Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جون هيرسي: الصحافي الذي كسر الصمت حول هيروشيما

في الذكرى الثمانين لإلقاء القنبلتين النوويتين الوحيدتين في العالم، نستذكر كيف فضح صحافي أميركي التعتيم المرعب لعصر السلاح النووي، ولماذا من المهم اليوم أن نتذكر كتاباته ورسائله الجادة

قاعة عرض، وهي الآن النصب التذكاري لقبة القنبلة الذرية، تم تصويرها بعد وقت قصير من الانفجار في أغسطس 1945 (يونيفرسال إميجز غروب/غيتي)

ملخص

وثّق جون هيرسي بجرأة فظائع قصف هيروشيما متحدياً التعتيم الأميركي، وأسهم في ترسيخ "التابو النووي"، محذراً من سباق التسلح ومخاطر الحرب النووية. اليوم بعد 80 عاماً، من المهم الاستمرار بنشر الوعي بهذا المجال بسبب مخاطر التهديد النووي المستجدة والمتزايدة.

لم يكن جون هيرسي أول من وثق آثار القصف الذري على هيروشيما، لكن روايته كانت الأهم.

خلال الأيام والأسابيع التي أعقبت قصف هيروشيما وناغازاكي في 6 و9 من أغسطس (آب) عام 1945، تمكن عدد من مراسلي الصحافة الغربية من الوصول إلى أنقاض هيروشيما وناغازاكي ونشر اثنان منهم تقارير أولية مروعة عن دمار المدينتين بفعل قنبلتين ذريتين بدائيتين.

في تلك المرحلة، بدا وكأن الحكومة الأميركية لا تخفي شيئاً بشأن سلاحها التجريبي الهائل؛ إذ تفاخر الرئيس هاري ترومان معلناً أن القنبلة التي أُسقطت على هيروشيما، والتي سُميت "ليتل بوي"، تجاوزت قوتها التفجيرية 20 ألف طن من مادة الـ "تي إن تي" TNT، وأنها استطاعت أن "تسخر القوة الأساسية للكون".

كان اليابانيون - وكذلك كل من تسول له نفسه تحدي القوة النووية الوحيدة في العالم آنذاك - على موعد مع "مطر من الدمار من السماء، لم يشهد له كوكب الأرض مثيلاً من قبل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أظهرت الصور العسكرية التي تم الكشف عنها مدناً مسوّاة بالأرض، لكن كما أشارت صحيفة "ديلي إكسبرس"، فإنها "لم تروِ القصة كاملة".

احتاج العالم لأكثر من عام بعد الضربة النووية على هيروشيما حتى تتضح الصورة الأكبر أمامه، وذلك بفضل تحقيق جون هيرسي المطول والمؤلف من 30 ألف كلمة في مجلة "نيويوركر".

فبعد استسلام القوات اليابانية رسمياً في سبتمبر (أيلول) من عام 1945، ورغم التقارير الأولى المقلقة التي خرجت من هيروشيما، فرضت قوات الاحتلال الأميركية قيوداً صارمة على الصحافيين الغربيين واليابانيين على حد سواء.

في البداية، وضع الصحافيون الذين دخلوا اليابان مع قوات الاحتلال فيما وصفه أحدهم بـ"غيتو الصحافة". وحتى عندما سُمح لهم بالتحرك بحرية أكبر، كانت قوات الاحتلال تراقب تصاريح سفرهم، وتتحكم في الوقود والطعام، وتتابعهم عن كثب.

أما هيروشيما، فقد أصبحت موضوعاً محرماً؛ لم يكن يسمح للصحافيين اليابانيين حتى بالإشارة إلى المدينة في قصيدة شعر، ناهيك عن نشر تقرير إخباري نقدي بشأنها.

في تلك الأثناء، سعى الجنرال ليزلي غروفز - قائد مشروع مانهاتن الذي أنتج القنبلة النووية - إلى التقليل من فظاعة آثارها، حتى إنه قال ذات مرة أمام لجنة في الكونغرس الأميركي إن التسمم الإشعاعي ليس مدعاة للقلق، بل وصفه بأنه "طريقة مريحة للموت". أما الروايات التي تناقض هذا الطرح، فاعتبرها "حكايات طوكيو"، أي دعاية من عدو مهزوم.

لكن بالنسبة لـ جون هيرسي، المراسل الحربي المخضرم، لم تكن هذه التبريرات مقنعة، ولذلك تقدم في ربيع عام 1946، بطلب لدخول اليابان. كانت مهمته الهادئة: التحقيق في التأثير الحقيقي للقنابل على البشر. وقد بدا أشبه بـ"حصان طروادة" في طلبه، إذ كان قد ألّف قبل سنوات كتاباً، "رجال في باتان" Men on Bataan مشيداً بالجنرال دوغلاس ماك آرثر، الذي كان يشرف حينها على الاحتلال، ما جعله يبدو كأنه عضو متعاون في الفريق، فوافق مسؤولو الاحتلال على دخوله البلاد.

لكنهم سرعان ما ندموا على منحه الضوء الأخضر. فقد زار هيرسي هيروشيما لفترة وجيزة، وأجرى خلالها مقابلات سريعة مع عشرات الناجين. ومن بين هؤلاء اختار ستة أشخاص عاديين، يسهل على القارئ الشعور بصلة مع تجاربهم: أم عزباء لديها ثلاثة أطفال، موظفة عشرينية، مسعف شاب يرتدي نظارات، وقس شاب يعيش مع زوجته وطفله. جمع هيرسي رواياتهم، وعاد بها إلى نيويورك، ليكتب هناك واحداً من أكثر الأعمال الصحافية تأثيراً في تاريخ الإعلام.

روى أبطال قصة هيرسي ذكرياتهم عن القصف بتفاصيل صادمة ومؤلمة، ولم يحجب هو شيئاً: الجثث المحترقة التي تكدست على امتداد الشوارع، والأصوات المختنقة لأولئك المحاصرين تحت أنقاض منازلهم المدمرة، الذين تُركوا يحترقون وهم أحياء وسط أعاصير اللهب التي اجتاحت المدينة. أخبره القس الشاب بمحاولته إنقاذ ضحية وسحبها في قارب صغير بعيداً عن النيران عبر أحد أنهار المدينة، لكن جلد الضحية انزلق عنها على هيئة قطع ضخمة تشبه القفازات. شعر القس بالغثيان واضطر للجلوس ليتماسك، وكان يكرر لنفسه مراراً: "هؤلاء بشر".

بينما كان هيرسي وفريق مجلة "نيويوركر" يستعدون لنشر مقالته، كان معظم الأميركيين قد تجاوزوا موضوع هيروشيما بالفعل. اعتبر صحفيون ومحررون آخرون القصة "منسية وقديمة". لكن عندما صدر المقال بعنوان "هيروشيما" في عدد 31 أغسطس من عام 1946، كان بمثابة قنبلة إعلامية بحد ذاته. لأول مرة، قدم المقال نظرة صادقة وصريحة لما يعنيه حقاً التعرض لهجوم نووي.

غطت أكثر من 500 محطة إذاعية القصة، واحتلت عناوين الصفحات الأولى في الصحف، ورافقها مقتطفات وتعليقات رأي في أنحاء العالم. كما قدمت كل من هيئات "إيه بي سي" ABC و "بي بي سي" BBC نسخة درامية من المقال عبر الإذاعة. وكما قال أحد النقاد، حتى الذين لم يقرؤوا المقال كانوا يتحدثون عنه، والذين قرؤوه لن ينسوه أبداً.

حول هيرسي الرعب الذي لا يطاق إلى مادة مقروءة لا يمكن تفويتها، تجذب القارئ بلا توقف. وأثبت أن هذه القصة التي يقال عنها "قديمة" ليست كذلك أبداً، ولن تكون كذلك مستقبلاً، لأنها تكشف ما قد ينتظر البشرية جمعاء، في كل دولة وعلى كل قارة، إذا اندلعت حرب نووية يوماً ما.

هنا يبدأ عصر الذرة بمعناه الحقيقي.

بعد ثمانين عاماً، لا تزال الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية في حرب فعلية. وأكد هيرسي لاحقاً أن ذكرى دمار هيروشيما عززت رفض الحكومات استخدام الأسلحة النووية مجدداً. في الواقع، يُنسب إلى كتابه "هيروشيما"، الذي لا يزال يصدم القراء حتى اليوم كما كان في عام 1946، الفضل في تأسيس ما يعرف بـ "التابو النووي" الذي يحيط بالهجوم الذري.

وتراجعت مخزونات الترسانة النووية بشكل كبير عن ذروتها في ذروة الحرب الباردة. فوفقاً لاتحاد العلماء الأميركيين، بلغ عدد الرؤوس النووية في الولايات المتحدة ذروته عام 1967 عند 31255 رأساً، والآن يقدر عددها بحوالي 5177 رأساً، منها نحو 3700 في المخزون العسكري النشط. بينما تحافظ روسيا على ما يقرب من 5460 رأساً نووياً، منها حوالي 1718 في وضعية الانتشار. ومع ذلك، يحذر بعض الخبراء من دخولنا سباق تسلح نووي جديداً في السنوات الأخيرة. وتخطط الولايات المتحدة وحدها لإنفاق أكثر من تريليون دولار على صيانة وتحديث ترسانتها النووية خلال العقود الثلاثة المقبلة.

عاد قادة القوى العظمى في العالم مرة أخرى إلى استعراض العضلات النووية، ما وضعنا في مشهد نووي خطير للغاية دفع مجلة "علماء الذرة" Bulletin of the Atomic Scientists إلى تحريك ساعة القيامة الشهيرة لتصل إلى "89 ثانية قبل منتصف الليل" (أي أن هناك فقط 89 ثانية مجازية تفصلنا عن نهاية العالم). هذه هي المرة الأولى التي تضبط فيها الساعة على هذا المستوى من الخطر، فحتى في أوج الحرب الباردة لم تصل الساعة إلى هذا القرب من منتصف الليل.

كل هذه التطورات تثير سؤالاً هاماً: هل لا يزال هناك من يستمع إلى تحذيرات جون هيرسي؟

فيما كان كتابه "هيروشيما"، الذي تحول فور نشر مقاله إلى عمل يتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، يُقرأ على نطاق واسع ويدرس في المدارس لعقود، فمن غير الواضح مدى انتشاره في المناهج التعليمية اليوم. كذلك يتناقص عدد الناجين الذين يتحدثون عن قصف هيروشيما وناغازاكي - الذين يطلق عليهم باليابانية "هيباكوشا" - ومع رحيل كل شاهد منهم، تقل الروابط الحية التي تصلنا بهذه القصة الكارثية التي تحمل عبرة لا تنسى.

بحلول ثمانينيات القرن الماضي، مع تصاعد التوترات في الحرب الباردة، أجرى هيرسي مقابلة حذر فيها من خطر "الانزلاق" - وهو أي خطأ بسيط أو سوء تفسير بين قوتين نوويتين قد يؤدي إلى مواجهة نووية فورية. وإذا ما وقع انزلاق كهذا اليوم، فقد يتمكن قادة الدول النووية خلال دقائق معدودة من محو حضارة بأكملها. هذا الخطر قد يزداد تفاقماً مع دمج الذكاء الاصطناعي في البنى التحتية العسكرية والدفاعية. وأظهرت الدراسات الحديثة للرأي العام أن ما يعرف بـ "التابو النووي" [الامتناع عن السلاح النووي] قد بدأ يفقد قوته أيضاً.

مع ذلك، ورغم تراجع التأثير الظاهر لتحذيرات هيرسي وعمله، هناك علامات مشجعة على أن العالم بدأ يستيقظ من جديد على خطر الأسلحة النووية التي لا تزال تهدد الإنسانية. فيلم "أوبنهايمر" Oppenheimer الحائز جائزة الأوسكار جذب الجماهير حول العالم وحقق إيرادات تقارب مليار دولار. وفي العام الماضي، كانت جائزة نوبل للسلام من نصيب منظمة "نيهون هيدانكيو" Nihon Hidankyo التي تكافح من أجل حقوق الهِباكوشا وتعمل على رفع الوعي بالتأثيرات المدمرة للقصف الياباني. مع تصاعد الوعي العالمي مجدداً بخطر الأسلحة النووية، تتجدد الآمال في تحرك أكبر لمواجهة هذا التهديد.

وسيظل كتاب جون هيرسي، "هيروشيما"، دائماً بمثابة تذكير حي بخطورة ما نواجه.

 

كتاب "العواقب: التستر على هيروشيما والصحفي الذي كشف الحقيقة للعالم". للكاتبة ليزلي بلوم متاح في الأسواق

© The Independent

المزيد من متابعات