على طول الطريق الواصل بين محافظتي طرطوس وحمص، جلست فرح ابنة الثانية والعشرين ربيعاً تنظر في الأفق، علّها تسبق عجلات الحافلة التي تقلها إلى جامعة البعث حيث تدرس الطب البشري.
لم تعتد كأبناء جيلها وضع سماعات الهاتف لتمرير الوقت وتقليل الشعور بالمسافة الطويلة، بل كانت تقضي هذه الساعة بالتفكير ملياً بما يجري معها والاحتمالات المثيرة التي تسيطر على عقلها، مقابل واقع يفرض خيارات محددة.
عام دراسي جديد ومتطلبات جديدة
فتحت الجامعات والمدارس السورية أبوابها باكراً هذا العام، وفتحت معها باباً واسعاً للجدل والشكوى من ارتفاع تكاليف التعليم الذي لم يستثنَ من جنون الأسعار والتضخم الاقتصادي في البلاد، فخلال الشهرين الماضيين ارتفعت الأسعار في سوريا بشكل مضاعف، بسبب الانخفاض المستمر في قيمة الليرة السورية أمام الدولار، ونقص كمية المحروقات وزيادة الطلب عليها، ما اعتبر حجة لزيادة تكاليف الاحتياجات الأساسية والكمالية في البلاد.
قبل وصولها باب الجامعة، أخرجت فرح من حقيبتها ثلاثة آلاف ليرة سورية، كان هذا المبلغ يعادل حوالى دولار قبل سنة، أما اليوم فهو أقل من الدولار، وقالت "من المستحيل أن أكمل دراستي في حال استمررت في دفع هذا المبلغ يومياً على المواصلات، لذلك لا آتي إلى الجامعة إلا لحضور الحصص العملية، وبشكل خاص ما تفرضه السنة الخامسة من حضوري في المستشفى".
لكن سلسلة التكاليف لم تنته هنا، بل كان الدخول من باب الجامعة مجرد البداية.
تعليم مجاني واستثمار مربح
تعتبر سوريا من الدول التي تتفاخر بتقديم التعليم المجاني لطلابها، لكن حتى هذا المجاني أو الرمزي بات مكلفاً بعدما دخلت البلاد في حرب وأزمات اقتصادية متتالية، فمجموع ما يحتاجه الطالب خلال اليوم أو الشهر يثقل كاهل العائلات.
ومع دخول العام الدراسي، تنشط الحركة التجارية باعتباره موسماً دسماً للاستثمار فيه، من طعام وشراب ومواصلات وإيجار غرف ومنازل وطباعة وقرطاسية، فهذه كلها تبدأ مع دخول شهر أكتوبر (تشرين الأول) لتبلغ ذروتها في يناير (كانون الثاني) وما يحتاجه الشتاء من وسائل تدفئة، وربما مسكن طارئ لمن يود تقديم امتحاناته من دون العودة إلى مكان سكنه في مناطق بعيدة من الجامعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا ما يؤكده رأفت الذي يدرس الهندسة المدنية في جامعة البعث السنة الرابعة، ويقول "كنت اضطر لحضور معظم المحاضرات في الفصول السابقة، وهذا ما دفعني لاستئجار منزل مع عدد كبير من أصدقائي في منطقة قريبة من الجامعة، وقد ارتفعت التكلفة كثيراً هذه السنة، فكلفة إيجار البيت وصلت إلى 400 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 100 دولار بعد ارتفاعه، بينما كان في السنة الماضية في حدود 50 دولاراً".
الجامعات الخاصة تكلفة مضاعفة ومركز اجتماعي
في المقابل، كانت الجامعة الافتراضية السورية أول جامعة خاصة افتتحت في سوريا عام 2002 وأول جامعة افتراضية في الشرق الأوسط، وبعدها توالى تأسيس عدد من الجامعات الخاصة، من جامعة القلمون إلى الأندلس والمنارة والوادي الدولية، وجامعة الحواش وأنطاكيا الدولية وغيرهم بما يزيد على 25 جامعة.
ويظهر الفرق جلياً في التكلفة بين هذه الجامعات والجامعات العامة، إذ قد تصل نسبة تكلفة دراسة طب الأسنان في السنة مثلاً، إلى أربعة ملايين ليرة سورية، قد تزيد أو تنقص بحسب الجامعة، أي ما يعادل 1200 دولار.
وتعتبر هذه التكلفة مبدئية، لأنها لم تشمل الحاجات الأخرى، ولكن الغريب في الأمر، أن هذه الجامعات استطاعت على رغم ارتفاع تكاليفها، استقطاب عدد لا بأس به من الطلاب، بخاصة بعد أن دخلت ضمن سباق التقييم الاجتماعي للطالب وأهله، فأصبح التباهي بالدراسة في إحدى هذه الجامعات مطلباً أساسياً وهدفاً يسعى إليه كثيرون ليعبروا عن رقيهم ومركزهم الاجتماعي المرموق، في وقت قد لا يجمع كثيرون على نجاعة النتائج العملية عبر الدراسة في هذه الجامعات.
طالبة تتوقف عن الدراسة وأستاذة تستقل النقل العام
من جهة ثانية، يعتقد البعض أن المسألة قد تقف عن حدود الحديث حول مشكلة ارتفاع التكاليف والمعيشة لدى الطلاب، لكن لدى بحثنا في الموضوع، نكتشف أن طلاباً توقفوا عن متابعة تحصيلهم العلمي، بسبب عدم قدرة عوائلهم على منحهم المال اللازم لاستكمال دراستهم، حيث اضطرت راما إلى ترك دراستها في السنة الثالثة لكلية الإعلام في جامعة دمشق.
ولدى سؤالها عن السبب الرئيسي توضح "لا أستطيع أن أحمّل والدي أكثر من قدرته، نحن أربع فتيات وصبي، ونحتاج إلى الأساسيات في حياتنا، ربما أستطيع أن أعمل وأعود لدراستي وربما لا، لكنني لن أكون مصدر ضغط على أبي".
وفي سياق متصل، يعيش أساتذة الجامعة إلى حد ما التحديات ذاتها التي تواجه الطالب وعائلته، فإذا كان أستاذاً يملك سيارته الخاصة فهو بحاجة إلى تعبئتها بالوقود، الذي أصبح محدوداً بالكمية التي تسمح بها الدولة من خلال ما يعرف "بالبطاقة الذكية"، أما من يريد كمية أكثر عليه شراء ما يسمى اليوم "المحروقات الحرة"، وهو ما يعني رقماً أعلى وتكلفة قد تعتبر في مكان ما "رفاهية"، أو سيضطرون للتنقل باستخدام مواصلات النقل العام كالطلاب، وهذا ما قالته إحدى أساتذة كلية الآداب في جامعة البعث "لا أستطيع استخدام سيارتي الخاصة أغلب الأحيان، فأتركها مركونة أمام المنزل واستخدم وسائل النقل العامة ككل المواطنين في هذا البلد، ربما نحتاج لاستخدام وسائل أقل اعتماد على مصادر النفط".
محاضرات وحافلة... ووقت يمضي
قبل أن تغادر فرح الجامعة توقفت أمام المكتبة لشراء محاضراتها، وقبلها بدقائق كانت قد اضطرت إلى دفع مبلغ 12 ألف ليرة سورية (3 دولارات) لإجراء معين داخل الجامعة، فأخذت ما تحتاجه من الأوراق وأخرجت محفظتها لتدفع ثمنها الذي تضاعف عن السابق، وقالت "منذ أربع سنوات كان ثمن المحاضرات مقبولاً جداً، أما اليوم فقد أصبح صادماً، لم يتبق معي سوى مبلغ العودة إلى المنزل".
وتوجهت بعدها إلى باب الكلية لتستقل وسيلة تقلها إلى الكراج، فتأخذ من هناك وسيلة نقل أخرى توصلها إلى محافظتها، وها قد مضى نصف ساعة ولم تنجح بإيجاد مكان لها في حافلة صغيرة. وعند سؤالها عن السبب، تجيب "معظم الحافلات الصغيرة تتاجر بالمحروقات التي تملأ بها خزانات وقودها، وتبيعها بشكل حر وسعر مرتفع وبذلك تحصل على مبلغ أعلى مما لو أراد سائقها العمل عليها، مما قلص عدد الحافلات".
حلم السفر يدغدغ الأفكار كحل سحري
يرى أغلب السوريين أن السفر خارج بلادهم هو الحل السحري لمعظم مشكلاتهم، على رغم أنه يوجد بينهم المقتنع به ومنهم المقلّد ومنهم غير الراغب فيه، لكنه قد يضطر للقيام بهذه الخطوة مثل فرح التي ما زالت فكرة السفر تربكها ولديها الكثير من إشارات الاستفهام، بعكس رأفت الذي حسم أمره وبدأ بمراسلة الجامعات في الخارج ليكمل دراساته العليا ويعمل ويعيش هناك.
وعليه فقد أصبح السفر هدفاً مشتركاً لدى كثيرين، سواء علموا تبعات هذه الخطوة أم لا، فالتدهور في الوضع الاقتصادي الذي تعيشه سوريا منذ عشر سنوات وصل ذروته اليوم، وأوصل الناس معه إلى طريق مسدود، اضطرهم إلى التفكير في احتمالات أخرى خارج حدود الوطن.