Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كوستي السودانية نقطة صراع جديدة والاستحواذ عليها يربك شبكة الإمداد

وصلها نحو 1800 نازح من هجليج بعد سيطرة قوات "الدعم السريع" عليها في رحلة شاقة امتدت 9 أيام

أدت كوستي دور "مدينة الخدمة" قبل اندلاع الصراع حيث تعد مركز تجميع ونقل الحبوب والوقود والماشية (الأمم المتحدة)

ملخص

يكتسب الحديث عن سعي قوات "الدعم السريع" لاختراق دفاعات الجيش في وسط السودان دلالته الأوسع. فاستهداف كوستي، مباشرة أو عبر الضغط على محيطها لا يُقرأ كعملية تكتيكية معزولة، بل كمحاولة لإرباك شبكة الإمداد وشل قدرة الجيش على المناورة وفتح الطريق استراتيجياً نحو إعادة تشكيل معركة الخرطوم من الخلف، مما قد يغنيها عن المواجهة المباشرة.

حين تتقدم الحرب نحو مدن الوسط، ود مدني وكوستي وسنار، يضع يده على قلب السودان الاجتماعي والاقتصادي، إذ تحسم الحروب الطويلة بتآكل الاستقرار فيها. فهل يقود الجنرالان السودان نحو مسارات قتالية أوسع؟

كشفت الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ بدايتها خلال أبريل (نيسان) 2023، أن المدن لا تقاس أهميتها دائماً بعدد سكانها ولا بتاريخها الرمزي، بل أحياناً قد يفرض موقعها داخل شبكة القوة، قدراً آخر لها. وبالنظر إلى موقعها من خطوط الإمداد وتقاطع الطرق فيها، وما الذي تمثله كحلقة وصل بين ميدان المعركة وعمقها الممتد، تبرز مدينة كوستي على ضفاف النيل الأبيض، كعقدة استراتيجية - لوجيستية تتكثف عندها معادلات الحرب السودانية، وتعاد من خلالها صياغة مفهوم "المدينة الآمنة".

تقع كوستي في نقطة تلاقٍ بين الجغرافيا والنقل والتمركز العسكري فهي بوابة وسط السودان، وممر إجباري يربط ولايات كردفان والجزيرة والخرطوم، وتشكل محوراً لسكك الحديد والطرق البرية، إضافة إلى إطلالتها على النيل الأبيض حيث تنشط الحركة والإمداد. وفق منطق الاستراتيجية الكلاسيكية والحديثة معاً، فإن المدن التي تجمع هذه الوظائف لا تبقى خارج الصراع طويلاً، لأنها تمثل ما يعرف عسكرياً بـ"عصب القدرة على القتال"، إذ لا تحسم الحروب في الخطوط الأمامية فحسب، بل في العمق الذي يغذيها.

يكتسب الحديث عن سعي قوات "الدعم السريع" لاختراق دفاعات الجيش في وسط السودان دلالته الأوسع. فاستهداف كوستي، مباشرة أو عبر الضغط على محيطها، لا يقرأ كعملية تكتيكية معزولة، بل كمحاولة لإرباك شبكة الإمداد، وشل قدرة الجيش على المناورة، وفتح الطريق استراتيجياً نحو إعادة تشكيل معركة الخرطوم من الخلف، مما قد يغنيها عن المواجهة المباشرة.

الحرب هنا لا تتحرك في خط مستقيم بل وفق منطق الشبكات، كما وصفه المتخصص الاستراتيجي الأميركي توماس بارنيت "من يسيطر على عقد الربط، يفرض إيقاع الصراع". ومع انتقال وحدات الجيش إلى مدن مستقرة نسبياً تتحول هذه المدن، كما في حالة كوستي، من ملاذات موقتة إلى نقاط جذب للصراع. فوجود القيادة والمخازن والطيران ومراكز الصيانة، يعيد تعريف الجغرافيا المدنية كهدف عسكري مشروع، ويسقط وهم الفصل بين "الخلف" و"الأمام".

بمواجهة كوستي خطر الحرب لقربها النسبي من جبهة القتال في كردفان، مما جعلها جزءاً من بنيتها العميقة، تقف كمثال على إنتاج الحرب وظيفياً، إذ تتآكل الحدود بين الأمن والهشاشة، وتتحول المدن اللوجيستية من مناطق انتظار إلى نقاط حسم، ومن خرائط صامتة إلى مراكز ثقل لا يمكن تجاهلها.

آثار مزدوجة

تجاوزت الحرب السودانية طور الاشتباكات الموضعية، وباتت صراعاً مستمراً بوتيرة متغيرة أحياناً، فالمدن البعيدة مثل بورتسودان أبقت الدولة واقفة حين تعطلت العاصمة الخرطوم، ومدينة كوستي بتاريخها الوظيفي منذ الاستعمار ثم الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، تقع في قلب هذا المنطق، قبل أن تستدعى قسراً إلى معادلة الحرب.

قبل اندلاع الصراع أدت كوستي دور "مدينة الخدمة"، إذ تعد مركز تجميع ونقل الحبوب والوقود والماشية ومحطة لوجيستية على الضفة الغربية للنيل الأبيض، تربط الأقاليم بالمركز وتلتحم مع مدينة ربك عاصمة ولاية النيل الأبيض والتي تقع على الضفة الشرقية للنهر، وهي مركز إداري مهم وتجسد أهمية الولاية كنقطة وصل تجارية رئيسة في السودان. هذا الاستقرار الوظيفي هو ما جعل كوستي مع انهيار الخرطوم وتعطل شبكات النقل القومية تتحول إلى بديل عملي للعمق، ومع هذا التحول تغير موقعها في حسابات القوة من مدينة تمر عبرها السلع إلى مساحة تدار منها الحركة، ويعاد عبرها توزيع الإمداد والتموضع.

يمنح النيل الأبيض القدرة على الإمداد والمناورة خارج اختناقات الطرق البرية، لكنه خلال الوقت ذاته يحول الجسور والميناء النهري إلى أهداف حساسة، وهذه الازدواجية في الوظيفة المدنية هي التي تنتج هشاشة عسكرية، فالمدينة لم تحصن نفسها للحرب، بل استدرجتها بحكم موقعها.

تكشف أحداث الـ11 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري هذا التحول بوضوح، فالهجوم بالطائرات المسيرة الذي استهدف مركبة عسكرية غرب كوستي، وأسفر عن قتلى وجرحى من الجيش، لم يكن حادثة معزولة، إذ تزامن مع ضربات على أم روابة وأم عدارة، ومع تصاعد الهجمات في جنوب وغرب كردفان يشي ذلك بمحاولة منهجية لضرب شبكة واحدة ممتدة، هي شبكة الربط اللوجيستي التي تتوسطها كوستي. فالرسالة ليست السيطرة على المدينة بل كسر الإحساس بالأمان فيها، وتحويلها من نقطة إسناد إلى عبء أمني.

وبوصول الأمور إلى هذه الحال، يصبح انتقال وحدات الجيش إلى كوستي فعلاً بآثار مزدوجة، فمن ناحية يوفر أماناً موقتاً للقوة لكنه من ناحية أخرى يحمل المدينة كلفة الحرب. فقد وجد المدنيون الذين لم يختاروا هذا الدور أنفسهم رهائن لوظيفة فرضها الموقع، ومع اتساع النزوح من كادقلي ومحيطها واقتراب القتال من مدن أخرى في كردفان، تتأكد حقيقة أن زعزعة كوستي حتى من دون معركة شاملة تعني انزلاق الحرب من الأطراف إلى القلب الاجتماعي والاقتصادي للسودان، وهو ما يفسر استهدافها تحديداً لأهميتها ولأن من يربك عقدتها يربك ما حولها.

اختلال التوازن

بعد أشهر من اندلاع الحرب في الخرطوم، انتقلت إلى ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان التي سيطرت قوات "الدعم السريع" عليها في ديسمبر 2023، مما شكل تحولاً كبيراً في النزاع قبل أن يستعيدها الجيش السوداني في عملية عسكرية معقدة خلال يناير (كانون الثاني) الماضي. وخلال عام 2024 انتقلت الحرب فعلياً إلى مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار بمنطقة النيل الأزرق، حيث سيطرت قوات "الدعم السريع" على الفرقة 17 مشاة داخل المدينة، مما أدى إلى معارك ضارية وتصاعد التوتر، مهدداً بتوسيع رقعة الصراع وإحداث تأثير كبير في المدنيين وحركة النزوح، خصوصاً مع قربها من ولايات أخرى مثل النيل الأزرق. واليوم تتكرر على كوستي بوصفها مدينة "عبور" تفتح ممراً نهرياً ظل فاعلاً حتى في أسوأ فترات الانقطاع خلال الحرب. هذا الدور جعلها مركز استقبال بشري واقتصادي ومدينة متعددة النسيج الاجتماعي تضم إثنيات مختلفة وجماعات من دولة جنوب السودان، تقطعت بهم السبل بعد انفصاله ولم يحصلوا على هوية أي من البلدين. كل هذه العوامل عززت من حيوية المدينة لكنها في الوقت ذاته ضاعفت حساسيتها.

شكل سقوط ود مدني التي تمثل قلب الإنتاج الزراعي والإداري في الجزيرة لحظة فاصلة، فاندفع العبء السكاني والخدماتي جنوباً وشرقاً، فبرزت كوستي وسنجة وسنار كبدائل. أما سنار بتاريخها كعاصمة رمزية قديمة ومركز إداري - زراعي، تحولت إلى نقطة تماس بين الاستقرار والتهديد. وكذلك سنجة الواقعة على نهر الدندر وقرب طرق حيوية، فقد أصبحت عقدة مرور حساسة يتأثر أمنها بأي خلل في محيطها.

هذه الأحداث، جعلت مسارات الحرب مترابطة بين هذه المدن، فحين يضغط على ود مدني ينعكس ذلك على كوستي عبر تدفقات النزوح وعلى سنار وسنجة عبر خطوط الإمداد والحركة. وحين تتعرض كوستي لهجمات بالطائرات المسيرة، كما حدث باستهداف مواقع عسكرية ومرافق وقود، فإن الرسالة تتجاوز المدينة نفسها لتطاول كامل حزام الوسط، إذ لا مدينة خلفية محصنة، ولا عقدة لوجيستية خارج الحساب. وتشكل هذه المدن شبكة واحدة، إذا انكسر ضلع منها اختل التوازن في البقية. ويثبت ذلك أن الحرب لا تتقدم نحو هذه المدن لرمزيتها فحسب، ولكن أيضاً لوظيفتها. ومن يسيطر على إيقاعها، أمناً أو فوضى، يضع يده على قلب السودان الاجتماعي والاقتصادي، إذ تحسم الحروب الطويلة بتآكل الاستقرار فيها.

ضغط النزوح

وصل نحو 1800 نازح من هجليج إلى كوستي بعد سيطرة قوات "الدعم السريع" عليها، في رحلة شاقة امتدت تسعة أيام، وتعد هذه الحركة البشرية مؤشراً إلى إعادة تشكيل جغرافيا الحرب نفسها. فالنزوح الجماعي من هجليج، الواقعة على مفترق طرق بين غرب كردفان ودارفور، إلى كوستي في النيل الأبيض، يقرأ كاستجابة إنسانية فورية لأعمال القتال، وكإعادة توجيه كامنة لمسارات القوة والإمداد والاستقرار داخل الصراع السوداني. ويظهر ذلك من مؤشرات عدة.

أولاً يضغط النزوح على البنية الاجتماعية والاقتصادية لكوستي، المدينة التي كانت تستضيف سابقاً أعداداً كبيرة من النازحين من مناطق أخرى، تستقبل الآن دفعة إضافية من العائلات التي كانت تقيم على تخوم حقول النفط في هجليج، مما يضيف عبئاً إنسانياً وتغير طبيعة العلاقات بين المجتمع المحلي والقادمين الجدد، وقد تعيد تشكيل شبكات الدعم والإسناد داخل المدينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثانياً، النزوح من منطقة استراتيجية مثل هجليج التي تضم حقلها النفطي إلى كوستي لا يمكن فصله عن العمليات العسكرية واللوجيستية الأوسع. إيذان قوات "الدعم السريع" بسيطرتها على المنطقة النفطية يعني انتقال الضغط نحو العمق، وإعادة توجيه مسارات الإمداد والتحرك إلى نقاط أكثر تماساً بالأجزاء المستقرة نسبياً من السودان. وهذا التداخل بين البعدين الإنساني والعسكري يعيد تعريف أية منطقة تنتقل إليها الحرب بوصفها مكاناً مركباً للصراع، لا مجرد محطة عبور للمحتاجين.

ثالثاً، يمكن قراءة هذا النزوح كإعادة ترتيب استراتيجي لنقاط القوة والضعف، فعندما تنتقل مجموعات بشرية كبيرة من محور النزاع، من الجنينة ثم الفاشر والآن من هجليج إلى نقطة مقابلة، فإنها تخلق ضغوطاً مضاعفة على الجيش الذي قد يحتاج إلى موارد إضافية لحماية خطوط الإمداد والمعابر، وعلى "الدعم السريع" الذي قد يستغل هذا التدفق لتوسيع نفوذه أو الضغط على مناطق جديدة عبر مسارات غير مباشرة. فوصول عشرات الأسر إلى كوستي يبرز هشاشة المواقع التقليدية للأمن، ويبرز كيف أن الحرب لم تعد محصورة في ساحات القتال المباشرة، بل تجد طريقها إلى قلب النسيج المدني والاقتصادي. في هذا الظرف، تكون المناطق التي ينتقل إليها الصراع قد تحولت إلى منطقة مواجهة غير تقليدية، وساحة تتداخل فيها الحاجة الإنسانية مع حسابات السلطة والسيطرة، وتكشف كيف يمكن لحركة السكان أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من ديناميكيات الحرب الحديثة.

سيناريوهات محتملة

في ظل تصاعد الصراع وتعقده، تصبح كوستي أكثر من مجرد محطة لوجيستية، وتتحول إلى محور احتمالات تتحرك عبرها الحرب من الغرب إلى المركز وربما إلى الشمال. وذلك يفتح المجال أمام ثلاثة سيناريوهات.

السيناريو الأول، النزوح الاستراتيجي والتوسع غير المباشر، وذلك بانتقال الحرب إلى كوستي عبر أبعاد غير مباشرة بضغط متعدد المستويات، منها استمرار الضربات على خطوط الإمداد واستنزاف موارد الجيش في حماية المواقع الحيوية وإضعاف قدرة السلطات المحلية على إدارة الخدمات الأساس. وتحت وطأة تدفق النزوح من هجليج وود مدني وسنار، تضيق كوستي وتبدأ الفجوة بين الأبعاد الإنسانية والعمليات العسكرية بالتسخين. وإذا استمرت الضغوط على المدينة من دون كسرها، فإنها قد تصبح نقطة جذب جديدة للصراع، ليس كموقع قتال بقدر ما هي مركز اهتزاز يؤثر في معنويات القوات واستقرار مناطق الوسط. بهذا، يمكن أن تصبح كوستي منصة لانزلاق التدفق نحو الشمال، إذ يتبعها نزوح طبقات اجتماعية إضافية بحثاً عن الأمان، مما يضع ضغطاً غير مباشر على العاصمة الخرطوم.

السيناريو الثاني، الانزلاق نحو مواجهة مباشرة وذلك بأن تتحول كوستي إلى موقع مواجهة مباشرة بعد تصعيد "الدعم السريع" أو التحالفات الميدانية في كردفان ودارفور، إذ يستخدم نهر النيل الأبيض كممر لتحريك قوات أو إمداد عدة. ونجاح هذه التحالفات في استنزاف الجيش على محاور متعددة قد يدفع الأطراف إلى محاولة اختراق دفاعات كوستي بهدف إشغال القوات الحكومية وفتح طرق نحو الشمال. هنا، قد لا تكون المعركة على المدينة، بقدر ما تكون حولها، في محاولات لحصارها أو فرض واقع عسكري جديد. وفي حال نجحت هذه الحركة، فقد تمثل بوابة عملية نحو الخرطوم ليس هجوماً مباشراً فحسب، بل يعد تهديداً نفسياً وسياسياً يعيد رسم أولويات الصراع.

أما السيناريو الثالث يأخذ في الاعتبار احتمالات تدخلات إقليمية خصوصاً من دولة جنوب السودان، التي لها مصالح مباشرة في استقرار الحدود والنهر، وبدأت فعلياً بإرسال جنود لمنطقة هجليج. إذا تدهورت الأوضاع الأمنية في كوستي وامتدت تأثيراتها إلى مصالح جيران السودان، مثل تحريك الممرات النهرية أو تدفق اللاجئين والنازحين، فقد تدفع الضغوط المتداخلة إلى اشتباكات معقدة بين قوى محلية وإقليمية. يمكن أن يستغل طرف ما هذا الفراغ لربط تحركاته نحو الغرب والجنوب، مما سيحول النزاع من صراع داخلي إلى مسرح إقليمي متعدد الأبعاد.

وفي كل سيناريو، تبقى كوستي محوراً للتقاطعات، إذ يتضح أن السيطرة على العقد المركزية كما في المدينة الاستراتيجية هي مفتاح كل معنى للحرب القادمة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير