ملخص
كانت "حماس" تعتمد من أجل إعداد موازنة حكومتها قبل الحرب، على مداخيل من رسوم جمركية وضرائب تشمل كل قطاعات الحياة: ضرائب دخل ورسوم على التجارة والخدمات البلدية والمعاملات الحكومية، إلخ...
ومنذ عام 2021، كانت قطر ترسل مبالغ شهرية إلى قطاع غزة (بلغت حتى قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، 360 مليون دولار في السنة)، بموجب اتفاقات تهدئة رعتها بين "حماس" وإسرائيل لتجنب التصعيد بينهما، ولتأمين رواتب الموظفين ولمساعدة الفقراء في القطاع الفلسطيني.
رسالة على الهاتف تدعو حامله إلى "فنجان قهوة"، لقاء بين الأنقاض، وتسليم مبلغ نقداً... هكذا تواصل "حماس" دفع رواتب موظفيها في غزة، على رغم مرور عامين على الحرب، في عملية "محفوفة بالموت"، وفق ما يقول أحدهم.
ووجّهت إسرائيل ضربات قاسية لـ"حماس" وحكومتها ومؤسساتها منذ بدء الحرب قبل 23 شهراً، ما تسبّب بإضعاف الحركة التي كانت تحكم القطاع منذ عام 2007، ونقص السيولة لديها وتراجع إمكاناتها. لكن شهادات جمعتها وكالة الصحافة الفرنسية من عدد من الموظفين الحكوميين استخدموا جميعهم أسماء مستعارة، تؤكد أنهم لا يزالون يتلقّون رواتب، أو جزءاً منها، من الحركة.
رسائل مبهمة
ويروي كريم (39 سنة)، وهو موظف في وزارة الأشغال العامة التابعة لحكومة "حماس"، أنه تلقّى في يوليو (تموز)، رسالة على هاتفه النقال جاء فيها، "فلان (لم يحدّد الاسم)... يدعوك لشرب فنجان قهوة" مع الزمان والمكان قرب مدرسة تحوّلت مكاناً لإيواء النازحين في منطقة رفض تحديدها أيضاً.
ويقول "ذهبتُ إلى المكان المحدّد. كنت خائفاً جداً من غارة إسرائيلية. هناك، كان ينتظرني موظّف أعرفه من قبل. سلّمني 1000 شيكل (298 دولاراً)"، وهي دفعة من راتبه الشهري الذي كان يبلغ 2900 شيكل قبل الحرب.
ويصف عملية تسليم الراتب بأنها "محفوفة بالموت".
ويقول سكان في قطاع غزة لوكالة الصحافة الفرنسية عبر الهاتف، إنهم يخشون الحضور قرب أشخاص محسوبين على حركة "حماس"، أو يعملون معها، أو يقاتلون في صفوفها. إذ إن إسرائيل قادرة على رصد وجود الكثير من هؤلاء، وغالباً ما تستهدفهم بغارات جوية أو بمسيّرات، ما يتسبّب بمقتل أشخاص محيطين بهم.
وتروي آلاء، وهي مدرّسة في مدرسة حكومية بمدينة غزة، أن آخر راتب تسلمته كان في شهر يونيو (حزيران).
تلقّت يومها رسالة نصية على هاتفها تطلب منها التوجه إلى مدرسة نازحين في شمال القطاع.
وتقول السيدة الثلاثينية، وهي متزوجة ولديها خمسة أطفال، "كانت المدرسة تعرّضت للتو لقصف إسرائيلي، وهرب الموظّف الذي يسلّم الرواتب. الحمد لله أنني تأخرت، نجوت من الموت".
وعادت إلى المنطقة في اليوم التالي لتسلّم الراتب.
دعم مالي
وكانت "حماس" تعتمد من أجل إعداد موازنة حكومتها قبل الحرب، على مداخيل من رسوم جمركية وضرائب تشمل كل قطاعات الحياة: ضرائب دخل ورسوم على التجارة والخدمات البلدية والمعاملات الحكومية، إلخ...
ومنذ عام 2021، كانت قطر ترسل مبالغ شهرية الى قطاع غزة (بلغت حتى قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، 360 مليون دولار في السنة)، بموجب اتفاقات تهدئة رعتها بين "حماس" وإسرائيل لتجنب التصعيد بينهما، ولتأمين رواتب الموظفين ولمساعدة الفقراء في القطاع الفلسطيني.
لكن من المعروف أيضاً أن "حماس" كانت تعتمد على دعم مالي من جهات عدة غير معلنة. وتفيد تقارير بأن الحركة تتلقّى دعماً مالياً وعسكرياً من إيران. إلا أن طهران تؤكد دعمها السياسي لـ"حماس"، من دون أن تؤكد مسألة مدّها بالسلاح والمال.
وذكر مسؤول فلسطيني مطلع في قطاع غزة أن "حماس" كانت تحصل على الأموال عبر طرق معقّدة وسرية، من بينها تهريب عبر أنفاق حدودية، أو عبر البحر.
تخزين الأموال
وتتكتم "حماس" على مصادر أموالها وآلية توفيرها. ويقول عضو بارز في الحركة إنها "قضية أمن قومي، جزء من المقاومة".
لكن جميل (43 سنة)، وهو محاسب في مؤسسة حكومية في غزة، يقول إن "حماس" "خزّنت مئات ملايين الدولارات سواء في أنفاق أو أماكن آمنة للأوقات العصيبة مثل الحرب"، من دون مزيد من التفاصيل.
ثم يلفت إلى أن إسرائيل "قصفت بنوكاً تابعة لـ‘حماس‘ وعدة أماكن فيها مخازن للأموال، واغتالت عدداً من المسؤولين في النظام المالي، لكن هذا لم يوقف المسيرة".
ودمّرت إسرائيل كل مؤسسات الحركة في القطاع. كذلك، دمّرت فروع مصرفين تم إنشاؤهما بعد سيطرة "حماس" في 2007 على القطاع، ولا تعترف بهما سلطة النقد الفلسطينية، وهما بنك الإنتاج والبنك الوطني الإسلامي.
ونشر الجيش الإسرائيلي في فبراير (شباط) 2024 أشرطة فيديو فيها صور صناديق وأكياس تحتوي مبالغ ضخمة من المال بالشيكل والدولار والدينار الأردني، مشيراً إلى أنه عثر عليها في أحد الأنفاق.
ونفّذ الجيش الإسرائيلي ضربات استهدفت مسؤولين تتهمهم تل أبيب بإدارة أموال "حماس"، أحدهم مسؤول كبير يدعى إسماعيل برهوم، أعلن الجيش قتله في مارس (آذار).
وتقول شهادات إن إسرائيل استهدفت عشرات المرّات نقاطاً لتسليم الرواتب في القطاع المدمّر تسبب بعضها بوقوع قتلى.
ويتلقّى بعض كبار الموظفين الراتب سراً في أماكن إقامتهم في مخيمات النازحين أو مدارس الإيواء، "حتى لا يتعرّضوا لضربات إسرائيلية"، بحسب مصدر في "حماس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح جميل أن عملية دفع الرواتب "معقّدة جداً. وأن خطة الدفع تتغيّر باستمرار بحسب الظرف الأمني"، مشدداً على أن الحكومة "حريصة على دفع جزء من الرواتب كلما توافرت الأموال".
وبحسب مسؤول في "حماس" بالدوحة، فإن الحركة "لا تدخّر جهداً لتوفير الرواتب"، معتبراً أن "زعم الاحتلال بأنه قضى على ‘حماس‘، وهم".
ويبلغ عدد الموظفين الحكوميين في قطاع غزة 40 ألفاً. ولا يعرف إن كان الجميع يتقاضون رواتبهم بانتظام. ويشكو البعض من أن "المحسوبين" على "حماس" يحصلون على المال والمساعدات، بينما غيرهم لا. علماً أن عدداً صغيراً من الموظفين في قطاعي الصحة والشرطة لا يزالون يعملون، بينما توقفت الأشغال بالنسبة للآخرين بسبب الحرب.
شرب الشاي
ويقول عدد من الذين لا يزالون يتقاضون رواتب أو جزءاً من رواتب، إنها لا تكفي في ظل الأوضاع المتردية في القطاع حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بصورة كبيرة، وهناك نقص في كل الأساسيات.
ويقول كريم الذي يعيل زوجته وأطفاله الستة "أشعر بقهر، الراتب لا يكفي لتوفير دقيق لأسبوع، مجاعة وأسعار خيالية في الأسواق".
أما مسعود فيقول إنه تلقّى أخيراً رسالة نصية على هاتف زوجته تدعوه ليشرب الشاي، فدهشت زوجته للرسالة، لكنه ضحك وقال لها "هذه بشرى خير، الراتب وصل".
ويوضح مسعود الذي يعمل ضابطاً في شرطة "حماس" أن الراتب "لا يسمن ولا يغني عن جوع، بالكاد نوفّر بعض الطحين، نتسلّم جزءاً منه كل شهرين أو ثلاثة".
ومع تأكيده "نحن مع المقاومة"، يرى أنه "كان الأجدر بهم (حماس) أن يتجهّزوا لهذه اللحظات الجحيمية. كيف تطلب من الناس الصمود من دون أكل ولا مياه؟".
ويضيف "لا أريد راتباً ولا وظيفة، أريد أن تنتهي الحرب وأعيش حياة طبيعية".
ويقول عبدالله (38 سنة)، وهو مدرّس في شمال القطاع، "ودّعتُ زوجتي وأولادي ولم أقل لهم إنني ذاهب لتسلّم راتبي".
ويضيف أنه يعيل أمه وأكثر من 20 شخصاً بينهم زوجات وأطفال أشقائه الثلاثة الذين قتلوا قرب مراكز لتوزيع المساعدات.
وتسلّم عبدالله آخر راتب (950 شيكلاً، أي 280 دولاراً) في يوليو (تموز). ويقول إن طريقة الدفع "متعبة، وكأنك تعمل في مافيا".