"الأرجنتين، 1985" هو أحد أقوى الأفلام التي تشارك في مسابقة هذا العام من مهرجان البندقية السينمائي (الـ31 من أغسطس "آب" – الـ10 من سبتمبر "أيلول"). مخرجه الأرجنتيني سانتياغو ميتري، ابن الـ42 سنة الذي عرض فيلمه السابق "لا كوردييرا" في مهرجان كان، يفتح عبره صفحة سوداء من تاريخ بلاده: صفحة الديكتاتورية العسكرية، أو "عملية إعادة التنظيم الوطنية"، التسمية التي أطلقها المجلس العسكري على تلك الديكتاتورية التي ترجمت بإرهاب دولة ضد المعارضين المدنيين في الأرجنتين. وهي استمرت بين عامي 1976 و1983 وأسفر عنها 30 ألف مفقود و15 ألف قتيل رمياً بالرصاص وتسعة آلاف سجين سياسي ومليون ونصف المليون من المنفيين وأكثر من 500 طفل انتزعوا من أهاليهم، لتتم تربيتهم في عائلات مقربة من السلطة التي استولت على الحكم بعد الانقلاب على بيرون. كل هذا في بلاد لم يكن يتعدى عدد سكانها آنذاك 32 مليون نسمة. ميتري يعود إلى هذه الحقبة، معايناً إياها بكثير من التفاصيل، ليروي فصلاً دموياً عنيفاً من تاريخ بلاده، مستنداً إلى وقائع، وذلك ضمن مرافعة سياسية اجتماعية إنسانية تحمل شعار "كي لا يتكرر".
عنف في الذاكرة
لا نرى أي شيء من البطش والعسف اللذين تعرض لهما شعب الأرجنتين بين نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، هذا ليس فيلماً عن حدث أليم بل عما بعده. لا يبدي ميتري أي اهتمام في إظهار الدم الذي سال (وهو جف في كل الأحوال)، بقدر تركيزه على العدالة ومجراها. فوحدها العدالة التي تتجسد في المحاكمة، ترد بعض الاعتبار إلى ضحايا هذه الحقبة من تاريخ الأرجنتين. والفيلم يؤمن بالمحاسبة ويناضل من أجلها، ولو بعد مرور الوقت (وفي الحالة الأرجنتينية لم يكن الوقت طويلاً)، من دون اللجوء إلى أي نوع من أنواع العنف والقتل المضاد. فما نراه كمحاسبة هو جر تسعة من الجنرالات القتلة المشاركين في جرائم حرب وإبادات جماعية، وعلى رأسهم خورخي فيديلا إلى المحاكمة، على نحو يعتبر نموذجاً في تطبيق العدالة. مع العلم أن هذه أول مرة في التاريخ، يحاكم فيها نظام قضائي مدني ديكتاتورية عسكرية. ولهذا السبب وغيره من الأسباب، يمكن ضم "الأرجنتين، 1985" إلى سجل الأفلام السلمية التي تدعو إلى إنزال أشد العقوبات على المجرمين، ولكن من دون أن "يتحول الإنسان إلى وحش وهو يحارب الوحوش". كتب نيتشه في "ما وراء الخير والشر"، "على أي شخص يحارب الوحوش أن يحرص خلال القتال على ألا يصبح وحشاً، أما من يحدق في قاع الهاوية فإن الهاوية بدورها تحدق فيه".
كواليس المحاكمة
خلف هذه المحاكمة التي يصور الفيلم كواليسها والاستعدادات لها لساعتين وثلث الساعة، هناك رجل في غاية الأهمية، إنه المدعي العام خوليو ستراسيرا (ريكاردو دارين) سيكون له يد طولى في زج المتهمين في السجن، ولو أن بعضهم سينال عقوبات طفيفة. ستراسيرا هو الشخصية المركزية في الفيلم، البطل الكلاسيكي في الرواية الغربية صاحب المناقبية التي لا تشوبها شائبة، نتعقبه خطوة خطوة، ندخل في تفاصيل حياته العائلية، ولديه وزوجته، وآليات الحماية التي يرفضها في البداية، قبل أن يذعن لها أمام الأمر والواقع، ولكثرة التهديدات التي تصله يومياً. إنه رجل قوي وهش في آن، غير متأكد من شيء، لكنه عنيد ويثق بالمحاولات ولا يتراجع. هذه الصفات وحدها تصنع بطلاً سينمائياً يعرف ميتري كيف يوظفه لصالح الفيلم والقضية التي يتناولها.
