولى، بينما يرى كثر آخرون أنه استُخدمت التفاحة كرمز لمدينة نيويورك.
تفاحة تورنغ القاتلة
لكن الحقيقة في مكان آخر تماماً. الحقيقة أن تفاحة "أبل" ليست سوى التذكير والتحية بالتفاحة التي قضمها آلان تورنغ، وقد حقنت بمادة السيانور التي قضت عليه. وكان ذلك فكرة قد تكون مقابرية نفذها صانعو الحاسوب والهاتف كنوع من التحية لتورنغ، بوصفه صاحب الأسس التي قام عليها الاختراع الثوري الذي قلب العالم رأساً على عقب خلال نصف القرن الأخير، ورحل صاحب تلك الأسس من دون أن يخطر في باله أنه غير العالم من حال إلى حال.
ونعرف على أية حال، اليوم، أن تورنغ ترك إرثاً كبيراً في الرياضيات والحوسبة، وأصبح بعد أعوام من رحيله معروفاً على نطاق واسع، إذ سميت تماثيل في الساحات وعدد من الأشياء باسمه، بما في ذلك جائزة سنوية للابتكار في مجال الحوسبة. وظهرت صورته على ورقة نقدية من فئة 50 جنيهاً استرلينياً لبنك إنجلترا، صدرت للمرة الأولى خلال الـ23 من يونيو (حزيران) 2021 تزامناً مع عيد ميلاده، خصوصاً بعدما صوت الجمهور الذي تابع بشغف ولهفة مسلسلاً تلفزيونياً على قناة "بي بي سي" عام 2019 يدور حول تورنغ وقدمه كما يستحق أخيراً، أي كأعظم عالم في القرن الـ20.
وكذلك فعل فيلم سينمائي أميركي بعنوان "لعبة المحاكاة"، إذ ركز على الجانب الأكثر حميمية من حياة تورنغ ومسيرته. والحال أنه نظر أول الأمر إلى "لعبة المحاكاة" على اعتبار أنه فيلم إثارة أميركي ظهر عام 2014، من إخراج مورتن تيلدوم وكتابة غراهام مور، وهو مقتبس من سيرة لأندرو هودجز بعنوان "آلان تورنغ: اللغز".
حينها اقتبس عنوان الفيلم اسم اللعبة التي اقترحها محلل الشفرات آلان تورنغ للإجابة عن سؤال "هل تستطيع الآلات التفكير؟" في بحثه الرائد عام 1950 بعنوان "آلات الحوسبة والذكاء". وفي الفيلم يؤدي بينيديكت كومبرباتش دور تورنغ، الذي فك تشفير رسائل الاستخبارات الألمانية للحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، وشارك في الفيلم كل من كيرا نايتلي وماثيو غود، وروري كينير وتشارلز دانس ومارك سترونغ في أدوار داعمة.
يشار هنا إلى أن بينيديكت كومبرباتش بدا خلال الاحتجاجات الرائعة على مجازر غزة وضد المؤسستين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين واحداً من الأكثر دفاعاً عن "فلسطين الحرة" في هوليوود.
إسهامات كبيرة وتفاحة قاتلة
المهم أن هذا كله يقودنا بالطبع إلى سيرة تورنغ وإسهاماته الكبرى في ثورة التكنولوجيا والسيبرانية التي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة، والتي لم يتنبه هذا العالم أول الأمر وإنما متأخراً أنه صاحب تلك التفاحة القاتلة التي اشتهرت من دون أن يعرف العالم سرها وسر وجودها. وفي اختصار شديد يمكن القول في نهاية الأمر إن آلان تورنغ هو المبادر الحقيقي في مجال الأشغال العلمية، وربما يمكننا أن نقول أيضاً الاستخباراتية وبالتالي العسكرية التي أوصلت البشرية وابتداء منذ نهايات الأربعينيات إلى ما نسميه اليوم المعلوماتية، ومنها إلى إيجاد الحواسيب الآلية (الكمبيوتر بصورة أكثر وضوحاً).
ولئن كان هذا الأمر معروفاً في الأوساط العلمية والتكنولوجية على صعيد العالم والبيئة العلمية، فإن اسم تورنغ الذي لم يعرف على نطاق واسع، كما أشرنا، إلا خلال النصف الأول من أعوام الخمسينيات من القرن الـ20 ولأسباب "غير علمية وغير تكنولوجية على أية حال"، أي لأسباب "أخلاقية" تكشفت تماماً حين حوكم كما قلنا أعلاه، ثم حين انتهت حياته بذلك اللغز الذي أحاط بتلك النهاية، وهو لغز لا بد من التذكير في ما يعني موضوعنا هنا، بكونه يمتد ليتعلق بالتفاحة القاتلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحكاية المتعلقة بهذا الأمر تصل إلى ذروتها حين، وبعد حين من انتهاء الحرب، التي سيقال لاحقاً إن إنجازات تورنغ التقنية أسهمت في وضع حد لها من خلال "الكمبيوتر" الهائل الذي صنعه، ومكن بالتالي الاستخبارات البريطانية من استخدامه للكشف عن مخططات العدو النازي بصورة مدهشة، إذ بعد انتهاء الحرب ولأسباب تبدو اليوم غامضة وربما انتقامية مغرضة كمنت في خلفية ذلك التهديد الذي وجهته "لجنة شرف" قد تكون، كما حالها بالفعل، حكومية وترتبط مباشرة بأعلى السلطات التنفيذية في بريطانيا، وجهته إلى تورنغ معلنة له أنها ستكشف عن شذوذه كشفاً علنياً إن هو لم يبادر إلى ذلك من تلقائه ويعتذر، واعداً بسلوك الصراط المستقيم. وهو حين لم يمتثل أول الأمر، عاش أعواماً من الرعب الاجتماعي والقلق الوجودي اللذين تواكبا مع محاكمته العلنية. وكانت النتيجة أن فضيحة مدوية هزت صرح المؤسسات العلمية في بريطانيا جعلت تورنغ – بحسب الرواية الأكثر تداولاً وصدقية على أية حال – يقدم على الانتحار بتناول سم السيانور، وحقن بنفسه تفاحة كان يزمع تناولها. فانتهت حياته.
"أبل" على الخط
ومن هنا، وليس بالضرورة تبعاً لفرضية الانتحار، حين عزمت شركة "أبل" الأميركية رائدة الهواتف والحواسيب المنقولة، على إيجاد شعار لها يعبر عن الدين الذي على البشرية لآلان تورنغ، عدت موته، انتحاراً أو عرضاً، مجال تكريمه المنطقي من خلال اختيار شعار التفاحة، والتفاحة الناقصة جزء منها قضمه المخترع الكبير، وهو الجزء الذي كان كافياً لقتله.
واللافت في الأمر أنه في المؤتمر الصحافي الذي قدم شعار "أبل" للجمهور العريض للمرة الأولى، أبدى أحد الصحافيين ليس فقط احتجاجه أمام اختيار "أداة قتل آلان تورنغ شعاراً" بل دهشته أيضاً. ولم يتردد مسؤول في الشركة عن تذكير الصحافي بكيف أن الصليب هو "الشعار الرمز العظيم لتضحية السيد المسيح بنفسه في سبيل الإنسانية، مع أنه الأداة التي استخدمت لإعدام ذلك المخلص الكبير، فلماذا لا ننظر إلى التفاحة نفس النظرة؟". والحقيقة أن تلك الفقرة كانت كافية ولكن من دون أن يكلف، في البداية، أحد نفسه بالسؤال جدياً عن المعنى الكامن وراء ذلك الاستخدام الذي بقي غامضاً لأعوام طويلة.