Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المكسيكي إينياريتو يفجر الواقعية السحرية في البندقية

فيلم أشبه بمرآة سينمائية باهرة لأحوال وناس وأماكن ولحظات

المخرج إيتياريتو خلال تصوير فيلمه ""باردو" (الملف الإعلامي)

"باردو، توثيق مزيف لحفنة حقائق" هو سابع أفلام المخرج المكسيكي الكبير أليخاندرو غونزاليث إينياريتو وكان منتظراً لدى الذين أحبوا هذا السينمائي الخاص جداً، منذ بداياته مع "أموريس بيروس"، في مطلع الألفية الجديدة. بعد المشاهدة، يمكن الجزم بلا تردد أن الانتظار كان في محله. فصاحب "24 غراماً" الذي كان غائباً عن الإخراج منذ ست سنوات، انبعث من جديد في مسابقة مهرجان البندقية، مع فيلم يمكن أن يقع في خانة الواقعية السحرية، وهو مشروع طموح اشتغل عليه سنوات طويلة. والنتيجة مبهرة على أكثر من مستوى، على المستوى الإخراجي أولاً وأخيراً، ثم على مستوى المضمون الذي يفتح باب النقاش حول التاريخ المكسيكي. يقفز المخرج بين العام والخاص متجولاً بين المراحل والأمكنة المختلفة، ليروي تاريخ بلاده، حاضراً وماضياً، وعلى نحو لم يروه مخرج مكسيكي من قبل.

طوال نحو ثلاث ساعات، وهي مدة عرض الفيلم الذي شاهدناه في البندقية صباح اليوم، لم يفارقني فيلليني! ليس لأنه نسخ عنه شيئاً أو استلهم من رؤيته، بل لأن الكبار يذكروننا أحياناً بكبار آخرين. طيف فيلليني على ذراع إينياريتو كان حاضراً منذ مشهد الافتتاحية الذي يذكر كثيراً بـ"ثمانية ونصف" (1963). الفيلم يتظلل بسينما "الماغو" (اللقب الذي كان يُعطى لفيلليني ويعني ساحر باللغة الإيطالية) والموتيفات التي صنعها وصنعته، وهذا يصعب شرحه لمَن لم يشاهد الفيلم. من حركات كاميرا معقدة إلى ديكورات تحمل فلسفة في ذاتها، فزوايا تصوير عجيبة وشخصيات ثانوية تتسم بالغرابة، وصولاً إلى تكوينات بصرية صارخة بالألوان والمشاعر... هذا فيلم مليء بالسوريالية لا يبخل علينا بالإمكانات التي تخاطب الحواس، بل هو احتفاء بهذا الفن، وبقدرته على قول ما لا يُقال إلا عبره.

لا رواية ولا قصيدة ولا لوحة يمكنها نقل بعض الأحاسيس التي تداهمنا ونحن نشاهد الفيلم. إينياريتو الذي عُرف بأفلامه الطويلة، يبلغ هنا الساعات الثلاث، من دون أن يجعلنا نشعر بلحظة فراغ، بل يضعنا أمام ملحمة كل لحظة فيها تأتي بقطعة الحجرة التي تشيد الكاتدرائية. كل كادر عند إينياريتو، الذي يقدم هنا بلا أدنى شك أكثر فيلم شخصي له، يتنفس شعراً. 

فانتازيا فيللينية

كان "ثمانية ونصف" لفيلليني عن سينمائي (ماستروياني) يهرب إلى عالم الفانتازيا والأحلام والذكريات. في "باردو"، البطل هو صحافي وصانع أفلام وثائقية (دانيال خيمينيز كاشو) على شفير الهاوية. يختلف عن شخصية فيلليني، لكن الهروب واحد إلى أماكن مشابهة، تلك الأماكن التي يختلط فيها الحقيقي بالمزيف، الواقعي بالخيال، الخاص بالعام. هو أيضاً يعبر أزمة وجودية صعبة، لكن لا يبدو أنها تجعله يعيد النظر في خياراته الماضية، بل يريد فقط التأكد من أنه قام بالصواب. يود السماع من الآخرين ما يحلو له، ما يرضيه ويسعده، ولكن خلافاً لتوقعاته ورغباته، كل شيء من حوله يشاكسه ويخالفه. سندخل معه عالماً فيه كل شيء، الشرير والخير، الجميل والقبيح، العميق والسطحي. نتسلل إلى عقله الباطني، نقيم في ذكرياته، نتسكع في اللحظات التي يخرج فيها الفيلم من سياقه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا كله ضمن صيغة حكائية يكاد إينياريتو لا يضيع خلالها طرف الخيط من شدة امتلاكه الأدوات. لا يعامل الفيلم بطله بحنو واكتراث، يتركه يحترق على نار خفيفة، ليرويه بقطرات مياه بين حين وآخر. كل شيء يتفجر في داخله، يتفكك ويتفتت، ليترك، الانفجار والتفتيت هذان، آثاراً جانبية. يبحث رجلنا الذي يتجول داخل سيرته وسيرة بلاده عن أجوبة لأسئلة وهواجس لم يحلها، وهي ظلت مؤجلة من جيل إلى جيل، من لحظة تاريخية إلى أخرى، لتتفاعل عبر الأمكنة، بين بلد الأصل والوطن المشتهى. مهما روينا وشرحنا وقلنا ما قل ودل على مضمون الفيلم، سنبقى مقصرين تجاه هذا العمل الثري الذي يعيد تشكيل روابط كثيرة، كما أنه يحاول وضع النقاط على الحروف على المستوى السياسي، في إطار العلاقة بين أميركا والمكسيك.

ست سنوات غياب كانت فترة كافية لننسى أن إينياريتو واحد من أكثر السينمائيين موهبةً في جيله. وها أن عودته عبر بوابة فينيسيا تذكرنا بما كنا نعرفه، وهذه أيضاً مناسبة للتأكيد أن الجماليات الدعائية التي اتُهم فيها في بداياته، باتت اليوم تعتبر سينما خالصة، وهو في هذا المجال كان رائداً. عقدان من الزمن، استطاع خلالهما التخلص من بعض الشوائب، ليبقي على الجوهر، وهو جوهر تلتقطه العين قبل الروح.

العودة إلى المكسيك

بهذا الفيلم يعود إينياريتو إلى بلاده الأم المكسيك، بعد 22 سنة على ابتعاده عنها، عندما بات ينجز أفلاماً خارجها. لكن من الواضح أنه ترك فيها الكثير مما يستحق العودة من أجله، على غرار مواطنه ألفونسو كوارون الذي سلك درب الماضي مع "روما". وهذه عودة طبيعية عند فنان اجتاز أكثر من منتصف حياته المهنية ومسيرته الفنية، بحيث الذي تبقى أقل مما مضى. انها لحظة مراجعة للذات والآخرين، لحظة تصفية حسابات مع العالم وإعادة ترتيب لمكان الفنان فيه. هذا كله يقوله إينياريتو في فيلمه، مباشرةً أو إيحاءً. وإذا كان فيلليني اختبأ خلف شخصياته ليروي ذاته ومخاوفه وأزماته الوجودية، فإينياريتو يحول الصحافي هنا إلى أناه الأخرى ليفكر ماذا يعني النجاح، وهل من إمكان للتخلص من الشعور بالذنب الذي يتأكله؟ لكنه لا يكتفي بذلك ففط، فالصحافي هنا انعكاس للكثير من الأمور، إنه في النهاية مرآة لأحوال وناس وأماكن ولحظات. ختاماً، نعم الفيلم لا تنقصه العيوب، لكنه صادق وحقيقي، هناك لحظات قد تتكرر بأشكال مختلفة، وهناك إطالة، وهناك تباه في صناعة شيء جميل، وهناك جوانب قد لا تعجب البعض أو لا يرى فيها ما يرضي ذائقته السينمائية... إلا أن ما هو جميل في السينما هو أنها كانت وستزال دائماً مكاناً للإختلاف. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما