ملخص
لا جدال في أن الدراسات الاجتماعية الجادة التي يقوم بها علماء وبحاثة في العلوم الإنسانية كافة باتت مصدراً أول للمعارف، في مجتمعاتها، وفاعلاً حاسماً في صنع السياسات المحلية، في البلدان المعنية. ومن تلك الدراسات ما صدر حديثاً عن دار الساقي بعنوان "الجيل المحروم؛ الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". أما الترجمة إلى العربية فأنجزتها الباحثة شيماء مرزوق، وبلغت صفحات الكتاب 511 صفحة، مع المراجع والمصادر والملحقات الغنية.
لعل الدراسة "الجيل المحروم" أعدتها مؤسسة فريدريش إيبرت، عبر باحثيها المحليين: خديجة بو سعيد (الجزائر)، أحمد قاسم مفتن (العراق)، كمال نايف طميم (اليمن)، محمد أبو رمان ووليد الخطيب (الأردن)، ميشال الدويهي (لبنان)، وآخرون. أما الأكاديميون الأجانب المساهمون في الدراسة فمنهم: يورغ غِرتِل، ودافيد كروير، وفريديريكا ستوليس.
يقول الباحثون، في مستهل الدراسة، إنهم قصدوا استطلاع أوضاع الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في ظل الأزمات المتعددة، بل الاضطرابات الشديدة التي لم ينجوا من تداعياتها، وأثرت تأثيراً حاسماً في خياراتهم وفرصهم ونوعية حياتهم. يضاف إلى ذلك، ما شهدته هذه البلدان من أزمات تسببت بها جائحة كورونا. ويوضحون في شأن الدراسة أنها استطلعت آراء أكثر من 20 ألف شاب تراوح أعمارهم بين 16 و30 سنة، على أن يمثل كل ألف (1000) منهم بلداً بعينه، من البلدان المعنية بالدراسة. أما مضمون الدراسة فيتوزع على 16 (ستة عشر بنداً) تطاول كل شأن من شؤون الاجتماع ونمط الحياة والاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، والقيَم، والسياسة وغيرها.
والأهم، في هذه الدراسة، أنها تكوّن تصوراً يكاد يكون كاملاً عن العوامل المؤثرة في تشكيل رأي الشباب العربي، والشرق أوسطي عموماً، في ما ينبغي له أن تكون عليه أوضاعهم المادية والاجتماعية وتوجهاتهم الشخصية، فضلاً عن رأيهم في مختلف المعوقات التي تقف في سبيل تحقيق طموحاتهم في الحياة، في خلال العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.
وطاة الحرمان
لدى النظر إلى أول بندٍ من الستة عشرة، أي الحرمان، يتبين للدارسين في مختلف البلدان المعنية، أن الشبان والشابات على حد سواء، باتوا أكثر قلقاً على مستقبلهم المهني، وأقل شعوراً بالأمان. ويتجلى ذلك في تقلص فرص التعليم لهؤلاء، يفضي إليها تضاؤل مطرد للحصول على الوظائف، في ظل تنافس غير متوازن مع العمالة الأجنبية، وتلاحق للأزمات في الدول المعنية. وهذا ما ينعكس شعوراً ضاغطاً بتضاؤل الموارد المادية التي تتيح لهم العيش بكرامة، وصولاً إلى فقدانهم القدرة على توفير أدنى قدر من المال. وقد بين الجدول الخاص "بالتوازن بين العمل والحياة" داخل هذه البلدان أن نسبة من يشعرون بوجود توازن جيد بين عملهم وحياتهم لا تكاد تتجاوز، بحدها الأقصى 32 في المئة. في حين أن نسبة من يشعرون بأنهم يعملون أقل من طاقتهم، هي 38 في المئة، فضلاً عن شعورهم بالإقصاء من المجتمع، لحرمانهم من تثمير قدراتهم وكفاياتهم الحقيقية. وبالطبع، تتفاوت هذه النسب بين بلد عربي وآخر، من دون أن تكون حادة. على أن نسبة الرضا، المتدنية للغاية، الذي يشعر به الشباب، في البلدان العربية المعنية، إن دل على شيء فعلى حال من الإحباط بسبب ضيق الآفاق أمامهم، وتعدد العثرات في سبيل تحقيق أدنى تطلعاتهم.
جائحة "كوفيد 19"
وبالانتقال إلى جائحة "كوفيد 19" التي عمت بكوارثها العالم أجمع، فقد نالت الدول العربية حصتها منها؛ إذ أحصي فيها وقوع 13 مليوناً مرضى بتفاوت درجاته، وبلغت الوفيات من هؤلاء 170ألفاً. ومما لا شك فيه أن هذه الجائحة قد أرخت بظلالها على شبان البلدان العربية، وزادت طين أوضاعهم بلة. وقد أوضحت بينات حالات الإصابة بالفيروس، أن نسبة عالية من الشباب أصيبوا بها شخصياً، تراوحت بين 52 في المئة إلى 79 في المئة، في البلدان المذكورة على التوالي: المغرب وتونس، وفلسطين، والأردن، وليبيا، ولبنان، والعراق، والجزائر. وبالمقابل، يتفق أكثر من خمسين في المئة منهم على أنهم لم يحصلوا على رعاية صحية مجانية، في حين أن الحاصلين على رعاية صحية جيدة هم من أفريقيا الشمالية (ليبيا، والجزائر)، والمشرق العربي (فلسطين، والأردن).
وقد أسهمت الأزمات المتتالية التي أصابت بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية في إحداث تطورات سلبية واضحة، على الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي، بحسب الدراسة؛ إذ ازداد اعتماد الشباب في تلك البلدان على أسَرهم، وتضاعفت أعدادُ منْ رضيَ الإقامة في كنف العائلة، تحت وطأة الحاجة. وبناء عليه، صار اعتماد هؤلاء الشباب على والديهم مادياً أمراً مفروغاً منه، في ظل تناقص حظوظهم في العمل، على رغم مؤهلاتهم التعليمية الرسمية التي يفترض أن تخولهم الانخراط في سوق العمل. وأظهرت الدراسة أن نسبة البطالة عند هؤلاء، في البلدان العربية وشمال أفريقيا، بلغت ثلث القوى العاملة في البلاد، وهذه من النسب العالية جداً.
الأمن الغذائي
في هذا الفصل، يجري البحث في النتائج المباشرة التي أحدثتها- ولا تزال- النزاعات المسلحة والحروب والنزاعات المسلحة في البلدان العربية وشمال أفريقيا، على التكتلات البشرية فيها، ولا سيما الشبان منهم، على صعيد الأمن الغذائي. وأول ما تشير إليه الدراسة هو المجاعة الضاربة أطنابها في قطاع غزة، حيث ما يفوق المليوني نسمة يتعرضون لمجاعة لا نظير لها في العصر الحديث لها، تظهرها صوَر الأطفال المروعة الذين تجردت جسومهم من اللحم، "مَنْ للبطون الجائعات وللجسوم العارية" على حد تعبير الشاعر أبي العتاهية في تظلمه للخليفة بشأن المجاعة في بغداد، وهي هنا مفجعة أكثر، وقد أهلكت- وتهلك- العشرات بل المئات من الأطفال، في سابقة من عدوانية المحتل وسعيه للتأثير في حياة الشعب الفلسطيني وقمع تطلعاته. وفي هذا الشأن، تبين الدراسة أن ما نسبته 90 في المئة من الأسر الشابة في اليمن ومن اللاجئين السوريين في لبنان كانوا يعانون، في الخمس سنوات الماضية (2016-2020) نقصاً في الغذاء فادحاً. ولعل هذا الواقع قد ينسحب على بلدان مثل المغرب وتونس ومصر والسودان (حيث تتفاقم الأوضاع الاقتصادية لتبلغ حد المجاعة، بسبب تواصل المعارك بين المتقاتلين في حرب لا يبدو أن لها أفقاً).
الهجرة والنزوح
وفي الفصل الذي ناقش فيه الدارسون مقاصد الشباب في البلدان العربية وشمال أفريقيا حيال الهجرة، تبين لهم أن أغلب الشباب يجدون في الهجرة مخرجاً من وضع حياة غير مستقرة. وعلى رغم أن عدداً قليلاً منهم يملك تجارب شخصية في الهجرة، ليقينهم بأن العمل في الغرب، حيث المعيشة والظروف المادية أحسن بما لا يقاس، مما ينجيهم وعائلاتهم من الفاقة، بدليل أن التحويلات المالية التي كان-ولا يزال- يرسلها المهاجرون العرب من بلاد الغربة إلى عيالهم في الوطن شكلت عاملاً حاسماً في صمود ذويهم، وفي إعانتهم على البقاء وسط الأزمات الخانقة.
وفي ما يتجاوز أنماط الهجرة والنزوح المعروفة، نعني بها الهجرة من الريف إلى المدينة، ومن بلدان الجنوب إلى الشمال، والهجرات القسرية بسبب الحروب، تقول الباحثة جورجينا رامزي (2021) بوجود نمط من الهجرة ناجمة عن التهميش وظروف العمل الاستغلالية، يفضي إلى اقتلاع الأشخاص من بيئاتهم الاجتماعية الأصيلة. هذا من دون أن ننسى قوافل المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين التي ما ونيت تخاطر في ركوب السفن الشراعية والعبارات وغيرها فيلقى المئات بل الآلاف منهم مصرعهم في لجج البحر. ومن بين هؤلاء شباب كانوا ينوون متابعة تحصيلهم العلمي في جامعات الغرب (أوروبا) الرسمية، أو قليلة التكاليف المادية، لضيق الإمكانيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، وجد الباحثون (ميشال الدويهي) أن فئة قليلة فحسب من هؤلاء الشباب، أمكن لهم الحصول على قبول في الجامعات الأجنبية، بشرط أن تكون لديهم أرصدة بنكية كافية لديهم. وهذا مما يضاعف من حدة الفوارق الاجتماعية بين أبناء الشعب الواحد، ويزيد فرص الشعور بالظلم والصراعات.
الوعي البيئي والنشاط من أجل البيئة
في هذا الفصل، يعالج الدارسون مقدار وعي الشباب في البلدان العربية وشمال أفريقيا للبيئة، ولما أحدثته عوامل التحديث والعصرنة والتبدلات المناخية من تأثيرات سلبية على مناخ بلدانهم، وعلى مواردهم الطبيعية، وطبيعتهم التي حسبوا يوماً أنها لن تتحول عن صورتها. وقد رأى من نسبتهم 42 في المئة من الشباب في ليبيا، على سبيل المثال، أن الأزمة البيئية باتت خطيرة، وينبغي النظر في مسبباتها. في حين رأى 73 في المئة من الشباب، في لبنان، أن هذه الأزمة البيئية توجب التعاطي معها بجدية. بدليل أن 64 في المئة من المشاركين في الاستطلاع أقروا بأنهم لاحظوا آثار تغير المناخ في بلدانهم، أو ذاقوا مرارات هذا التغير في أرزاقهم وصحتهم ومناظر طبيعتهم المحيطة بإطارهم الحيوي.
وفي مقابل هذا الشعور المتنامي، لدى شباب البلدان العربية وشمال أفريقيا، بالتحولات الكارثية في بيئة بلدانهم، بدا واضحاً أن غالبيتهم تؤيد قيام الدولة ومؤسساتها بحملات توعية للمواطنين بحثهم على فرز النفايات، والتقليل من استخدام أكياس النايلون، والترشيد في استهلاك المياه، والعناية بالثروات الحيوانية المحلية، وغيرها.
قيَم ومثالات وأسئلة
لن يتسنى لهذه المقالة أن تطاول كل الجوانب التي عالجتها هذه الدراسة الفريدة لتوجهات الشباب في البلدان العربية وشمال أفريقيا، ولا سيما آراؤهم في الزواج، والدين، وتفضيلهم الركون إلى العائلة على الدولة لرسوخ التقاليد في أذهانهم، وغيرها من الجوانب التي تطرقت إليها الدراسة. وإنما تحضرنا بعض الأسئلة المكملة للدراسة والتي يفترض أن تصب في متنها؛ هل يمكن لهذه الدراسة، ومثيلاتها، أن تبلغ بخلاصاتها إلى صانعي القرار في بلدانها العربية، ما دامت- الدراسة- تتمتع بقدر عالٍ من الصدقية وتمثل آراء الأجيال الشابة؟ وهل تسعى سلطات القرار إلى تحسين ظروف الشباب العربي، عملاً بالتوصيات التي انتهت إليها الدراسة؟ وهل يؤخذ بالحسبان، عند صانعي القرار، دور الشباب الحاسم في دفع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية قدُماً إلى الأمام، في نهضة ثالثة لطالما حلمت بها الشعوب العربية والأفريقية قاطبة، أو يردونها إلى مجاهل لا قِبَل لأحدٍ بها؟