عراقيل كثيرة سيتم وضعها أمام ستراسيرا لكن سيتجاوزها كلها، ولعل أهمها هو أن العسكر يصرون على محاكمتهم داخل محكمة عسكرية لتأكدهم بأنها ستنزل بهم عقوبات مخففة أو لا عقوبات بالمرة، ذلك أن "العدالة العسكرية ليست بعدالة" كما قال جورج كليمنصو، لكن ستراسيرا يواجه بكل ما يملك من طموح وإصرار، ولن يستسلم على الرغم من الخطر الذي يحوم حوله وحول عائلته وفريق عمله، على الرغم من أن كل شيء تقريباً ضده، بدءاً من رئيس البلاد المنتخب حديثاً والمتردد في رؤية العسكر خلف القضبان. الفيلم مناسبة لنكتشف مدى تغلغل الفاشية إلى قلب النظام والمجتمع والإدارات العامة والشرطة، لكن بعضهم سيعيد النظر في آرائه وأفكاره ومواقفه وتعاطفه مع العسكر، كأم لويس مورينو، مساعد ستراسيرا، التي نراها على مقاعد المحكمة تعلن فعل الندامة بدموعها.
دلائل وشهود
معظم الفيلم هو سباق مع الزمن يطغى عليه التوتر والسرعة. فستراسيرا وفريقه لا يملكون سوى بضعة أشهر لجمع دلائل واستجواب الشهود وعرض أقوالهم على القضاة. والشهادات هذه هي ضرورة لا غنى عنها، وهي بالنسبة إلى الفيلم الذروة التي يعتمد عليها في غياب أي عامل تأثير غيرها. عوامل التأثير التي يستند إليها المخرج هي البوح والكلام وإعلان المستور، وهذه أحياناً أشد وطأة لكونها تلعب على خيال المشاهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مشاهد المحاكمة التي تتخللها مقاطع من الأرشيف، لا سيما المرافعة الأخيرة لستراسيرا تأتي بجرعتها الحماسية لتعطي الفيلم طابعاً جماهيرياً، على الرغم من أنه لا يخفي نزعته هذه منذ البداية ولا يخجل منها. البعض سيرى فيها ديماغوجية واستدرار عواطف وتفخيماً لصورة البطل على الطريقة الهوليوودية، لكن ألا يستحق جلب حقوق الضحايا من فم الطغاة احتفاء كهذا؟ ولم نكبح مشاعرنا أمام عرض لواحدة من اللحظات القليلة التي انتصر فيها الخير على الشر في تاريخ السياسة؟
أنجز ميتري فيلماً حيث أهمية موضوعه لا تخفف من أهميته السينمائية. فيلم فعال يطالع التاريخ من دون أن يكون درساً مملاً. والأهم أن لهذا المخرج وجهة نظر للعالم الذي نعيش فيه اليوم، هو الذي ولد خلال الديكتاتورية وعاش طفولته في الفترة التي انتقلت فيها بلاده إلى الديمقراطية. وهو متحفظ حتى إزاء النظام الحالي، إذ يقول، "المناقبية ضرورية في السياسة، لكن السياسيين من خلال سعيهم لجعل المجتمع أفضل، لا يفعلون سوى جعله أسوأ. مفهومهم للخير والشر يختلف تماماً عن مفهوم الناس لهما. ولكن، يجب الالتفات إلى حقيقة، وهي أن الفساد ليس جزءاً من السياسة إنما جزء من السيستم القائم".