Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طبقية أم تسويقية؟... الفرجة الشعبية في مطاعم النخبة المصرية

الفرجة على "الناس العادية" آخرها وتسليع الفولكلور واستعراض الحياة الشعبية "المغلفة" يهدف إلى تحويل التراث لديكور مفلتر أم يندرج تحت بند التسويق غير المدروس؟

يعتبر البعض أن طريقة الترويج بالفلكلور والشخصيات للمطاعم أسلوب تسويق غير منضبط وليس طبقية (مواقع التواصل)

ملخص

أثار مطعم مصري افتتح أخيراً جدلاً واتهامات بالعنصرية بسبب استعانته بأشخاص حقيقيين يمارسون عملهم الطبيعي كبائعين أو يعملون بمحل لكي الملابس، وكأنهم ديكورات لتقديم تجربة الأجواء الشعبية للزوار الأثرياء الذين يدفعون أثماناً باهظة في مقابل أصناف تباع على بعد أمتار قليلة بأقل من ربع سعرها، هذا الجدال المحتدم يذكر بعديد من تريندات مماثلة تتعلق بممارسات توصف بالطبقية تمارس في منافذ الترفيه في مصر، فلماذا تتفشى تلك الظواهر؟

حديث الطبقية في مصر لم يعد حديثاً هامشياً، ولا في ممارسات بعيدة من صميم الحياة اليومية للشريحة الأكبر من المواطنين، فهو يقترب رويداً رويداً حتى أصبحت مناقشة ممارسته تشغل بال المختصين وغير المختصين، وفي حين تبدو الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الاصطفاف الوطني وتعزيز التوافق والانسجام بين الناس، تأتي قصص من هنا وهناك عن سلوكيات تسبب الإزعاج وتثير أسئلة حول تعمد التفرقة العميقة والتمييز بصورة ملاحظة، هل هي أمور متعمدة؟ أم أن ردود الأفعال يجري تضخيمها لخدمة أهداف أخرى؟ أم أن الوضع أكثر تركيباً وتعقيداً من هذا كله، وأن هناك سياقات ينبغي مراعاتها حينما يجري التعرض لمناقشة هذه الظواهر وقبل كل ذلك ينبغي التخلص من آفة التنميط.

كل هذه أفكار تتزاحم فقط إذا ما قرر أحدهم تحليل بعض المعايير التي تضعها بعض المطاعم وأماكن الترفيه، التي في ظاهرها تبدو شديدة الطبقية، فيما آخرون يعتبرون الأمر أبسط من هذا بكثير، وأن كل مرفق من حقه أن يقدم نفسه بطريقته ويستهدف زبائن يراهم هم أكثر ملاءمة لأجوائه وأسعاره كذلك، بل وأن يروج لخدماته بالطرق المبتكرة ما دامت لا تحمل خروجاً عن القانون.

الحديث عن مصر و"إيجيبت" الذي بدأ بمجرد "نكتة" تحمل مبالغة كاريكاتورية تلائم كوميكس "فيسبوك"، تحول إلى أمر واقع، لكنه على الغالب كان في نطاقات محدودة، إذ لا تتقاطع العوالم إلا فيما ندر، لكن على ما يبدو أن لعبة التسويق أو لعنته قد جعلت الطبقات تتداخل في نطاقات غير معتادة، ومن هنا تظهر الفجوة بصورة صارخة.

نسخة منقحة من القاهرة الشعبية

الحديث هنا ليس عن نظام الهرم الطبقي الطبيعي الذي يتعايش معه الجميع بصورة متوازنة باعتباره من مسلمات الحياة في أية بقعة في العالم، إنما في الإمعان في التركيز عليه وإلغاء الانسجام، بل الضغط على فكرة التباعد الطبقي المتزايد واستغلاله ترويجياً ليصبح هو نفسه سلعة تستقطب زبائن باحثين عن الوجاهة، فمن يمكنه أن يغض الطرف عن مكان ترفيهي يستهدف الجمهور المرفه، يقع في قلب منطقة شعبية أو في الأقل كلاسيكية، ويطل على عمال يكدون ليل نهار لتدبير متطلباتهم الأساسية، بينما الخدمة المقدمة لزبائن يتفصحونهم، سعرها يبلغ ضعف أجرهم اليومي كاملاً، بعضهم تحدث عن تجربة المطعم المثير للجدل في وسط القاهرة بأوصاف تبدو صادمة، معتبرين أن صنع فواصل حادة بين عالم الزبون وأبطال المشاهد التي يتابعها هذا المستهلك، تجعل الأمر يشبه المحميات لإبعاد كل طبقة عن أخرى، عن وضع معايير صارمة لعدم حدوث اختلاط بين هؤلاء وأولئك، حتى باتت الرؤية متشابكة ومحاولة تفسير ما يجري ضرورة مجتمعية.

 

هذه تفسيرات بعضهم لفكرة المطعم الجديد أنه اتخذ من وسط العاصمة المصرية المكان المعروف بطبيعته التقليدية القريبة من الشعبية مكاناً له، إذ يظهر العمال الحقيقيون الذين يمتهنون مهناً بسيطة مثل البيع والشراء وكي الملابس، وكأنهم جزء من التجربة، إذ يبدو المكان شديد الإرباك من خلال أصناف الأكل الشعبية المفترض أنها في المتناول ورخيصة ومشبعة، إلا أنها تباع بأثمان باهظة، لتتحول إلى أطباق فاخرة تنتمي إلى عالم الصفوة، في مقابل الهوية المحيطة التي تمثل ما يشبه الحارة الشعبية بأناسها الطبيعيين، إذ يمكن للزبائن مشاهدة نسختهم الخاصة من عوالم القاهرة الشعبية، لكنها تبدو "مغلفة" أو بعد إضافة فلتر، كجزء من الحملة التسويقية التي يجسدها بشر وليس ديكورات صماء.

استهجن المعترضون ما حدث، واعتبروا التجربة غير موفقة، بل وغير لائقة، وشبهوها من يشاهد حياة السكان الأصليين في تجمعات ومزارات مثلما يحدث في الولايات المتحدة وكندا، إذ يجري استعراض ثقافتهم في مناطق معروفة يقبل عليها السياح. وهو أمر استدعى على الفور ممارسات أخرى تحدث في أماكن مشابهة، لكن تلك الأخرى تمنع دخول المحجبات على سبيل المثال بحجة أن طبيعة المكان لا تناسب أصحاب الثقافة المحافظة، أو من يشترطون عمل "كشف هيئة" من خلال تتبع حسابات الزبائن المحتملين عبر السوشيال ميديا قبل السماح لهم بالدخول، واللافت أنه في حال عدم استيفاء المعايير يرفض دخولهم تماماً.

احتفاء بالتراث أم تسليعه؟

اللافت أن فكرة العالم الشعبي في المطاعم، التي تكمل أجواءها ببعض البائعين أو العمال الذين يمثلون التراث، باعتبارهم فقرة تعجب الزبائن، نظام أصبح شديد الرواج أخيراً في مناطق وأحياء عدة بمصر، لكن غالبيتها تقتصر على تلك التي يشار إليها بالراقية والأكثر انعزالاً، إلا أنه مع تزايد هذه الظواهر واقترابها بهذه الصورة من القاهرة التقليدية بدأت موجة الانزعاج، فهل الهجوم المتصاعد مبالغ فيه ويعبر عن ترصد، أم أن الأمر بالفعل يستدعي الغضب؟!

تحاول الدكتورة هانيا شلقامي، الأستاذ المشارك بمركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، أن تضع الأمور في نصابها من دون تضخيم وفق ما تشير في تصريحاتها لـ"اندبندنت عربية"، لافتة إلى أن هذه سلوكيات بالطبع لا تليق أبداً، موضحة أن هذه المشكلة للأسف باتت منتشرة، بل ويجري تقبلها في مواضع أخرى، مذكرة بمظاهر "الفولكلور" التي أصبحت عنصراً أساسياً في حفلات مثل الإفطارات الجماعية والسحور، إذ يجري الاستعانة ببائعين للمشروبات التقليدية أو عمال تصنيع الكنافة والقطائف وغيرهم، وتتابع: "حتى المناسبات التي تشرف عليها بعض المؤسسات الرسمية تتبع النهج نفسه الذي تحول إلى موضة، على رغم أنه تصرف يمكن أن يندرج في الأقل تحت بند الذوق السيئ".

مما يثير حفيظة هانيا شلقامي هو تأطير الفلكلور ليكتسب طابعاً استهلاكياً بحتاً، مستغربة من أن يجري هذا في مؤسسات مثل بيوت الشباب والمراكز الثقافية التي تقع في أماكن شعبية بالأساس، إذ يجري استحضار هذه العناصر التراثية كديكور، على رغم أنها موجودة بطبيعتها على بعد خطوات قليلة من مقر المؤسسة، بل أصحاب هذه المحال بحاجة إلى دعم ومساعدة، لكن ما يحدث هو الرغبة الجارفة في "التسليع"، وهذا تحديداً ما يحدث في أماكن الترفيه الخاصة بما فيها المطاعم.

 

لكن في ما يتعلق بموجة الاستهجان لمثل تلك السلوكيات حينما تتعلق بمرفق يقدم خدماته للجمهور العام، إذ يعتبرها المتابعون تكريساً للطبقية، واستهدافاً لفئة معينة ترغب في متابعة عالم "الناس العادية" البعيدين منهم كل البعد، لكن من وراء حجاب، تعتقد الدكتورة هانيا شلقامي أن الأمر لا يتعلق بفكرة التفرقة بقدر ما هو يصنف على أنه ذوق مشوه ينتصر لوجهة النظر التجارية المعتمدة على بيع كل شيء بما فيه نمط معيشة معين، وضربت مثلاً بإظهار سكان المناطق الشعبية الأصليين على أنهم يتحدثون بطريقة معينة تحمل مبالغة مضحكة، وتبدو كاريكاتورية وتكون بعيدة من الواقع تماماً.

وتتابع الشلقامي لإيضاح وجهة نظرها حول تفسير هذه الظواهر: "تبني هذه الطريقة ينتقل من الطبقات الأعلى للأقل من دون وعي، ولهذا أرى أن تفسير الأمر بكونه خللاً في التفكير وفي خطط الترويج أقرب للمنطقية، فهناك منظمو حفلات ومسوقون وراء انتشار تلك الظواهر وإقناع أصحاب الأعمال بها، بهدف التسلية، والكرة هنا في ملعب المستهلك وعليه أن يقبل أو يرفض، إذ يجري اعتماد أنماط غريبة للسلوكيات الشعبية لم تعد موجودة حقيقة مثل التطبيل والزغاريد خلال تقديم أطباق مثل الملوخية، أو حتى إقامة احتفالات الزفاف بطريقة فلكلورية لم تعد موجودة أبداً، ليخرج الموقف جميعه وكأنه حفلة تنكرية وليس احتفاء بالتراث".

تسويق غير منضبط

وفي ما يتعلق بالتريند الأخير على وجه التحديد يرى المتخصص في التسويق محمود صالح أن الحملة الأخيرة هي حملة ترويجية، والحكم على نجاحها من عدمه يتطلب عوامل كثيرة بينها الاستمرارية والاستدامة، معتبراً أن الأمر لا يمكن وصفه بالمستفز أو اللطيف، إنما العبرة بتحقيق الهدف، رافضاً الرأي الذي ينظر إلى هذه الطريقة بأنها تكريس للانقسام أو التفكك أو الطبقية، بل يراه متطرفاً، ويدلل على هذا بالقول: "اختيار وسط العاصمة يبعد هذا الاتهام، قد يكون لهذا الاتهام جذور إذا كانت التجربة في تجمعات سكنية فارهة على سبيل المثال، ولهذا أنا أستبعد البعد الأخلاقي وأعتبره مغالاة، كما أن هذه الطريقة متبعة في أكثر من مطعم يقدم ما يطلق عليه أكل الشارع الشعبي، في مناطق مختلفة تتيح عيش تجربة الأطباق المحلية بطريقة تقديمها التقليدية عن طريق عمال يشبهون من يعملون في هذا المجال على أرض الواقع، بل بعضهم يأتي بأشخاص يركبون حصاناً ويقدمون عروضاً أمام الواجهة".

ويصف صالح، الذي صمم عدداً من الحملات، ما حدث بأسلوب التسويق غير المنضبط، الذي يحمل عدم تناغم، لأنه يجمع عناصر متناقضة، ولا تتواءم مع جوهر المكان، ففي رأيه وجود مخبز أو مكتبة صغيرة أو متجر تبدو أشياء متوائمة حتى لو بعضها بعيد، كذلك يمكن للزبون أن يشتري سلعة ما للتمتع بالتجربة، ولكنه يتساءل "ما الذي يجعله يرغب في كي ملابسه مثلاً؟ الجمهور المستهدف هنا أصبح غير محدد، والعبرة كما قلت بالاستمرارية ومدى القدرة على تحقيق العائد الاستثماري في مقابل ما جرى إنفاقه".

 

قبل أيام انتشر فيديو لفتاة أجنبية تعيش في مصر منذ بضع سنوات، تعبر فيه عن صدمتها من تفشي السلوك الطبقي بين الناس، محذرة من عواقب تزايد هذه الظاهرة وفقاً لملاحظتها، وخصت بالذكر ما يحدث في أماكن تقديم المشروبات والمأكولات مثل المقاهي السريعة، لافتة إلى أن جميع الطبقات في أوروبا يمكنهم دخول المقاهي من هذا النوع، إذ يجلس الثري بجوار محدود الدخل، مشيرة إلى أن الأمر في مصر بات مستحيلاً على الفقراء لأسباب متعددة.

والأمر هنا يشبه فكرة "الكومباوند" أو التجمع السكني، إذ أصبحت أماكن بعينها تقتصر على فئات ما وغير مسموح لمن هم أقل بالدخول بسبب عدم القدرة على الدفع ومجاراة أسلوب الحياة، فقبل عقود كان طبيعياً أن يسكن أبناء الأثرياء والفقراء في حي واحد، إذ يتزامل أبناء الموظفين الكبار في الدولة مع أبناء العمال في المدرسة نفسها، فالعوامل المشتركة كانت كثيرة، لكن الفوارق الطبيعية وأسلوب الحياة في الوقت الحالي باتا في تنام ملاحظ، والكافيهات باتت هي وسيلة التلاقي الأكثر انتشاراً ومن ليس لديه مقدرة على الدفع فلن يتمكن من الانخراط في هذه التجمعات.

تحذيرات من تفشي الظاهرة

على ما يبدو أن فكرة "الرفاهية" والأسعار العالية في حد ذاتها أصبحت وسيلة للتسويق، إذ تظهر من وقت إلى آخر تدوينات لزبائن يشتكون من رفض بعض القرى السياحية أو المطاعم وأماكن السهر دخولهم بسبب ملابسهم، سواء كان حجاباً أو جلباباً، فيما كان الأكثر غرابة هو أن الرفض جاء بعد رؤية المسؤولين عن الدخول لحسابات هؤلاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأن أسلوب حياتهم لا يبدو مناسباً للشريحة المستهدفة، وعلى رغم أن الجهات المسؤولة أقرت بعدم قانونية هذه السلوكيات، لكنها لا تزال حاضرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا يصف المختص في التسويق الإعلامي والرقمي محمود صالح، هذه السلوكيات بالطبقية في أسوأ صورها، ويطالب بتطبيق القانون ومنع هذه التجاوزات، لافتاً إلى أن الفيصل في التصنيف يجب أن يكون الأسعار لا أكثر، لكن التصنيف الطبقي بالنسبة إلى مظهر الزبائن وحياتهم أمر مرفوض تماماً، مطالباً بألا تفتح هذه الأماكن للعامة، وأن تتحول لدعوات حصرية، مشدداً على أن الهدف الذي يسعون إليه هو ضمان انتقاء زبون ينفق مبالغ ضخمة، وليس الزبون الذي ينفق الحد الأدنى، وذلك بهدف الربح، لكن هذا الهدف يجري تحقيقه بأسلوب شديد الطبقية، إذ يقول إن المجتمع بات طبقتين فقط، إحداهما معدمة وأخرى تمتلك كل الامتيازات، والطبقة المتوسطة تتضمحل، معتبراً أن هذه الظواهر تزيد من تكريس هذا المفهوم فيبدو وكأنه لا فكاك من الترقي الطبقي.

بينما ترى الدكتورة هانيا شلقامي، الأستاذ المشارك بمركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، أن تلك التصرفات هي عبارة عن انتهازية تجارية منتشرة في كل العالم، مذكرة بواقعة مشابهة حدثت في فرنسا وهي استعمال البيانات الشخصية لعملاء العلامات الفارهة ليكون لهم الأولوية في الحجز بمطاعم ذات تصنيف مرتفع، بالتالي غلق الطريق أمام محاولات الجمهور العادي لتذوق هذه التجربة، إذ اعتبرها القانون حينها إساءة لاستخدام البيانات الخاصة، فيما المطاعم ومن على شاكلتها تلجأ إلى تلك الطرق في استقطاب جمهور حصري قادر على الدفع ولديه القدرة على الاستهلاك بصورة أكبر من المتوقع ودفع فاتورة باهظة مما يحقق أرباحاً أكبر للمكان، كما أنهم يمكنهم استقطاب زبائن آخرين من دائرتهم نفسها، بالتالي يحقق المكان مزيداً من المكاسب، مطالبة بإيقاف الظواهر الشبيهة في مصر عن طريق تطبيق القانون، إذ يتجاوز الأمر مجرد الطبقية لتحقيق أهداف مجموعة من المستفيدين بلا أية ممارسة عادلة مما يضر بالمجتمع.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات