ملخص
رحلت مريم لكن رسالتها لم ترحل معها، إذ بقت عين الكاميرا مسلطة على الأحداث، وكأنها بآخر ما صورته أرادت أن تخبر العالم أن الطريق إلى الحقيقة في غزة ثمنه الموت، وأن ما يجري ضد الفلسطينيين في القطاع من تجويع وترويع وتدمير وجرائم إبادة جماعية، حاولت نقله بمهنية وحياد حتى الرمق الأخير من حياتها.
قبل دقائق من مقتلها، صباح اليوم الإثنين، وثقت مريم أبو دقة مصورة "اندبندنت عربية" بالكاميرا رحلة وصولها إلى مجمع ناصر الطبي في خان يونس، للانضمام إلى فريق المصورين والصحافيين الذين ينقلون الأحداث وتطورات الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
عبر حسابها على "فيسبوك" نشرت مريم عدداً من الفيديوهات القصيرة "ريلز" منهم اثنان قامت بتصويرهما صباح اليوم، الأول لأحد المصابين جراء القصف الإسرائيلي، والثاني وهي في طريقها لمتابعة الأحداث وعنونت الفيديو بـ"الطريق لغزة".
ما إن وصلت مريم إلى مكان تجمع رفاقها من الصحافيين والمصورين وتحديداً الطابق الأخير (الرابع) من مبنى الطوارئ في مجمع ناصر الطبي، حتى شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية غارتين على مكان التجمع وقصفت المبنى بصاروخين، فقضت مريم نحبها ومعها عدد من الصحافيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طاب قبرك
رحلت مريم لكن رسالتها لم ترحل معها، إذ بقت عين الكاميرا مسلطة على الأحداث، وكأنها بآخر ما صورته أرادت أن تخبر العالم أن الطريق إلى الحقيقة في غزة ثمنه الموت، وأن ما يجري ضد الفلسطينيين في القطاع من تجويع وترويع وتدمير وجرائم إبادة جماعية، حاولت نقله بمهنية وحياد حتى الرمق الأخير من حياتها.
لم تكن مريم تودع الحياة مؤمنة بالقضية الفلسطينية، وهي تترك رسائل، بل أرسلت لكل من ضحوا من أجل الأرض والقضية، إذ شاركت مقطعاً آخر أمس كتبت فيه "أعدك بأني لن أنساك من دعائي إلى أن يشاء الله، ويلحقني بك سلام عليك طبت وطاب قبرك يا فقيد".
ونشرت المصورة في "اندبندنت عربية" قصة صحافية عبر صفحتها على "فيسبوك" بعنوان "حلم شاب مقعد في قطاع غزة"، وكانت القصة تعبيراً عن أسلوبها المهني في توثيق معاناة المدنيين وتسليط الضوء على الفئات المهمشة وسط الحرب، وجاءت ضمن التدوينات الأخيرة في سياق يومياتها التي حولت صفحتها إلى مساحة أرشيفية لحياة تحت القصف.
في آخر ظهور لها عبر "فيسبوك"، تحدثت المصورة الميدانية مريم أبو دقة إلى جمهورها عن الأوضاع في غزة، مؤكدة أن "الظروف غير آمنة في أي مكان"، وأن المدنيين يعيشون حالة قلق دائم، إذ يرى كثيرون أن المخاطرة بالانتقال من مكان إلى آخر لا تقل خطراً عن البقاء في مناطقهم، وأوضحت، من خلال تسجيل التقطته بكاميرتها الصغيرة، أن بعض النازحين محدودي الحركة يفضلون البقاء في أماكنهم على رغم الأخطار، لأنهم مقتنعون أن "كل مناطق القطاع غير آمنة".
آخر ما نشرته مصورة "اندبندنت عربية" #مريم_أبو_دقة عبر خاصية الستوري على صفحتها في وسائل التواصل قبل مقتلها في غارة إسرائيلية#نكمن_في_التفاصيل pic.twitter.com/L09eYh3o1v
— Independent عربية (@IndyArabia) August 25, 2025
إلى جانب هذه الشهادات الإنسانية، وثقت مريم قصة طفل أصيب بالشلل جراء إصابته في قصف التقت به في القطاع، جلست إلى جواره وصورت معاناته اليومية في الحصول على أبسط مقومات الحياة تحت الحصار والقصف، لتقدم صورته كملخص لحالة المدنيين الذين يواجهون الحرب بأجساد منهكة وظروف صحية صعبة.
وبالنسبة إلى مريم، كانت قصة الطفل رمزاً لواقع أكبر: مجتمع بأكمله يفتقد الأمان ولا يجد مكاناً آمناً في غزة.
وختمت مريم حالتها الأخيرة بمقطع قصير من داخل سيارة تتحرك في شوارع غزة بين الركام والدمار، كأنها أرادت أن تترك خلفها شهادة بصرية أخرى عن أن حياتها اليومية، مثل حياة جميع من في القطاع، كانت محاطة بالموت من كل جانب.
نافذة توثيق
منذ بداية الحرب الأخيرة تحول حساب مريم أبو دقة إلى نافذة توثيق مباشر من الميدان، إذ نشرت صوراً وجملاً قصيرة تعكس حجم الدمار والمعاناة اليومية مثل المنازل المهدمة، وأطفال يبحثون عن الطعام، ونساء تحت الركام، وقصتها الأخيرة عن الشاب المقعد لخصت رؤيتها للعمل الصحافي من زاوية إنسانية كوسيلة لنقل صوت من لا يملكون القدرة على التعبير.
في صباح اليوم قصفت الطائرات الإسرائيلية محيط مجمع ناصر الطبي مما أسفر عن مقتل 15 شخصاً في الأقل، بينهم عدد من الصحافيين منهم مصورة "اندبندنت عربية" مريم أبو دقة، وتداول ناشطون صوراً أظهرت جثمانها في المستشفى، حيث لم تتوفر أسرة كافية للضحايا، في مشهد يعكس الوضع الإنساني المتدهور في القطاع.
صفحة مريم على "فيسبوك" تحولت بعد إعلان مقتلها إلى ساحة للتعليقات التي نعتها وأشادت بعملها، وكتب متابعون عبارات مثل "مريم شهيدة الحقيقة" و"رحلت العدسة التي وثقت غزة"، في حين عبّر زملاء من وكالات دولية عن تقديرهم لعملها وأدانوا مقتلها باعتباره جزءاً من استهداف أوسع للصحافيين في غزة.
الصور والتدوينات التي تركتها على حسابها الشخصي باتت تمثل أرشيفاً رقمياً يعكس التحديات التي يواجهها الصحافيون في غزة والأثمان التي يدفعونها في سبيل نقل الأحداث.
ووصفت منظمة "مراسلون بلا حدود" قتل الصحافيين بأنه جريمة حرب، كما أشارت "هيومان رايتس ووتش" إلى أن استهداف الصحافيين ومنشآتهم يتم بصورة ممنهجة ويهدف إلى الحد من التغطية المستقلة للانتهاكات.
مقتل مريم أبو دقة يندرج في سياق أكبر من الأخطار التي تواجهها الصحافة في مناطق النزاع، حيث يدفع الإعلاميون ثمناً مباشراً لعملهم الميداني.