ملخص
مع بداية النزوح في خريف عام 2023 قدم "حزب الله" مبالغ مالية للعائلات النازحة من بيوتها وقراها في المنطقة الحدودية توزعت بين مصروف شهري وبدل استئجار. لكن عملية دفع التعويضات على البيوت المهدمة أو المتضررة سرعان ما بدأت تتقهقر مع ازدياد إقفال طرق تمويل الحزب من الخارج وبخاصة الأموال التي تصل إليه من إيران، مما أوقف حكماً عملية دفع التعويضات أو صرف الشيكات التي منحها الحزب لأصحاب البيوت إلى أجل غير معروف.
يدنو نزوح سكان القرى الحدودية في جنوب لبنان، ولا سيما قرى وبلدات الحافة الأمامية من عامه الثاني بعدما بدأ مع بداية ما أطلق عليه "حزب الله" عملية إسناد غزة، في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وكانت إسرائيل ترد على هذه العملية بقصف القرى والبلدات الحدودية مما دفع سكانها إلى النزوح تباعاً نحو مناطق أكثر أمناً في قرى وبلدات الخط الثاني من الحدود والخطوط الخلفية.
بعدها هجر جميع سكان هذه القرى بفعل ارتفاع حدة المناوشات والمعارك بين الطرفين التي انتهت بحرب كبيرة استمرت 66 يوماً بين سبتمبر (أيلول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 2024، مما أدى إلى نزوح أكبر لمعظم مناطق الجنوب والبقاع. ثم أتى إعلان وقف إطلاق النار بنهاية نوفمبر بين لبنان وإسرائيل برعاية أميركية وفرنسية والمباشرة بتنفيذ القرار الأممي "المعطل" 1701 القاضي بسيادة الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل" على منطقة جنوب الليطاني ونزع السلاح غير الشرعي وانسحاب إسرائيل من المناطق الحدودية المحتلة.
آمال بالعودة لم تتحقق
علق النازحون آمالاً كبيرة على اتفاق وقف إطلاق النار على قاعدة أنه سيمكنهم من العودة إلى ديارهم التي دمرت إسرائيل معظمها، وبخاصة في مناطق الحافة الأمامية التي تجاوزت نسبة التدمير فيها الـ70 حتى الـ80 في المئة، لكن إسرائيل لم تلتزم قرار وقف إطلاق النار وأبقت على خمس تلال تحت احتلالها بين غربي وشرقي المنطقة الحدودية، ومنعت بالنار والطائرات المسيرة والحربية عودة سكان القرى إلى بيوتهم، بل دمرت محاولات العودة هذه، فيما يؤكد المعنيون اليوم أن أعداداً ضئيلة فقط من السكان عادوا إلى الأحياء البعيدة من المواقع الإسرائيلية المشرفة على القرى الملاصقة للحدود بين لبنان وإسرائيل، مما فرض بحكم الواقع أزمة نزوح جديدة لا حدود لانتهائها في المدى القريب.
تقهقر المساعدات
مع بداية النزوح في خريف عام 2023 قدم تنظيم "حزب الله" مبالغ مالية للعائلات النازحة من بيوتها وقراها في المنطقة الحدودية توزعت بين مصروف شهري وبدل استئجار منزل تراوحت ما بين 500 و600 دولار أميركي، ثم قدم بعد حرب الـ66 يوماً واتفاق وقف إطلاق النار مبالغ مالية تحت تسمية إيواء وإعادة تأثيث لأصحاب البيوت التي دمرتها الحرب أو خربتها، ومبالغ مشابهة لسكان القرى الحدودية النازحين.
لكن عملية دفع التعويضات على البيوت المهدمة أو المتضررة سرعان ما بدأت تتقهقر مع ازدياد إقفال طرق تمويل الحزب من الخارج وبخاصة الأموال التي تصل إليه من إيران، مما أوقف حكماً عملية دفع التعويضات أو صرف الشيكات التي منحها الحزب لأصحاب البيوت إلى أجل غير معروف، ثم بدأ الحزب أخيراً بإيقاف دفع مبالغ المساعدات لسكان القرى الحدودية ممن انتشروا في أقضية النبطية وصور وصيدا وفي العاصمة بيروت.
في الأصل أدى النزوح القسري إلى تعطل مصالح سكان جنوب لبنان وبخاصة القرى الحدودية التي كانت تعتمد على الزراعة الدائمة والموسمية وفي طليعتها مواسم الزيتون وأشجار الفاكهة والتبغ، تضاف إليها مصالح تجارية وصناعية وحرفية وسياحية تعطلت بالكامل بل وأصيبت بانتكاسة كبيرة، إذ تسببت الحرب في تدمير معظمها وبالكامل وإحراق مساحات زراعية واسعة، مما أدى إلى القضاء على مصادر الرزق والعيش لما يفوق الـ60 في المئة من عائلات النازحين.
"تخلى الجميع عنا"
يقول الرئيس السابق لبلدية عيتا الشعب محمد سرور وهو نازح إلى منطقة صور بعدما قتلت إسرائيل ابنه أمام البيت عندما حاولت العائلة العودة إلى البلدة "كل الجنوبيين يرغبون في العودة اليوم قبل الغد، لكن إسرائيل غير منضبطة ولا تتورع عن استهداف الناس وتدعي بأنها تعمل على تنفيذ وقف إطلاق النار، لذلك المشكلة عند النازحين مشكلة أمن، وإلا لعاد الجميع ولو أنهم سيقيمون في خيم. إن حياة النازحين اليوم غير مستقرة، فثمة عائلات عادت إلى شمال شرقي عيتا الشعب وهي منطقة بعيدة نسبياً من المواقع الإسرائيلية المشرفة على البلدة، ويمكنهم من خلال إصلاحات قليلة أن يسكنوا في بيوتهم هذه، لكن عامل الخوف والقلق لا يشجع على البقاء كثيراً في البلدة، إذ يسقط بين حين وآخر ضحايا ومصابون جراء الاستهداف الإسرائيلي من خلال المسيرات التي لا تترك الأجواء الجنوبية، لا سيما فوق المناطق الملاصقة للحدود، وعيتا الشعب بلدة حدودية على تماس مباشر مع فلسطين المحتلة".
ويضيف سرور "نحن ندرك عجز الدولة اللبنانية لكن الناس هنا عاجزة أكثر وبخاصة النازحون منذ عام و10 أشهر، أي ما يقارب العامين، وأنا واحد منهم، أعيش من راتب التقاعد في التعليم الرسمي، كنت وفي أوقات الفراغ أزرع أرضي وأستفيد من مزروعاتها وهذا دأب معظم أبناء عيتا والجنوب، يعيشون من العمل في الزراعة ولا سيما زراعة التبغ. اليوم لا مواسم عندهم وهم لم يتمكنوا أصلاً من الزراعة بسبب استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، وقد حاول أحدهم وزرع حقله لكنه كلما توجه نحوه تلقي عليه المسيرات قنبلة صوتية أو تحاول إرعابه فيغادرها فوراً، ولذلك لم يستطع قطاف الموسم الذي يحتاج أصلاً إلى اهتمام مستمر غير متقطع".
ويوضح سرور أن "عند الريجي التابعة لإدارة حصر التبغ والتنباك في لبنان ثمة ثلاث بلدات أساسية في زراعة التبغ هي عيتا الشعب (تنتج 12 ألف بالة) وعيترون (تنتج 15 ألف بالة) ورميش في قضاء بنت جبيل وتعتمد الريجي عليها في إنتاج التبغ، وقد خسر أبناء هذه القرى، ومعظمهم ما زالوا نازحين حتى اليوم، موسمي عامين متتاليين، أي خسروا جزءاً أساساً مما يعيلهم في مصاريف حياتهم اليومية".
التقشف والصبر
رئيس بلدية العديسة (مرجعيون) محمد رمال يكشف بدوره أن "نحو الـ60 إلى الـ65 في المئة من أهالي العديسة ينتشرون اليوم في منطقة النبطية والجوار، وعملية التواصل معهم تتم من خلال مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة "واتساب"، فنتحرك لتقديم أية مساعدة ممكنة. إن نسبة النازحين من العديسة تتجاوز 600 عائلة بما يفوق 1700 نسمة، ممن كانوا يقيمون في البلدة صيفاً وشتاءً. في فترة ما يسمى الإسناد التي انطلقت في الثامن من أكتوبر 2023 وبدأت بعدها مرحلة النزوح وبخاصة من القرى الحدودية الأمامية كانت المساعدات ومبالغ الدعم تصل بتواتر إلى النازحين إن من جهة الحزب أو من جهة محافظة النبطية أو مؤسسات الدولة، منها لاستئجار المنازل خارج منطقة الصراع والحرب، ومخصصات شهرية تصل إلى كل عائلة لا تقل عن 200 دولار أميركي فضلاً عن احتضان أهلنا للنازحين".
ويتابع رمال "اليوم تراجعت التقديمات كثيراً لا سيما في ظل الضائقة المالية الكبيرة التي يتعرض لها الحزب، لذلك فإن النازحين باتوا يلتزمون الصبر، ويلجأون إلى التقشف ريثما تتضح الأمور أكثر، في آخر المطاف الناس لن تترك بعضها بعضاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رحلة نزوح مستمرة
ويروي رمال أنه "في بداية المناوشات الأمنية خلال أكتوبر عام 2023 وبدء تعرض المناطق الحدودية للاعتداءات الإسرائيلية ومنها العديسة، نزحت مع عائلتي إلى منطقة جدرا (إقليم الخروب- الشوف) لمنزل شقيقتي التي تقطن هناك، وكنت في حينه مختاراً للعديسة، عدنا بعد شهر إلى جوار النبطية واستأجرنا بيتاً في بلدة الكفور المجاورة للمدينة، وبقينا هناك إلى تاريخ توسع الحرب وامتدادها في الـ23 من سبتمبر (أيلول) 2024 فنزحنا مع جميع أبناء الجنوب وكانت وجهتنا بشامون، التي بقينا فيها طوال حرب الـ66 يوماً، ثم عدنا إلى النبطية بعد وقف إطلاق النار في الـ28 من نوفمبر 2024، لأننا لم نستطع العودة إلى العديسة التي بقيت شبه محتلة إلى تاريخ الـ18 من فبراير (شباط) الماضي، ولاستحالة السكن في العديسة التي تجاوز حجم الدمار فيها الـ73 في المئة استأجرنا هنا في محلة تول (الكفور) وحولنا هنا تقطن نحو 25 عائلة من أبناء بلدتنا".
ويضيف رمال "اليوم تبرز أمام النازحين أزمة استئجار المنازل بسب ارتفاع الإيجارات التي باتت أضعافاً مضاعفة عما كانت عليه في بداية النزوح، يضاف إلى أن ما يقدمه "حزب الله" من دعم مادي توقف منذ ثلاثة أشهر للأسباب التي ذكرت سابقاً، واستمرار عملية النزوح خارج التوقع وعدم استقرار الناس بين الإقامة خارج قراهم والعودة التي ينتظرونها يومياً".
لا أحلام للرفاهية
ويردف "أما بالنسبة إلى مؤسسات الدولة فكانت مساعداتها التي تقدمها إلى النازحين خجولة وصلت بالحد الأقصى إلى إعاشة كناية عن كرتونة غذائية لا تكفي أياماً قليلة. وكانت هناك مساعدات تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية قبل الحرب وبعد أزمة كورونا من خلال برنامج أمان لنحو 30 إلى 40 عائلة من كل قرية ولم يرتفع هذا العدد إن لم نقل إنه في تناقص وسط أعذار واهية. أما الهيئة العليا للإغاثة فلم نرها بل نسمع باسمها فحسب، وهناك جمعيات داعمة كانت تتعاون مع البلديات في مناطق النزوح كي توزع مساعدات على النازحين من فرشة أو اثنتين وكرتونة غذائية لكنها تراجعت كثيراً هذه المساعدات أو توقفت، لا شيء في الإجمال يعطيك دفعاً نحو حياة أفضل في الوقت الراهن، وعلى النازح أن يدبر أموره كيف ما استطاع".
وعن أوضاع النازحين يقول رمال "يوم خرج النازحون من بيوتهم كانت أوضاعهم المادية مقبولة نوعاً ما وكانوا يدخرون بما تيسر للأيام الصعبة وأنا واحد من هؤلاء، كانت مبالغ متواضعة لكنها تعين على تخطي أشهر قليلة، واستخدمها النازحون حتى استنفدوها تماماً على أمل عودة قريبة إلى بيوتهم وحقولهم ومصالحهم، لكن الحرب طال أمدها، فعمد البعض إلى اجتراح مصالح وأشغال من جديد، وبين مصاريف البيوت المستأجرة تضاف إليها الكهرباء والمياه والإنترنت والمصروف اليومي، كلها باتت تشكل عبئاً كبيراً عليهم حتى لو اشتغلوا أو وصلتهم مساعدات يتيمة من هنا وهناك".
من سوق إلى دمار
ويضيف رئيس البلدية "العديسة كانت تشكل سوقاً تجارية بين محيطها إلى ما تشكله من ممر حدودي عام بين قضاءي مرجعيون وبنت جبيل، وكانت تنتشر فيها المحال والمؤسسات التجارية على نطاق واسع بما يؤلف دورة اقتصادية كبيرة، اليوم لم يبق من هذه المؤسسات إلا الركام والدمار وخسرت الناس مصالحها ومصادر عيشها، يضاف إلى ذلك أن مبالغ الدعم التي كان يقدمها الحزب تراجعت إلى حدود إيقاف بعضها، مع توقف مساعدات مؤسسات الدولة اللبنانية والمنظمات غير الحكومية، ويبقى اعتماد هذه العائلات على أعمال أبنائها وأربابها هنا في مناطق النزوح أو في بعض دول الاغتراب لتأمين القوت اليومي ليس أكثر".
ويوضح رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر أن "مجلس الجنوب يقدم بعض المساعدات للنازحين من خلال البلديات التي تهتم بأمورهم وليس بصورة مباشرة. قدمنا منذ في الفترة السابقة مساعدات لأهالي قرى الحافة الأمامية كناية عن مواد تنظيف وأشياء منزلية كانت موجودة لدينا، إلى بعض المساهمات والمساعدات لعائلات بقيت مقيمة في مراكز الإيواء وأعدادها ليست كبيرة".
ويؤكد هاشم "أن مساعدات مجلس الجنوب التي هي مساعدات الدولة اللبنانية تراجعت نسبتها كثيراً بين ما كانت عليه في مراحل النزوح الأولى وفي الأشهر الأخيرة التي تلت قرار وقف إطلاق النار". ويضيف "من ينطبق عليهم صفة النازحين هم ممن لا مأوى لديهم وصارت أعدادهم قليلة جداً ربما لا تتجاوز الـ60 عائلة في مدينة صور، وهؤلاء قبضوا أصلاً مبالغ إيواء وأثاث من جهات أخرى، لكنهم لم يغادروا مراكز الإيواء هذه. أما لجهة أوضاع مجلس الجنوب المادية فهو لم يعد يتلقى أية أموال بصفة المساعدات ولم تصرف له موازنات جديدة تحت عنوان دعم النازحين، وما يقدمه المجلس هنا وهناك فمن الموازنة الخاصة به".
إنذارات إخلاء للعائلات
كانت مؤسسات الدولة اللبنانية تقدم ما يعرف بالوجبات اليومية للنازحين في مراكز الإيواء، هذه التقديمات توقفت منذ شهرين، خصوصاً بعدما تلقت العائلات النازحة في هذه المراكز خمسة إنذارات دعتهم إلى إخلاء المراكز، لكن هذه العائلات لم تستجب ولم تخل.
ويشير المنسق الإعلامي لوحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور بلال قشمر إلى أن "مراكز الإيواء في المدينة وحولها لم تعد تتعدى الثلاثة وتضم نحو 60 عائلة تضم نحو 250 فرداً من بعض قرى الحافة الأمامية كالضهيرة ويارين. وجميع هذه العائلات تلقت مبالغ دعم وإيواء وثمن أثاث من الحزب، وكان عليها أن تستأجر خارج هذه المراكز وأن تخليها. هذه العائلات لم تخل المراكز لحسابات لديها في طليعتها أن هذه المبالغ التي تلقتها لن تكفي معيشتهم اليومية، إذ يترتب عليها التزام فواتير كهرباء ومياه وخدمات أخرى تضاف إلى المصروف اليومي لكل عائلة مع إيجار البيت".
يضاف إلى ذلك بحسب قشمر أن ما كانت "تقدمه المؤسسات المختلفة لتشغيل المولدات في هذه المراكز وتأمين المياه للشفة والاستخدام العام وأعمال الصيانة وغيرها توقفت جميعها، خصوصاً بعدما تلقت وحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور طلبات من إدارات المدارس عبر وزارة التربية بضرورة إخلائها كي تستخدم في إعادة تفعيل العام الدراسي، لذا جرى إبلاغهم بضرورة الإخلاء لكنهم رفضوا تحت حجة أن لا إمكانات لديهم لاستئجار بيوت ودفع مصاريفها، وتحركت بعض المرجعيات الدينية باتجاه الحكومة اللبنانية، لذا طلب وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجار عبر محافظ الجنوب التريث في عملية الإخلاء وإبقاء هذه العائلات في أماكنها الحالية".
ويؤكد قشمر أن "المساعدات إلى هذه العائلات التي نزحت من بيوتها وقراها منذ نحو عامين لم تعد تسمى مساعدات، إذ لا تتعدى أحياناً كرتونة غذائية لا تسد جوعاً أو رمقاً، وهم لا يطالبون اليوم بأكثر من تأمين مياه وكهرباء إلى حيث ينزحون، أي في ما تبقى من مراكز إيواء. هذا الدعم في المياه والكهرباء توقف مع توقف الجمعيات غير الحكومية عن مساهمتها في تغطية هذه النفقات منذ أشهر عدة. أما اتحاد بلديات صور فلا قدرة لديه على تغطية أية نفقات في ظل خواء صندوقه من الأموال وماليته بمستوى صفر ولا تكاد تكفي الكلفة التشغيلية لمركزه مع الموظفين".