Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صفقة "نتفليكس" تبتلع ذاكرة العالم الإبداعية

منصة البث قدمت عرضاً للاستحواذ على "وارنر بروس" وتحفها السينمائية والتلفزيونية

القاعات السينمائية التي كانت تجمع الجمهور في تجربة مشتركة من الضحك والصمت والتفاعل الجماعي، تواجه تهديداً مباشراً (مواقع التواصل)

ملخص

بيع هذا التراث الضخم إلى منصة بث يعني عملياً انتقال "سردية السينما الأميركية" إلى شركة تكنولوجية تتحكم في كيفية عرض المحتوى وتمويله وتموضعه داخل سوق عالمية خاضعة للتفضيلات الرقمية. بهذا المعنى، الصفقة لا تشتري الأفلام فقط، بل تشتري "السرد" و"الذاكرة" و"الهوية" التي راكمتها هوليوود طوال قرن.

تخيل لحظة يتحول فيها شعار "N" الأحمر الياقوتي، من مجرد رمز لمسلسلات تبث حلقة تلو الأخرى، إلى بوابة لعوالم كاملة، باتمان وهاري بوتر (Harry Potter) وDune وأرشيف HBO الذي يضم أشهر الأعمال التلفزيونية على مر العقود مثل Game of Thrones  و  The Sopranos و .Succession

هذا التحول ليس خيالاً علمياً، بل إنه واقع محتمل بعد إعلان "نتفليكس" مطلع الشهر الجاري نيتها شراء "وارنر بروس" في صفقة تبلغ قيمتها 82.7 مليار دولار. وما يحدث أكثر من عملية مالية ضخمة، إنه زلزال ثقافي يعيد تشكيل صناعة الترفيه العالمية، ويطرح أسئلة جوهرية حول الملكية الفنية وقوة السرد وكيفية وصول الفن إلى الجمهور، فيما يحذر نقاد الصفقة من أن الدمج قد "يقلل من المنافسة ويضر بالمستهلك".

وبيع هذا التراث الضخم إلى منصة بث يعني عملياً انتقال "سردية السينما الأميركية" إلى شركة تكنولوجية تتحكم في كيفية عرض المحتوى وتمويله وتموضعه داخل سوق عالمية خاضعة للتفضيلات الرقمية. بهذا المعنى، الصفقة لا تشتري الأفلام فقط، بل تشتري "السرد" و"الذاكرة" و«الهوية» التي راكمتها هوليوود طوال قرن.

ولم يكُن من الغريب أن تعلن وزارة العدل الأميركية فتح تحقيق واسع في الصفقة، وسط تحذيرات من حلقة احتكار لا يسبقها إلا احتكار شركات النفط خلال القرن الماضي.

 

 

فـ"نتفليكس" بعد الاستحواذ لن تكون منصة، بل أكبر منتج وموزع ومتحكم في المحتوى المرئي في دولة تعرف نفسها عبر صناعاتها الثقافية. وعلق الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الصفقة بأنه "سيكون جزءاً من القرار"، في إشارة إلى الدور المنتظر للهيئات الفيدرالية المختصة بمكافحة الاحتكار في مراجعة الصفقة.

الحلم

"نتفليكس" التي بدأت كمنصة بث رقمية، صاغت نموذج إنتاج قائماً على البيانات والخوارزميات، إذ يقاس نجاح المحتوى بمعدلات المشاهدة ونسب الإكمال وجذب المشتركين الجدد. لكن هذا النموذج الرقمي، مهما كان دقيقاً، يفتقر إلى التراث الفني والمكتبة الكلاسيكية التي تمنح أي كيان ثقافي عمقاً واستمرارية.

توفر "وارنر بروس" Warner Bros هذا التراث، بمكتبة ضخمة من الأفلام الكلاسيكية والامتيازات الكبرى مثل عالم DC وHarry Potter، واستوديوهات مجهزة بأحدث تقنيات الإنتاج وأرشيف HBO الذي يشكل معيار التميز التلفزيوني منذ عقود.

وكثيراً ما اشتهرت "وارنر" تاريخياً بطابعها البصري المظلم، والجرأة في تناول الشخصيات الرمادية. فماذا سيحدث لهذه الهوية داخل منصة تعتمد على الاختبارات الجماهيرية وتحليل البيانات؟

إن استحواذ "نتفليكس" ليس مجرد دمج استوديو بمنصة، بل تحقيق حلم التكامل، التحكم في كل مرحلة من الفكرة إلى الإنتاج، ومن التوزيع إلى وصول المحتوى مباشرة إلى المشاهد، ونسخة القرن الـ21 من نموذج استوديوهات هوليوود الكلاسيكية، لكن على نطاق رقمي عالمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا التحول يخلق مفارقة عميقة، فالجمهور سيحصل على وفرة غير مسبوقة من المحتوى بنقرة زر، لكن القيم التي تحكم الاختيار لم تعُد إبداعية أو ثقافية بقدر ما أصبحت خوارزمية، أي إن معدلات المشاهدة والتفاعل تحكم ما ينتج وما يعرض.

والهالة الفنية لأعمال HBO أو كلاسيكيات السينما قد تصبح رهينة البيانات، بينما امتيازات ضخمة مثل DC  أو Harry Potter قد تتحول إلى ملحمة متكاملة بحسب قواعد السوق الرقمية، وليس بحسب الرؤية الفنية للمبدعين. والنتيجة تحول التركيز من التجربة السينمائية الجماعية إلى التجربة الفردية، فيصبح المشاهد خاضعاً لخوارزمية تقرر ما سيشاهده.

تحديات

القاعات السينمائية التي كانت تجمع الجمهور في تجربة مشتركة من الضحك والصمت والتفاعل الجماعي، تواجه تهديداً مباشراً. الأفلام الضخمة مثل Dune ستظل تجذب الجمهور لتجربة الـ IMAX أو 3D، لكن الإنتاجات ذات الأخطار الأقل أو ذات الإمكانات التجارية غير المؤكدة ستنتقل مباشرة إلى البث المنزلي.

وهذا التحول يعيد رسم العلاقة بين النجوم والمخرجين الذين قد يختارون الاستقرار ضمن استوديوهات تقليدية تحافظ على الإبداع أو التكيف مع المنصات الرقمية الضخمة حيث يقاس النجاح بمعايير السوق. والسينما الجماعية التي كانت تجمع الجمهور في تجربة مشتركة، تواجه خطر الانحسار أمام تجربة فردية منفصلة، فيصبح الحوار الثقافي الجماعي أقل تأثيراً.

 

 

في المقابل، تحمل الصفقة تأثيراً عالمياً أيضاً، ففي مواجهة الاحتكار الجديد، قد تضطر منصات مثل Apple TV+ و Amazonإلى إنتاج محتوى مكثف أو الاستحواذ على استوديوهات أصغر للبقاء ضمن المنافسة.

وهنا يكمن الخطر الأعمق، تحويل الفن والتراث إلى سلعة رقمية، ومنصة تعتمد على معدلات الإكمال والتفاعل قد لا تعطي أبداً قيمة للتجريب الفني أو المخاطرة الإبداعية. وأعمال خالدة مثل Casablanca أو Taxi Driver قد تُقيم وفق معايير بقاء المحتوى الرقمي بدلاً من قيمتها الفنية. والسينما الفردية، على رغم سهولة الوصول إليها، تفقد بعداً جماعياً وثقافياً عميقاً، مما يهدد القدرة على الحوار الاجتماعي والمشاركة الثقافية.

من أوروبا إلى الشرق الأوسط وآسيا

الصفقة ليست مجرد قضية أميركية. في أوروبا، حيث توجد قوانين الـ"كوتا" للمحتوى المحلي، قد تضطر المنصات الكبرى إلى الحفاظ على إنتاج محلي محدود، بينما من الممكن أن تتحول الأسواق إلى فروع لعرض المحتوى الأميركي.

وضمن الأسواق العربية، تحمل الصفقة فرصاً فريدة من تمويل كبير للمشاريع المحلية، ونقل تقنيات الإنتاج الحديثة، وإمكان تحويل بعض المشاريع إلى امتيازات عالمية. لكنها تحمل أخطاراً ثقافية جادة، فالسرد المحلي قد يخفف ليتناسب مع خوارزمية عالمية، والأرشيف الغربي قد يطغى على التجارب المحلية، والملكية الفكرية للبيانات والسرد ستصبح خارج سيطرة صانعي الأفلام العرب، مما يؤدي ربما إلى توحيد المحتوى الثقافي وفق معايير السوق العالمية.

أما في آسيا، فإن صناعات ضخمة مثل السينما الهندية والكورية واليابانية ستواجه صعوبة في المنافسة مع إمبراطورية محتوى رقمية فضلاً عن أرشيف ضخم، مما قد يفرض معايير "عالمية–مين ستريم" على الإنتاج المحلي.

السيناريوهات المستقبلية للسينما

ومستقبل صناعة السينما أمام أربعة سيناريوهات محتملة:

-   أرشيف منصة موحدة، الغالبية العظمى من الأفلام الأميركية تعرض فقط عبرNetflix/HBO Max، والقاعات نادرة، والإنتاج المستقل يتقلص.

-   تجزئة مقننة- ترخيص دولي، أجزاء من المكتبة تمنح لمنصات أخرى، والإنتاج المحلي يستمر ضمن معايير تنوع.

-   إحياء "الهوامش" الإبداعية، ظهور فضاءات بديلة مثل السينما المستقلة والمهرجانات والبيوت الإنتاجية المحلية التي تبحث عن بدائل للخوارزمية.

-   هيمنة رقمية وتهميش محلي، الإنتاج العالمي يطغى على المحلي، وتختفي الأصالة الثقافية لمصلحة المنهج العالمي للمنصة.

ردود الفعل

لم تتأخر ردود الفعل على الصفقة، فقدمت Paramount Skydance  عرضاً عدائياً بقيمة 108 مليارات دولار للحفاظ على التوازن، فيما بدأت الجهات التنظيمية الأميركية بدراسة الصفقة خشية الاحتكار الثقافي. أما باقي المنصات الكبرى، فتواجه تحديات لإيجاد طرق للبقاء ضمن المنافسة، سواء عبر الاستحواذ أو الإنتاج المكثف.

ويذكر التاريخ أن السينما نجت من التلفزيون والفيديو المنزلي والإنترنت، لكنها اليوم أمام اختبار جديد أن تتحول التجربة الفنية إلى سلعة رقمية خاضعة للخوارزمية. والسينما لن تختفي، لكنها قد تفقد جزءاً من حريتها الإبداعية وتجربة جمهورها الجماعية، وربما طابعها الثقافي المحلي.

واستحواذ "نتفليكس" على "وارنر بورس" ليس مجرد صفقة اقتصادية، بل إنه انقلاب ثقافي يعيد تعريف السينما نفسها. والسؤال لم يعُد هل ستعرض الأفلام في القاعات، بل هل ستصنع أصلاً ومن سيحدد قيمتها.

في عصر ما بعد الاستوديو، يصبح الماضي ملكاً لشركة بث والمستقبل شبكة احتمالات لا يمكن التنبؤ بها، والمعركة الحقيقية ليست على الإيرادات، بل على روح السرد والتنوع الثقافي، وعلى قدرة السينما على البقاء كفضاء جماعي وفني حي.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما