Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحياة تعود إلى داريا بعد سقوط الأسد وسكانها يعيدون بناءها

بعض جداريات الثورة صمدت والأهالي يبذلون جهوداً فردية لترميم المدارس والمنازل

الدكتور حسام جاموس يصافح صديقاً قرب عيادته في داريا (أ ف ب)

ملخص

بعد إطاحة نظام بشار الأسد عاد سكان داريا إلى مدينتهم المدمرة لإعادة بناء منازلهم ومرافقها، فيما تفقد الرسام بلال شوربه جدارياته التي رسمها خلال الحصار قبل عقد، والتي بقيت شاهدة على الثورة. وعلى رغم دمار 65 في المئة من الأبنية وانهيار البنية التحتية والخدمات الصحية، يبذل الأهالي جهوداً فردية لترميم المدارس والمنازل وسط آمال بدعم دولي لإعادة الإعمار.

بعد إطاحة حكم الرئيس بشار الأسد عاد الرسام بلال شوربه إلى مدينة داريا ليفاجأ بأن عدداً من الجداريات التي رسمها قبل نحو عقد من الزمن، لتحاكي تجارب الحصار والاعتقال والتوق للحرية، ما زالت صامدة.

داخل المدينة الوحيدة التي أخلاها الحكم السابق تماماً من سكانها في ذروة أعوام النزاع السوري، يتفقد شوربه (31 سنة) إحدى رسوماته على جدار مهدم في أحد الأحياء. تجسد "سيمفونية الثورة" كما أسماها، كيف تحولت التحركات السلمية إلى نزاع مسلح تعددت أطرافه. وتظهر في الرسم فتاة برداء أبيض تعزف الكمان، وخلفها جندي يصوب بندقيته تجاهها، ومن خلفه مقاتل يلاحقه ويقع بدوره تحت مرمى بندقية عنصر من تنظيم "داعش".

ويرى شوربه الذي قضى سنواته الأخيرة لاجئاً في تركيا وعاد إلى دمشق بعد تسلم السلطات الانتقالية الجديدة الحكم في البلاد، أن بقاء عدد من جدارياته الـ30 بعد كل هذه الأعوام، هو "انتصار". ويقول لوكالة الصحافة الفرنسية "على رغم دخول النظام إلى المنطقة وتهجيرنا، بقيت تلك الرسومات البسيطة، وهو (الأسد) هرب".

 

قصة داريا

خلال مارس (آذار) 2011، كانت المدينة الواقعة على بعد سبعة كيلومترات جنوب غربي دمشق، في طليعة حركة الاحتجاج السلمي ضد النظام، ووزع المتظاهرون فيها، وبينهم غياث مطر الذي اعتقل وقتل تحت التعذيب، الورد والمياه على الجنود.

لكن مع تطور الأحداث إلى نزاع دام، شهدت داريا مجزرة خلال صيف 2012 قتل فيها 700 من سكانها على أيدي قوات النظام ومسلحين موالين له، قبل أن يحاصرها هؤلاء بصورة محكمة لنحو أربعة أعوام. وأسفرت الهجمات عليها عن تشريد كل سكانها الذين تجاوز عددهم 250 ألفاً، بين نازحين ولاجئين في دول الجوار وصولاً إلى أوروبا التي استقطبت قبل عقد موجة كبرى من اللاجئين.

عام 2013، وصل شوربه إلى داريا آتياً من دمشق المجاورة للالتحاق بالمعارضة المسلحة، وأحضر معه "حقيبة صغيرة فيها دفتر رسم وأقلام تلوين ورواية البؤساء، مع ثياب تكفي ليومين أو ثلاثة".

لم يتوقع حينها أن الحرب ستغير حياته، وأنه سيبقى مع بضعة آلاف من سكان داريا محاصرين لنحو أربعة أعوام اضطروا خلالها إلى طهي الحشائش والأعشاب بعد منع دمشق دخول المساعدات الغذائية إلى المنطقة. وخلال أغسطس (آب) 2016، أخلت السلطات من تبقى من سكان ومسلحين إلى محافظة إدلب شمال غربي البلاد.

من إدلب التي شكلت خلال أعوام النزاع وجهة أساس لمعارضي الأسد، انتقل شوربه إلى تركيا حيث طور مهاراته في الرسم وبقي فيها حتى إطاحة الأسد.

ويقول اليوم إن طموحه أن يسهم وبقية الرسامين في "طمس" جداريات الحقبة الماضية التي "مجدت" عائلة الأسد وحزب "البعث" اللذين حكما البلاد بقبضة من حديد لأكثر من خمسة عقود. ويشرح أن الجداريات الجديدة يجب أن "تمجد من ضحى ومن عمل ومن كان سبباً في تحرير سوريا، وتذكرنا بألا نعود إلى الخطأ ذاته، أن يستبد أحدهم بالسلطة أو يحتكرها أو يؤذي الآخر".

 

"نبني منازلنا"

أثناء عام 2019 وبعدما كانت قوات الأسد استعادت السيطرة على مناطق واسعة خسرتها خلال الأعوام الأولى من الحرب، سمحت دمشق لسكان داريا وبخاصة النازحين إلى محيطها بالعودة تباعاً بعد تدقيق أمني، وكان غالبية العائدين من النساء والأطفال والمسنين.

بعد سقوط النظام خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، عاد عشرات الآلاف من السكان لا سيما اللاجئين إلى دول الجوار، وبينهم أطباء ومهندسون وعمال ومزارعون. وحمل عدد منهم خبراتهم الجديدة ومهاراتهم وحتى أموالهم إلى داريا. وعاد كذلك ناشطون وحقوقيون اختبروا آليات العمل الديمقراطي ومناخ الحريات في دول اللجوء، والتي لم يتذوقوا طعمها يوماً داخل سوريا.

تختصر داريا، المدينة التي يمكن منها رؤية القصر الرئاسي بالعين المجردة، مأساة حرب قتلت أكثر من نصف مليون شخص وشردت الملايين. أحياء بأكملها سُويت بالأرض ومرافق خدمية مدمرة، وشح في المياه والكهرباء وغياب الاتصالات عن أحياء عدة. ربع آبار المدينة فقط تعمل ومياه الصرف الصحي تفيض في أحياء عدة.

وبحسب مسح أجرته الجمعية الأميركية للمهندسين السوريين خلال أبريل (نيسان) الماضي، تدمر نحو 65 في المئة من أبنية المدينة تماماً، وتضرر نحو 14 في المئة. أما النسبة المتبقية فهي صالحة للسكن لكنها تحتاج إلى ترميم نسبي وإكساء.

مع ذلك، لم يتردد حسام اللحام (35 سنة) في العودة مع عائلته التي كونها في إدلب، ليرزق بأصغر بناته الثلاث في دمشق هذا العام. ويقول حسام الذي نشط بعد عام 2011 في العمل الإغاثي داخل داريا قبل أن يصبح قائداً عسكرياً ويغادرها في عداد من أجلوا منها عام 2016، "قررنا أن نعود إلى داريا لأننا الوحيدون القادرون على إعادة بناء منازلنا".

ويضيف الرجل الذي يقود لجنة المبادرات ضمن الإدارة المدنية لداريا، "إذا أردنا انتظار المجتمع الدولي والمنظمات، قد لا نعود"، مضيفاً "نرمم بيوتنا بأنفسنا لكن نريد المساعدة في البنى التحتية".

 

هياكل خرسانية

تعول السلطات الجديدة في سوريا على دعم دولي لإطلاق مرحلة إعادة الإعمار، لكن الأولويات كثيرة والإمكانات المتوافرة متواضعة.

وتعني العودة إلى داريا أيضاً للحام الذي فقد خلال الحرب أكثر من 30 شخصاً من أقربائه وأصدقائه، الوفاء "للسوريين الذين دفعوا ثمناً باهظاً من أجل حريتهم".

ويكرس لحام الذي استأنف أيضاً الدراسة في اختصاص إدارة الأعمال جزءاً كبيراً من وقته مع متطوعين لجمع المساعدات وإقامة اتصالات مع منظمات، من أجل الحصول على تمويل لتأهيل مرافق متضررة بينها مدرسة ومستشفى. ويقول "أنهض صبيحة كل يوم وأقول لنفسي... يجب أن نبحث عن متبرع جديد".

وبينما سوت العمليات العسكرية أحياء بأكملها بالأرض على غرار حي الخليج المحاذي لقاعدة المزة العسكرية، تبدو أحياء أخرى مهدمة جزئياً شبه مقفرة، وتقتصر الحركة فيها على سكان يقطنون منازل رمموها على عجل في أبنية متصدعة.

وتبدو أحياء أخرى أقل تضرراً أشبه بخلية نحل. يتوزع عمال على الأسطح يرممون مدرسة هنا ويعيدون بناء واجهة مبنى هناك، بينما ينهمك آخرون في إعادة تأهيل مضخة مياه أو نقل مفروشات صنعت داخل المدينة التي يكاد لا يخلو حي فيها من ورشة نجارة.

والقطاع الطبي من أكثر القطاعات تضرراً نتيجة خروج أربعة مستشفيات خلال الحرب من الخدمة، أبرزها مستشفى داريا الوطني الذي افتتح عام 2008 بقدرة استيعابية تصل إلى نحو 200 سرير.

وبات المستشفى المصمم أساساً لخدمة أكثر من مليون شخص عبارة عن هيكل خرساني ضخم أخرجه القصف من الخدمة صيف 2016، ثم نهبت محتوياته بالكامل واقتلع بلاطه وأسلاك الكهرباء وأبواب ونوافذ منه، وفق ما عاين فريق الصحافة الفرنسية.

ويقول لحام "لا توجد في داريا اليوم غرفة عمليات أو مستشفى" للحالات الطارئة، بينما تقتصر الخدمات الطبية بصورة رئيسة على مركز طبي تشغله منظمة "أطباء بلا حدود" حتى نهاية العام. ويعرب عن اعتقاده أن "تأمين خدمات صحية من شأنه أن يشجع الناس على العودة".

ولجأ أطباء داريا من أصحاب الاختصاصات إلى دول عدة بينها مصر والأردن وتركيا وصولاً إلى أوروبا، ولم يعد الجزء الأكبر منهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"أخدم بلدي"

الاختصاصي في جراحة الأنف والأذن والحنجرة الدكتور حسام جاموس (55 سنة) قرر العودة من الأردن، بعد مغادرته وعائلته عام 2012.

ويقول من داخل عيادة جديدة افتتحها في داريا وعلق على أحد جدرانها شهاداته التي حصل على بعضها في الأردن، "توقعت دماراً كبيراً لكن ليس إلى هذه الدرجة".

في الأردن كان القانون يحول دون أن يزاول جاموس مهنته كطبيب، وهو الذي ترك في أدراج عيادته السابقة ملفات أكثر من 32 ألف مريض عاينهم. فاختار العمل كمتطوع في جمعية خيرية ثم مستشفى تابع للهلال الأحمر الإماراتي.

على مدخل عيادته الجديدة الذي اخترقه الرصاص، رفع جاموس لافتة كبيرة تحمل اسمه ومجالات تخصصه. وبعد أسابيع من العمل تجاوز عدد مرضاه المئات، من أطفال مصابين بالتهاب اللوز إلى مرضى يعانون "ثقوباً في غشاء طبلة الأذن أو كسور أنف جراء الضرب تحت التعذيب أو الاعتقال". ويتابع "كما خدمت أبناء بلدي اللاجئين في الأردن، أتابع اليوم الخدمة ذاتها في بلدي".

ويقطن حالياً في داريا وفق بلديتها نحو 200 ألف شخص، 80 ألفاً منهم عادوا بعد إطاحة الأسد.

بين هؤلاء النجار محمد نكاش (31 سنة) الذي اصطحب زوجته وطفليه عمر (ست سنوات) وحمزة (ثماني سنوات) المولودين في تركيا، ليتعرفا إلى عائلته ويترعرعا في المدينة.

ويعمل نكاش الذي انشق عن الجيش عام 2012 وقتل له شقيق داخل السجن في ورشة نجارة يملكها والده بحرفة تتوارثها عائلته، على غرار عائلات كثيرة في المدينة.

ويقول إن طفليه واجها في البداية صعوبة في الاندماج، مضيفاً "عندما وصلنا إلى هنا لم يقتربا من والدي وإخوتي"، مما دفعه لعرضهما على ثلاثة أطباء ظناً منه أنهما يعانيان التوحد.

لكن بعد بضعة أشهر، اعتاد الطفلان العائلة وأطفال الحي وباتا يرتادان مدرسة قريبة، على غرار 14 ألف طالب يشقون طريقهم يومياً بين أبنية مهدمة إلى 17 مدرسة، من إجمال 24 كانت موجودة قبل عام 2011، وفق ما يشرح مسؤول تربوي من دون الكشف عن اسمه.

يعاني القطاع التعليمي اليوم نقصاً كبيراً في عدد المدرسين والتجهيزات ومن صعوبات لدى الطلاب الذين ولدوا في دول اللجوء، مع عودة أكثر من مليون سوري منذ سقوط حكم الأسد، وفق الأمم المتحدة، نصفهم من تركيا.

ويقول المسؤول التربوي إن التلاميذ القادمين من تركيا يواجهون "صعوبة تتعلق باللغة العربية التي يتكلمونها لكن لا يجيدون كتابتها"، مما يدفع الإدارة التربوية إلى "تنظيم دورات في اللغة العربية".

وعلى رغم الصعوبات والتحديات، يحاول نكاش أن يبني حياته من جديد ويطمح لإعادة بناء منزله المهدم.

 

"قبر لأشقائي"

يقول رئيس بلدية داريا محمد جعنينة إن مواطنين "عادوا ووجدوا منازلهم مدمرة يطالبوننا بتأمين المأوى أو الدعم" لإعادة بناء منازلهم.

ويواجه عدد كبير من السكان عقبة رئيسة تتمثل في صعوبة إثبات ملكياتهم بسبب فقدان مستنداتهم، مما يحول دون قدرتهم على إعادة البناء، وهي معضلة يواجهها السوريون داخل مدن عدة.

في داريا، لا تشكل الأبنية المهدمة وحدها شاهداً على حقبة الحرب.

في "مقبرة الشهداء" التي استحدثت خلال الحرب ترقد جثامين 421 شخصاً من المدينة موثقين بالأسماء قتلوا بين عامي 2012 و2016، وتضم المقبرة كذلك مدفناً جماعياً فيه جثث مجهولة الهوية دفنت في جزء كبير منها بعد "مجزرة" داريا.

ويروي عدد من سكان المدينة، بينهم شوربه ولحام اللذان كانا في عداد آخر من غادر المدينة، كيف عمل المقاتلون والناشطون قبل رحيلهم على نزع شواهد القبور بعد تصويرها ثم طمسها بالتراب، خشية عبث قوات النظام بها انتقاماً.

لكنهم فور عودتهم أعادوا تنظيم المقبرة ووضع الشواهد، استناداً إلى صور كانوا التقطوها.

وتقول آمنة خولاني ابنة داريا وعضو الهيئة الوطنية للمفقودين التي شكلتها السلطات الجديدة، بينما تزور المقبرة، "في داريا غصة، قسم كبير من الأهالي لا يعرفون أين أولادهم".

وتضيف بينما تحاول حبس دموعها "لا قبر لعائلتي الصغيرة هنا"، مضيفة "أنا اليوم في نضال لأحصل على قبر لإخوتي" الثلاثة.

واعتقلت القوات النظام السابق أشقاءها وتبلغت العائلة لاحقاً بإعدامهم، وظهرت صورة أحدهم في ملفات قيصر التي ضمت أكثر من 50 ألف صورة لمعتقلين قضوا داخل السجون السورية إبان فترة قمع الاحتجاجات السلمية.

ولا تزال عشرات آلاف العائلات في سوريا تنتظر معرفة مصير أفرادها ممن كانوا معتقلين في سجون النظام السابق ولم يخرجوا منها بعد إطاحته.

ويعد ملف المفقودين بين الملفات الأكثر تعقيداً التي أفرزتها الحرب السورية ويحتاج أعواماً من العمل والتوثيق وخبرات تقنية غير متوافرة محلياً.

منذ أشهر، تتنقل خولاني بين بريطانيا التي منحتها اللجوء مع أسرتها وسوريا حيث تحلم ببناء "دولة مواطنة تتحقق فيها العدالة ومحاسبة المجرمين". وتقول السيدة التي تحدثت مرتين أمام مجلس الأمن الدولي وتنشط في منظمات عدة "بعد نضالنا سابقاً للتخلص من الأسد، نبحث اليوم عن قبور"، مضيفةً "نريد قبوراً ونريد الحقيقة... ونريد دفنهم بطريقة تليق بهم وتكرم ذكراهم".

على جدار داخل المقبرة، رسم بلال شوربه بعد عودته إلى داريا جدارية تظهر فيها طفلة تحمل وردة حمراء، تحلم بوضعها على قبر والدها. لكن والدها على غرار ضحايا كثر، لا قبر له.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير