ملخص
حينما يهمش دور الإعلام فإن المواطن الذي يبحث عن الأخبار والتعليم سيبحث عبر تلك المنصات عن الترفيه فقط.
باتت مقاطع الفيديو القصيرة (ريلز) تهويدة ما قبل النوم وجالب النعاس لأعين كثيرين، والوسيلة المثلى لتمضية وقت انتظار كفعل اعتيادي في نهاية يوم شاق. ويجلب الفيديو القصير آخر يتلوه آخر في عملية قد تستغرق دقائق وربما ساعات، ثم تلعب الخوارزميات دورها فتمنح المشاهد تفضيلاته وتجذبه أكثر فأكثر إلى عالم كبير محققة له التسلية.
يتصفح محمود جاب الله، الشاب الذي يعمل طوال نهاره في مجال الترجمة بإحدى الشركات المصرية، تطبيق "فيسبوك" ويتابع منشورات عدة، وقد يفعل الأمر مع موقع "إكس" لكنه يصاب بالملل بعد ذلك من عملية القراءة، فيسارع إلى تصفح مقاطع الفيديو المنشورة على "فيسبوك" و "إنستغرام"، وقد يمتد الأمر إلى المقاطع القصيرة على موقع الفيديوهات الشهير "يوتيوب" ويتابع عشرات الفيديوهات حتى يشعر بالنوم.
تسلية لا تثقيف
يقول جاب الله (34 سنة) إن طبيعة عمله طوال النهار تقتضي قراءة كثيرة وترجمة وتدقيق الكلمات وضبطها، ثم وضعها في أفضل صورة ملائمة لها سواء باللغة الإنجليزية أو العربية، وحين يعود للبيت لا يجد مساحة للقراءة أو قدرة عليها بعكس ما كان يفعل قبل ذلك العمل، "أشاهد عشرات الفيديوهات يومياً وأندهش أحياناً من فيديوهات بعينها، لكنها جميعاً مسلية".
ويتذكر الشاب مقاطع فيديو عدة كانت تحدث رواجاً، ويدخل الأمر في إطار مزاح وسخرية مثل مشاهدة مقاطع تنظيف السجاد أو الأعمال المنزلية اليومية، أو كما انتشر أخيراً من فيديوهات لكسر الزجاج على السلم، ويمتد الأمر به لساعات أحياناً حتى يغلبه النوم، يقول "قد أقضي ساعات في متابعة الفيديوهات، ينتهي مقطع فأفتح آخر وليس علي سوى تحريك إصبعي من أسفل لأعلى، فأشاهد عشرات المقاطع عربية وغير عربية".
ولا يبحث الشاب عن تثقيف أو معلومة جديدة بل عن مشاهدة أشياء متداخلة لا علاقة لها ببعضها أحياناً، ولا يكون له يد في الاختيار، فخوارزميات المواقع تفعل ذلك وحدها، بعكس وسائل إعلام أو ترفيه تقليدية مثل التلفاز أو منصات الأفلام، "هنا أنت مستسلم تماماً لما تراه ولا تجهد نفسك في البحث عن شيء بعينه".
مشاهير ونجوم
التصرف اليومي الذي يفعله محمود ليس وحده من يقوم به، فهناك ملايين آخرون حول العالم يفعلون الأمر نفسه، وحتى مقاطع الفيديو الغريبة مثل التنظيف، سواء كان السجاد أو الأطباق أو الحوائط أو السيارات هي المستهدفة بعملية التنظيف، فقد اقتربت مشاهدات مثل تلك الفيديوهات على تطبيق "تيك توك" إلى نحو 90 مليار مشاهدة حتى الآن، بحسب الوسم الذي وضعه "تيك توك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول علي عبدالحافظ "في تصوري الشخصي لا شيء مفيد هنا سوى راحة البال وعدم التفكير"، ويضيف الشاب المصري الذي يعمل في ورشة لخراطة الحديد ولا يبحث في نهاية يومه عن معلومة أو محتوى علمي أو أدبي، بقدر ما يبحث عن أشياء غريبة يتابعها حتى يمضي وقته أو يخلد للنوم، "سواء كانت مقاطع ’فيسبوك‘ أو ’إنستغرام‘ أو فيديوهات ’يوتيوب‘ قصيرة، فلا فرق فأنا أتابعها جميعاً، لكن أشعر أن فيديوهات ’تيك توك‘ تحديداً أكثر سطحية وربما أكثر إضحاكاً".
ولا علاقة بمشاهدة تلك الفيديوهات أو "الريلز" بمستوى ثقافي معين أو بوضع اجتماعي محدد، فالفنان المصري أحمد أمين سبق أن دون على موقع "إكس" أنه يود الاعتراف بأمر لكنه لا يود أن يسقط من نظر أحد، موضحاً أنه يحب مشاهدة مقاطع الفيديو التي ينظف فيها بعضهم السجاد، وهي تدوينة لاقت تفاعلاً كبيراً من فنانين وغيرهم أكدوا الأمر نفسه، فيما تحدث آخرون عن أنهم لا يفضلون فيديوهات بعينها وإنما يتركون الأمر لعنصر المفاجأة وما قد يحمله الفيديو القادم إليهم.
ابتعاد من القلق
ويقول علماء النفس إن تلك الفيديوهات وما يشبهها من فيديوهات تناسب من لديهم نسب مرتفعة من التوتر والقلق، فرؤية مقاطع التنظيف مثلاً تعطي الشخص أملاً في القدرة على إنهاء بعض الأعمال المستعصية أو الصعبة، بعد أن يتحقق الأمر بصرياً بالنسبة إلى المشاهد، وذلك بحسب المعالجة النفسية كارولين جيفن في حوار مع موقع "كوزموبوليتان"، وهو أمر قاله أيضاً عالم الأعصاب والطبيب النفسي والأستاذ بجامعة ستانفورد الأميركية أميت إتكين، إذ رأى أن تلك الفيديوهات تبعد الشخص من الضغط النفسي وتجعل ذهنه أكثر هدوءاً، بحسب ما نقلته عنه مجلة "ويرد".
ولا توجد أبحاث تحدد أكثر مقاطع "الريلز" انتشاراً، لكن إحصاء أعدته منصة "إنفلونسر ماركتينغ هاب" تناول أكثر القطاعات شعبية في ما يتابعه كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان على رأسها الموضة والمواد التجميلية ثم الألعاب ثم السفر والمغامرات والحياة اليومية، ثم الأمور الرياضية وبعدها العلاقات الإنسانية ثم الصحة واللياقة.
ويقول المتخصص في التكنولوجيا والعالم الرقمي محمد الحارثي إن "مفهوم ’الريلز‘ يتوافق مع طبيعة مستخدم مواقع التواصل الاجتماعي في كونه يبحث عن شيء سريع، ومن أبرز المواد المنتشرة في ذلك العالم المصور الأغاني ومقاطع من أفلام ومسلسلات، إضافة إلى الطبخ وما ينشره المؤثرون أو المستخدمون بصورة عامة من أشياء غريبة".
ويعتبر الحارثي أن "الريلز" بوابة للحسابات لزيادة عدد متابعيها، فالمقطع قد يصل إلى ملايين الأشخاص وليس المتابعين فقط، مما يدفع بكثير من المؤثرين تحديداً إلى استخدامه في الترويج لأنفسهم، فإن أعجب المحتوى غير المتابعين فستزداد أعدادهم.
ويعتبر المتخصص الرقمي أن مقاطع "الريلز" تقتطع وقتاً كبيراً من المستخدمين، وتكاد تتصدر قمة التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي عبر أي منصة كانت، وكلما كان مقطع الفيديو القصير متوافقاً مع المنصة وسياستها زادت نسب انتشاره.
وبعض تلك المقاطع التي أنشئت على منصة بعينها، قد تصبح على منصة أخرى بسهولة، وكثيراً ما يجد كثيرون مقاطع فيديو تم تصويرها لمنصة "تيك توك" وقد باتت على "فيسبوك" أو العكس، أو حتى على "يوتيوب"، لمجرد الانتشار الأكبر لمقطع الفيديو وتحقيق صاحبه متابعات كبيرة لحساباته المختلفة، وكلما زادت أعداد المتابعة كثرت معدلات المشاهدة، والأخيرة مرتبطة بالربح، فكلما زاد عدد المشاهدات زادت الأرباح والعكس صحيح.
بث مباشر
محمود عبداللطيف شاب من جنوب مصر يعيش في القاهرة منذ أعوام، ولم يكن ضمن المهتمين بمواقع التواصل الاجتماعي، أو مهووساً بها في أقل تقدير، ومع انتشار مقاطع الفيديو القصيرة بات أحد متابعيها، لكنه ينتقد كثيراً منها وشيوع بعضها لمجرد تقليد شيء ناجح مثل فيديوهات تقييم الطعام والأماكن والخدمات وسلع عدة.
لكن المنصة التي تثير غضب الشاب أكثر هي "تيك توك"، إذ تابع هناك غير مرة بثاً مباشراً لبائع فول وطعمية أو بائع خضراوات وفاكهة يفتح البث المباشر ثم يتولى عملية البيع، وسط متابعات قد تصل إلى المئات والآلاف، وهو بين ذلك كله يحدث الجمهور حيناً ويركز مع الزبائن حيناً آخر، وكذلك البث المباشر لأصحاب الحرف والمهن، مثل ورش صناعة النحاس والأخشاب وغيرها، "في بعض الأوقات أتخيل أنني أحد زبائن هؤلاء وخرجت من منزلي لأشتري فطوراً، فمن أعطاه الحق ليقوم بتصويري في بث مباشر؟"، يتساءل الشاب الذي بات حذراً من أي كاميرا هاتف في الشارع.
لكنه نفسه حين يكون في المواصلات أو أحد الطوابير الطويلة لإنهاء خدمة ما، أو حتى قبل النوم، يلجأ للتطبيق نفسه من باب التسلية ويتابع الإهداءات التي تتم في البث المباشر، وما تعنيه تلك الرموز من أموال لأصحاب ذلك البث، وهو أمر يلاقي سخرية واسعة في بعض الأوقات حين يظهر أشباه الفنانين والمشاهير وهم يستعطفون المشاهد أن يمنحهم رمزاً لكلب أو أسد، أو غيره من الرموز التي تتحول إلى أموال في ما بعد.
ظاهرة التسول
وتحمل بعض المواد التي يتم بثها بصورة مباشرة على ذلك التطبيق معنى التسول بصورة صريحة، حين يرفع مستخدم لافتة تحمل عبارات على شاكلة "أنا أرملة" أو حتى "أنا مش شحاتة لكن عروسة أبحث عن تجهيز نفسي، ساعدوني بهدايا ’تيك توك‘"، وهي ظاهرة منتشرة باختلاف أشكالها وطبيعة الاستعطاف، على أن هناك بعض المحاولات لتقديم محتوى علمي وإن كانت متابعتها ونسب مشاهدتها أقل بكثير من غيرها من المواد الترفيهية.
ويضيف الحارثي أن جيل "Z" من مواليد الألفية الجديدة هم المستهدف الأكبر من تلك المقاطع، ويتم تداولها بينهم على نطاق كبير، وكلما كان الموضوع المصور أكثر غرابة لاقى انتشاراً، "وقد يصل الأمر إلى امتداد تلك المقاطع إلى فئات عمرية ما بين 25 و35 سنة في المتوسط"، لكن وبحسب حديث الحارثي مع "اندبندنت عربية"، فإن هناك فئات أخرى دخلت إلى عالم "تيك توك" بهدف الربح من فئات عمرية ما بين عامي 35 و40 سنة، لكنهم لا يجذبون مشاهدات كبيرة أو تفاعلاً واسعاً.
صراع المنصات
ويلفت الحارثي إلى أن قواعد التصوير على مواقع التواصل الاجتماعي اختلفت كثيراً بسبب "الريلز" والمقاطع القصيرة، وبات التصوير طولياً وليس عرضياً، وفقاً لذلك الاختلاف حتى على موقع "يوتيوب"، لكنه يثق في أن المستقبل للمقاطع المصورة سيكون أقل خلال الفترة الزمنية، نظراً إلى انزعاج الأجيال الجديدة من المقاطع الطويلة.
وتتصارع تلك المنصات مع بعضها في محاولة جذب جمهور أكبر، ما بين "ميتا" المالكة لمواقع "فيسبوك" و"إنستغرام و"ثريدز" وغيرها، وتطبيق "تيك توك" وكذلك "يوتيوب"، كما أنها قد تقتبس ميزة من منصة لأخرى للحفاظ على جمهورها التقليدي إضافة إلى غيرهم، وعلى سبيل المثال فإن "تيك توك" أطلق خاصية إنشاء منشورات نصية للمنافسة مع غيره مثل "فيسبوك" و"إكس"، وبالضغط على علامة تشغيل الكاميرا فإن المستخدم أمامه خيارات لتصوير فيديو أو التقاط صورة أو كتابة منشور.
ترفيه غير مقبول
يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق إن "المجتمعات التي لا تقرأ تبحث عن معادل بصري سريع، إضافة إلى انعدام الثقافة لدى قطاع كبير، ونسبة الأمية في تلك المجتمعات أينما كانت تصنع ذلك المشهد"، مضيفاً "أيضاً حينما يهمش دور الإعلام فإن المواطن الذي يبحث عن أحد أمور من بينها الأخبار والتعليم والترفيه، فسيبحث عن الترفيه فقط على تلك المنصات".
ويعتبر أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة أن "التسلية كفعل في ظل ظروف اقتصادية صعبة لا غبار عليها، لكن بعضهم يروج للمشاهد التي يقدمها بتصوير أشياء غير مألوفة وتخرج عن إطار العقلانية، وبالتالي يصبح المشهد عبارة عن مسخ يجذب كثيرين، لكنه لا يقدم معلومة أو شيئاً مفيداً أو حتى ترفيهاً مقبولاً".
ويلفت صادق إلى ضرورة إدخال بعض تفاصيل ذلك العالم إلى الطلاب في المدارس، وفي تلك الحال سينظر إلى تلك التطبيقات بصورة إيجابية وسيكون لها قيمة لدى أجيال جديدة، "فاستخدام تلك التطبيقات في أمور تعليمية سيغير النظرة تجاهها ويجعلها جامعة للتثقيف والترفيه".