ملخص
يذكرنا اليوم العالمي للغات الإشارة بأن كل إنسان يستحق أن يخاطب بلغته الأم، حتى ولو لم تكن صوتاً.
في زاوية شاشة التلفزيون داخل كادر صغير مستقل تطل المذيعة الهادئة بينما تحرك يديها بخفة وسرعة، تترجم ما يقوله المذيع على الشاشة الكبيرة إلى لغة أخرى هي لغة الإشارة. هذه الترجمة هي شريان حياة لملايين البشر الذين يعيشون خارج فضاء السمع، حضورها يمنح الصم حقهم في أن يعرفوا، وأن يتابعوا ما يحدث في العالم لحظة بلحظة، وأن يكونوا جزءاً من الحدث لا غرباء عنه، وتعيدهم بواسطة إشارات اليدين والوجه إلى قلب المجتمع ليحصلوا على المعرفة والوعي.
هذه الزاوية الصغيرة تحمل رسالة جميلة وإنسانية وهي أن لغة الإشارة ليست إضافة هامشية، بل جسراً بين عالمين، تتجاوز فيه الترجمة وظيفتها التقنية لتصير فعل اعتراف وتذكير بأن العدالة قد تتحقق للعاجزين بدنياً بطرق بسيطة من أجل إدخالهم في آلة المجتمع الإنساني القائمة على الأخبار والمعلومات والمعرفة بما يجري حولنا.
ولغة الإشارة تمكن الصم والبكم من التواصل في ما بينهم وقد توحدهم عالمياً، إذ تجعل منهم مجتمعاً متواصلاً بصرف النظر عن جنسياتهم ولغاتهم الأم. وتفتح قنوات الحياة في ما بينهم ليقدم بعضهم إلى بعض العون الذي يحتاجون إليه، خصوصاً في المجتمعات التي لا تزال تعطي القليل من الأهمية لحقوق الصم والبكم أو غيرهم من المصابين بعجز في حواسهم وأجسادهم.
لسان البشرية الأول
تقوم لغة الإشارة بين الصم والبكم على حركة اليدين والشفتين وبعض حركات الوجه، ولكنها بحد ذاتها لغة عامة يستعملها البشر الأصحاء أيضاً منذ بدأوا التعبير لغوياً، وربما قبل ذلك أي في الفترة التي كانت فيها اللغة مجرد إيماءات وهمهمات وحركات جسدية أكثر منها نطقاً للأحرف، وقد بقي لدى كل إنسان بقايا من لغة الإشارة هذه يستخدمها في كل لحظة يتكلم فيها، وكذلك في الأوقات التي لا يمكنه الكلام فيها مثل اللحظات الحرجة أو في مكان ممنوع الكلام فيه، فيضطر الأشخاص إلى التواصل بالإشارات على رغم أنهم ليسوا صماً.
لا بد أنه قبل أن يولد الصوت كأداة للتواصل كان الجسد هو اللغة. اليد التي تشير، الرأس الذي يومئ، العين التي تتسع أو تضيق، الكتف التي تهتز رفضاً أو استهجاناً، كلها رموز بدائية سبقت الكلمة. كان الإنسان الأول يعيش في عالم من الإشارات التي أنقذت حياته: تحذير من وحش، دعوة إلى الطعام، طلب للحماية، وكلنا لا يزال يرفع الحاجب للتعبير عن الدهشة أو الرفض أو للدلالة على شيء موضوع على الطاولة مثلاً، ولا نزال نهز الرأس رفضاً، أو نلوح باليد طلباً للانتباه، بل هناك أشخاص يتكلمون بواسطة أياديهم أكثر مما يتكلمون بالكلمات.
هذه الإيماءات هي بقايا لغة أساسية مشتركة بين جميع البشر، لا تحتاج إلى قواميس أو قواعد، وهي تثبت أن الإنسان لم يتخل عن لغته الجسدية الأولى، بل يدمجها مع لغاته المنطوقة في حوار دائم بين الصوت والحركة.
من هذه الجذور الغريزية ولدت لغة الإشارة الحديثة امتداداً لذلك التراث الصامت الذي رافق الإنسان منذ بداياته، لكنها تحولت مع الزمن إلى منظومة كاملة تحكمها القواعد، وباتت تدرس في المدارس كأية لغة رسمية أخرى.
كأية لغة منطوقة
ولغة الإشارة كيان لغوي متكامل له نحو وصرف ومعجم، والأصم الذي يستخدمها يتحدث بلغته الأم، كما يتحدث العربي أو الفرنسي بلغته، هي لغة ولدت من الحاجة، ولكنها تجاوزت الضرورة لتصبح وسيلة وثقافة.
مع القرن الـ18 بدأت مدارس الصم في أوروبا بتحويل الإشارات إلى نظام منهجي موثق، ومع الوقت تشكلت مجتمعات لغوية كاملة حولها، صاغت أشعاراً وقصصاً وفنوناً، ونقلت الذاكرة الجماعية من جيل إلى آخر. واليوم توجد أكثر من 300 لغة إشارة في العالم، تختلف من بلد إلى آخر كما تختلف اللغات المنطوقة، فاللغة الأميركية للإشارة (ASL) لا تشبه البريطانية (BSL)، واللغة المصرية تختلف عن اللبنانية أو السعودية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع أن حلم لغة إشارة عالمية يراود البعض، فإن المشترك بين هذه اللغات يبقى أعمق: اليد التي تتحرك، الوجه الذي يبوح، العين التي تكتب الصمت في الهواء.
في الـ23 من سبتمبر (أيلول) من كل عام يلتفت العالم إلى لغة الإشارة عبر يوم دولي أقرته الأمم المتحدة عام 2017، وهو يوافق تأسيس الاتحاد العالمي للصم عام 1951، المنظمة التي وحدت نضال الصم عقوداً.
هذا اليوم مساحة لطرح أسئلة من قبيل: هل الأخبار والتعليم والخدمات متاحة فعلاً لكل من يحتاج إليها ويطلبها؟ وهل الأصم قادر على أن يعيش بكرامة من دون وسيط دائم؟ وهل يشعر بأنه حاضر في مجتمعه بلغته؟
ليست كل الدول متساوية في التعامل مع لغة الإشارة، هناك دول سباقة اعترفت بها لغة رسمية مثل نيوزيلندا وأوغندا وفنلندا، فأصبحت حاضرة في المدارس والمحاكم والبرلمانات، الاعتراف هنا يعني أن الأصم ليس في حاجة إلى تبرير وجوده، بل يعيش لغته كما يعيشها أي مواطن آخر.
في المقابل، دول أخرى لا تزال تتعامل معها كـ"أداة مساعدة"، تظهر في المناسبات الكبرى أو نشرات الأخبار، لكنها غائبة عن البنية الأساسية للتعليم والقانون، هذا التهميش يترك مجتمعاً كاملاً في الظل، يترجم له العالم من الخارج من دون أن يخاطب من الداخل.
في العالم العربي الصورة متباينة، الأردن خطت خطوات مهمة بالاعتراف وتطوير مناهج، لكن معظم الدول تكتفي بمبادرات محدودة أو جهود جمعيات أهلية. نعم، هناك مترجمون في نشرات الأخبار، لكن الاعتراف الرسمي الشامل ما زال بعيداً، التجارب الناجحة في العالم تثبت أن إدماج لغة الإشارة يحولها من لغة أقلية إلى ركن من الهوية الوطنية، ويمنح أصحابها مساواة حقيقية.
لغة تضج بالحياة
إن لغة الإشارة في جوهرها ليست صامتة، بل هي لغة مليئة بالإيقاع والحركة، كأنها موسيقى بصرية. اليد التي تعزف في الهواء، والعين التي تشدد على المعنى، والوجه الذي يضيف ظلالاً على الجملة، كلها عناصر تخلق خطاباً حياً يوازي أية لغة منطوقة. وتجربة حضور فعالية أو محاضرة مترجمة إلى لغة الإشارة تكشف حقيقة ذلك، حين ترى القاعة تنقسم إلى جمهورين يلتقيان في لحظة واحدة، أحدهما يسمع بالصوت والآخر يرى بالحركة، تدرك أن الإنسانية ليست في الصوت وحده، بل في القدرة على أن نفهم بعضنا بعضاً بوسائل متنوعة.
كل عام يضيف اليوم الدولي للغات الإشارة معنى جديداً عبر شعاره، من الدعوة إلى أن تكون هذه اللغات متاحة للجميع، إلى تأكيد وحدتها الإنسانية، إلى الحلم بعالم بلا حدود أمام الأصم، هذه الشعارات ليست مجرد جمل رنانة، بل رسائل إلى الحكومات والمجتمعات ليدخلوا هذه اللغة في المدارس، وليدربوا المترجمين، ولكي تكون لغة الإشارة مرئية في الحياة اليومية، وفي إشارات المرور، وفي الخدمات العامة، وفي المسارح والجامعات، لا مجرد حضور موسمي في نشرات الأخبار، هكذا يصبح اليوم الدولي فسيفساء متراكمة بالكلمة المسموعة أو بالحركة المرئية.