Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أطفال "السوشيال ميديا"... استغلال وانتهاك وغرور

الإفراط في مشاركة صور الأولاد يهدر حقوقهم ويعرضهم للمخاطر ومتخصصون: "تسمم نرجسي"

قد تندرج مشاركة الحياة الخاصة على شبكات التواصل شأناً ضمن حريات الأفراد لكن الأطفال لا قدرة لهم على الموافقة أو الرفض  (بكسل)

اعتادت عائلاتنا أن تجمع تفاصيل حياتنا في ألبومات بصفحات شفافة أو في صناديق قديمة، وخلف بعض الصور تكتب أسماء الأشخاص والمناسبة والمكان والزمان، فيما تبقى صور أخرى مستندة إلى ذاكرة قد تتبدد مع نسيان أو رحيل صاحبها.

اهتم الأهل بتوثيق أعياد الميلاد وحفلات المدرسة والأثواب والأنشطة. كما كتب بعضهم مذكرات معينة تخص أطفالهم كتاريخ اليوم الذي مشوا فيه خطواتهم الأولى، أو سقوط السن الأول، أو أول يوم مدرسة، وتبادلوا مع أصدقائهم وأقاربهم وربما جيرانهم ومعارفهم هذه الصور.

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على تنوعها، أصبح هاتفنا الخلوي مخزن حياتنا وجاسوسها في آن، تدفقت الصور والمعلومات وأطاحت بسد الخصوصية المنيع إلى حد بعيد جداً، وسبق ذلك تلفزيون الواقع الذي انتشر ونال شعبية هائلة. واستساغ المتفرجون فكرة التلصص على خصوصيات المشاهير وغير المشاهير الذين حولتهم هذه المنابر إلى قدوة لبعض الناس بخاصة في مجال الموضة.

حتى يكبرون

قد تكون فكرة مشاركة الحياة الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي شأناً طبيعياً يندرج ضمن حريات الأفراد وحقهم في إظهار ما يشاركونه من أشياء وما يوارونه عن الناس، لكن الأطفال لا قدرة لهم على الموافقة أو الرفض.

يرفض بعض الأهالي مشاركة صور أطفالهم لأسباب مختلفة. تقول نادية كركي إنها لا تشارك صور أطفالها أبداً، وإن اضطرت إلى ذلك فإنها تضع على وجه طفلتها "إيموجي" Emoji، وتخاف من "صيبة العين" أي "عين الحسد".

توافقها إليان عواد إذ تقول إنها كلما كانت تضع صورة ابنها على "فيسبوك" كان يصاب بالمرض إلى أن توقفت كلياً عن ذلك، في حين تعتبر جوسلين أن فكرة الخوف من أن يتعرض الطفل للخطر كانت السبب في عدم وضع صور لأطفالها حتى أصبحوا بعمر العاشرة. وتضيف "كأننا نخبر الناس أن لدينا أطفالاً تستطيعون أن تبتزونا بهم"، مشيرة إلى أن "بعض الأطفال قد يتعرض للخطف".

وتقول إلهام جبيلي "إننا نصادر حرية أطفالنا عندما ننشر صورهم، قد يكونون بعمر لا يسمح لهم بالقرار، لذا من الأفضل تصويرهم والاحتفاظ بالصور ليكونوا في عمر يسمح لهم بالخيار الصائب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على الجانب الآخر، تقول هانيا توما إنها لا تجد مشكلة في مشاركة صور الأطفال متسائلة "ما الخطأ في نشر تفاخرنا بأطفالنا وفرحنا بهم؟". ويقول كريم محمد إن أجمل ما يقوم به هو توثيق هذه اللحظات وجعل كل العالم يراها، فـ"أمر مفرح أن نرى صور الأطفال وفيديوهاتهم تملأ مساحات وسائل التواصل".

مما لا شك فيه أن النظرة إلى مشاركة صور وفيديوهات الأطفال على وسائل التوصل الاجتماعي تختلف بحسب ثقافة الأهل ونظرتهم تجاه التربية والخصوصية وفهمهم للتكنولوجيا وتطورها.

بعض الأهالي يحولون أطفالهم إلى مشاهير صغار، فيجعلونهم يطبخون، أو يغنون ويرقصون، أو يقومون بمعادلات حسابية ويجيبون على أسئلة صعبة، أو يتحدثون بلغة إما مضحكة أو أكبر من أعمارهم، أو يعرضون الثياب وسواها من النشاطات، ويقومون بتصويرهم ونشر هذا المحتوى، من غير قصد أحياناً وبهدف الشهرة التي تدر الربح التجاري في أحيان أخرى.

شراكة الأهل والويب

غسان مراد المتخصص في حوسبة اللغة والإعلام الرقمي اقترح مصطلح "الشراكابوية" sharenting كمصطلح عربي قد يحاكي المصطلح الإنجليزي الذي يجمع بين المفردتين "مشاركة" share  و"أبوية" parenting. يقول مراد لـ"اندبندنت عربية" إن "كل ما يحصل في العالم الواقعي انتقل إلى العالم الرقمي، الأمر الذي أدى ببعضهم إلى عرض ما يضعونه من صور على جدران البيوت والمكاتب على صفحات هذه الشبكات التي تسمى بالمناسبة (الحائط الرقمي)، والتقنيات الرقمية تسمح بمضاعفة ما ننشره ليس فقط إلى من يزورنا بل إلى كل الناس".

يعتبر مراد أن "هذا الفعل يأتي أولاً وقبل كل شيء انطلاقاً من رغبة نرجسية في الكشف عما هو خاص، إضافة إلى أن الحدود بين الخاص والعام في الحياة أصبحت ضيقة ومليئة بالثغرات. ومشاركة صور الأطفال تأتي في هذا الإطار، لكنني أخشى أن يصبحوا ضحايا جانبيين إذا ما جرى استغلال صورهم بصورة سيئة".

هذا الفعل بحسب مراد له تبعات، منها الجيد عبر مشاركة الصور مع الأهل والأقارب، ومراقبة نمو الأطفال وبناء بصمة وهوية رقمية للطفل، وهو وسيلة كذلك لإظهار بوادر النجاح، ويحمل نوعاً من الافتخار بالطفل. فالإحصاءات بينت أن المحرومين من الأطفال يعرضون صور أطفالهم عندما ينجبونهم أكثر من الذين لا مشكلة لديهم في الإنجاب.

أثمن ما نملك

يؤكد مراد أنه في "المجتمعات الغربية والصين مثلاً بات للطفل أهمية كبيرة، حتى وصلنا إلى عبادة الطفل بعد تطبيق سياسة الطفل الواحد في الصين مثلاً. أما في بعض بلدان البحر الأبيض المتوسط ​​والدول العربية بخاصة فيصبح الطفل وبالتحديد الذكر الأول الوريث لدرجة أن يصفه الأب والأقارب والأصدقاء عند ذكره بولي العهد، على أساس أنه سيرث مملكة العائلة ويصبح رب البيت والأسرة. وأنثروبولوجياً فإن الطفل هو أثمن ما يملكه أي إنسان".

ويتطرق إلى أن "عرض صور الأطفال لا يقتصر على الأهل الذين يريدون إظهار نجاح أطفالهم، بل يتعداه إلى الأجداد الذين يعتبرون أن الاهتمام بالأحفاد يعطي أهمية أكبر لحياتهم بعد تقدمهم في السن، فتعيش الجدات على الأمومة بالوكالة، كما يود الأجداد إظهار فخرهم بنسلهم للآخرين".

وينبه مراد إلى ضرورة عدم الخلط بين "حب الطفل" و"حب الذات"، فـ"ليس من الطبيعي أن نتعامل مع أغلى ما لدينا على أنه سلعة". ويعتبر أن "الإفراط في عرض الطفل بكل الوسائل الممكنة لتقدير أنفسنا هو تسمم نرجسي قد يدفعنا إلى الجنون في ضوء التحديات الوهمية، حيث يكون الطفل مجرد أداة للتألق اجتماعياً".

ويذكر أن عديداً من الأشخاص لا يحبون هذا الغزو لعالمهم الخاص، وهم أكثر تحفظاً في مشاركة حياتهم، لكن ذلك لا يعني أنهم لا يحبون أطفالهم.

الخطر على الأطفال

يقول مراد إن دور الصور هو تخليد اللحظة، مثل أول يوم في المدرسة، عيد الميلاد، أول دراجة، أفضل اللحظات، ويتساءل: هل مشاركة الصور على الشبكات الاجتماعية التي باتت شائعة من الممكن أن تؤدي إلى مخاطر معينة؟ ويجيب بأن "الأمر ممكن. فجيد أن نفاخر بأطفالنا، ولكن هذا التشارك الواسع إلى ماذا سيؤدي؟ لنعود إلى التفاعلات الاجتماعية الإيجابية مثل التعليق أو الإعجاب، فقد يؤديا إلى إطلاق الدوبامين (هرمون السعادة) في الدماغ، الأمر الذي يسبب الشعور بالمكافأة وبالتالي تعزيز السلوك. وببساطة فإنه كلما زادت التعليقات الإيجابية التي يتلقاها المستخدم زادت احتمالية نشر اللقطات مرة أخرى".

 

يصف مراد هذه "اللايكات" والتعليقات بـ"حبة السكر" التي نعطيها للحصان عندما يقوم بحركة جيدة لدى ترويضه، لكن بما أن عديداً من الآباء لم يكبروا مع الإنترنت، فهم بالتالي ليسوا على دراية بالمخاطر المرتبطة بهذا التصرف.

وفي شأن المخاطر يقول إن "هذه الممارسة تجعل الأطفال عرضة للمحتالين عبر الإنترنت. وقد تعرضهم إلى التحرش الجنسي من قبل الذين يفتشون عن هذا النوع من الصور. فمن الممكن لأي شخص أن يحفظها ويستخدمها لأغراض شنيعة. كما قد يحاول بعضهم مراقبة الأطفال ومعرفة أماكن سكنهم والحال الاجتماعية لأهلهم مما قد يؤدي إلى الخطف مثلاً، بخاصة أن المنصات تجمع أدق التفاصيل عن جميع المستخدمين، وهذه البصمة الرقمية تتبعهم طوال حياتهم. وكثير من الناس لديهم إمكانية الوصول إلى معلومات حول الأطفال والقاصرين".

دعاوى على الأهل

يذكر مراد أن بعض التقارير الصحافية تناولت حالات تقدم بها بالغون ضد أهلهم نظراً إلى التنمر الذي عانوه جراء نشر صورهم عندما كانوا أطفالاً على شبكات التواصل.

ويضيف "في سبتمبر (أيلول) 2016، تقدمت فتاة نمساوية تبلغ من العمر 18 سنة بشكوى ضد والديها، متهمة إياهما بانتهاك خصوصيتها وحقوق صورتها من خلال نشر ما يقرب من 500 صورة لها على "فيسبوك"، بينما كانت لا تزال قاصرة. وفي يناير (كانون الثاني) 2018، أمرت المحكمة المدنية في روما الأم بإزالة الصور التي نشرتها لابنها على "فيسبوك"، وألزمتها دفع 10 آلاف يورو (نحو 10.6 ألف دولار) كتعويض، مع التعهد بعدم قيامها بنشر صور جديدة".

 

يعتبر مراد أننا "إذ نحيا تحت حكم المشاعر البارزة والنزوع لعرض الذات فنحن نعيش ثقافة التمظهر، أي البروز الكاذب أحياناً. هذه الديمقراطية الإعلامية توفر دقائق من الشهرة لمن لا يستطيعون أن يكونوا مسموعين فعلياً، بينما يطمح الأقل حظاً إلى أن يصبحوا أكثر بروزاً ولو باللايكات المبعثرة. فالكل يريد حضوراً رقمياً معيناً وبارزاً".

ويقول إنه "على رغم ذلك فإن بعض الأشخاص يميلون إلى السرية، وهناك من يعتبر أنه لكي تعيش سعيداً عليك العيش متخفياً، وآخر يخاف من مخاطر شبكات التواصل، معتبراً أنه يمكن للمرء أن يكون متحفظاً وفي الوقت نفسه موجوداً على هذه الشبكات. ومن المهم الحفاظ على جزء من الغموض وعدم نشر كل شيء على الملأ، هذا يتطلب أيضاً جهداً كوننا على تواصل دائم".

الأطفال كمصدر عيش

يوضح مراد أن "عديداً من الآباء يستغلون أولادهم بنشر صور لهم، بالتالي يصبح الأطفال مصدراً للعيش. وفي عديد من هذه الفيديوهات يكون الأهل خلف الكاميرا ويهتمون بتحرير الصور ومقاطع الفيديو ويديرون الحسابات والموارد المادية والعقود. وبعض الأطفال المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي وموقع "يوتيوب" يقومون بالإعلان عن المنتجات والخدمات، لكن هذه النقود المكتسبة بسرعة تأتي معها بالمخاطر، فهل الربح المادي يطغى على حماية الطفل؟".

يذكر أن للأطفال حقوقاً محددة باتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، أهمها احترام خصوصيتهم وكرامتهم. والآباء الذين يصورون أطفالهم ويشاركون الصور ومقاطع الفيديو عبر الإنترنت من دون موافقة الطفل ينتهكون ليس فقط الخصوصية، بل أيضاً الحقوق الشخصية للطفل، وهذا أمر صعب حتى مع موافقة الطفل، حيث لا يستطيع الأطفال والشباب حتى الآن تقدير حجم الآثار المترتبة على ذلك الفعل.

لذا ينصح مراد الآباء باحترام شخصية الطفل، وحماية خصوصيته، وتنمية المهارات التي تساعده على الاحتراس الرقمي وحماية بياناته، ومناقشة ما يحصل مع أطفالهم على شبكات التواصل وتعريفهم بالفروق بين الحياة الواقعية والحياة الافتراضية.

المزيد من تحقيقات ومطولات