ملخص
أشار الباحث الاقتصادي جمال محمد إلى أن "خروج الجامعات السودانية من التصنيفات العالمية لا يقتصر أثره على المؤسسة الأكاديمية وحدها، بل يمتد ليصيب المجتمع والاقتصاد في عمق بنيتهما، فالجامعة في أية دولة تعد المحرك الأساس لإنتاج المعرفة، ورافداً مباشراً لسوق العمل بالكفاءات المطلوبة".
تعيش الجامعات السودانية عام 2025 واحدة من أسوأ مراحلها الأكاديمية، إذ خرجت بالكامل من معظم التصنيفات العالمية، في مؤشر يعكس حجم التراجع في جودة التعليم والبحث العلمي. فبحسب أحدث التصنيفات، فإن السودان يضم نحو 52 جامعة معترفاً بها، لكن لم تظهر أي من الجامعات السودانية ضمن التصنيفات الدولية الكبرى هذا العام.
ووفق تقرير نشر نهاية عام 2025، استبعد السودان كلياً من مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر عن منتدى دافوس، ضمن دول شهدت انهياراً واسعاً في مؤسساتها التعليمية. هذا التدهور يهدد الاعتراف الدولي بالشهادات السودانية، ويقلل فرص البحث والشراكات والتمويل، ويضع مستقبل التعليم العالي أمام تحديات غير مسبوقة.
معالجة جذرية
في السياق، قال الباحث الأكاديمي حاتم أشرف "بيانات التصنيفات الدولية تشير إلى أن السودان لم يعد ممثلاً بصورة فعالة في مؤشرات جودة الجامعات، مما يعكس حجم الانهيار في البنية المعرفية والبحثية. كما تعاني المؤسسات التعليمية صعوبات في تحديث المناهج، ونقص التجهيزات التقنية، وتعطل أنظمة التقويم والاعتماد، إضافة إلى الضعف العام في القدرات الإدارية والحوكمة الجامعية"، ورأى أشرف أن "خطورة هذا التدهور في تأثيره المباشر في مكانة الشهادة السودانية، وقدرة الطلاب على المنافسة في المنح الدولية، وإمكان دمج الجامعات في شبكات بحث عالمية. فغياب النشاط البحثي وتراجع الأداء الأكاديمي لم يعودا مجرد عثرة موقتة، بل مؤشر على أزمة بنيوية تحتاج إلى معالجة جذرية تعيد للجامعة السودانية دورها الريادي وقدرتها على إنتاج المعرفة وبناء الكفاءات"، وتابع "التراجع الذي أصاب الجامعات السودانية خلال العامين الماضيين ليس تراجعاً عابراً، بل هو نتيجة مباشرة لانهيار بيئة التعليم والبحث العلمي، فقد تعطلت معظم الكليات فترات طويلة، وتوقفت المختبرات عن العمل، وانخفض الإنتاج البحثي بصورة غير مسبوقة، كما نزح عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس، وتشتت الطلاب بين ولايات مختلفة من دون القدرة على استكمال برامجهم الدراسية بصورة منتظمة"، وواصل "شروط التصنيف العالمية تعتمد على أربعة عناصر أساسية منها الاستقرار الأكاديمي، وجودة البيئة البحثية، والانتظام في عملية النشر، وسمعة المؤسسة العلمية. وللأسف، فقدت الجامعات السودانية جانباً كبيراً من هذه المقومات، إذ توقفت الشراكات الدولية، وتراجع النشر المحكم، وفقدت المؤسسات القدرة على قياس الأداء وضمان الجودة"، ومضى الباحث الأكاديمي قائلاً "هذا التدهور انعكس مباشرة على ترتيب الجامعات، فغابت كلياً عن التصنيفات الكبرى، وتراجعت في التصنيفات الرقمية، وما لم تعالج الأسباب البنيوية لهذه الأزمة من نقص التمويل، وهجرة الكفاءات، وضعف البنية التحتية فإن قدرة هذه الجامعات على استعادة موقعها الإقليمي والدولي ستبقى محدودة للغاية".
بيئة مستقرة
الأستاذ الجامعي فيصل الحاج قال من ناحيته، "لا يمكن فصل أزمة الجامعات السودانية عن الواقع الأمني الذي فرضته الحرب منذ عام 2023. فقد كانت الحرب العامل الأكثر تأثيراً في تعطيل التعليم العالي وإخراجه من دورة العمل الطبيعية. فالجامعات في الخرطوم وولايات أخرى تعرضت للتدمير والنهب، وتحول بعض الحرم الجامعية إلى مناطق عسكرية أو مراكز إيواء، مما جعل استمرار العملية التعليمية أمراً شبه مستحيل، فقد نزح آلاف الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وتشتتت السجلات الأكاديمية، وتوقفت الامتحانات والمعامل ومراكز الأبحاث فترات طويلة. هذا الانقطاع المستمر ضرب أساس الاستقرار الأكاديمي، وهو شرط محوري في أي تصنيف عالمي"، وأضاف الحاج "كما أدت الحرب إلى انقطاع التمويل الحكومي، وتعطل الإيرادات الذاتية للجامعات، وانهيار شبكات الإنترنت والكهرباء في كثير من المناطق، وهي عناصر لا يمكن لأية مؤسسة أكاديمية أن تعمل من دونها. أما التعاون الدولي، فقد تأثر بصورة مباشرة، إذ علقت معظم الجامعات الأجنبية اتفاقات التبادل والبحث المشترك بسبب فقدان بيئة العمل الآمنة والمعايير الأكاديمية الأساسية، مما أدى إلى عزل الجامعات السودانية عن مجتمع البحث العلمي العالمي، مما انعكس فوراً على التصنيف، لأن الشراكات الدولية والإنتاج العلمي المشترك يشكلان نسبة كبيرة من مؤشر الترتيب العالمي"، ورأى الأستاذ الجامعي أن "الحرب لم تؤثر في الجامعات من الخارج وحسب، بل أعادت تشكيل بنيتها بالكامل، وأوقفت قدرتها على التعليم والبحث والإدارة، ولن تتمكن الجامعات السودانية من استعادة مكانتها في التصنيفات العالمية ما لم يعد بناء بنيتها، وتأمين بيئة تعليم مستقرة، وضمان حد أدنى من الأمان والاستمرارية العلمية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فجوة حقيقية
من جانبه، أشار الباحث الاقتصادي جمال محمد إلى أن "خروج الجامعات السودانية من التصنيفات العالمية لا يقتصر أثره على المؤسسة الأكاديمية وحدها، بل يمتد ليصيب المجتمع والاقتصاد في عمق بنيتهما، فالجامعة في أية دولة تعد المحرك الأساس لإنتاج المعرفة، ورافداً مباشراً لسوق العمل بالكفاءات المطلوبة، ومع تدهور التعليم العالي، بات المجتمع يواجه فجوة حقيقية في الكوادر المؤهلة، خصوصاً في المجالات الحيوية كالطب والهندسة والبحث العلمي"، وأضاف "تراجع الجامعات شكل ضربة مباشرة لقدرة السودان على جذب الاستثمارات، إذ تعتمد المؤسسات الدولية على مستوى التعليم لتقدير بيئة العمل والتنمية، كما أثر ضعف الاعتمادية الأكاديمية في فرص الطلاب في الحصول على منح خارجية أو الالتحاق بجامعات دولية، مما اضطر الأسر إلى تحمل تكاليف ضخمة لإرسال أبنائها للدراسة في الخارج، وهو عبء اقتصادي واجتماعي كبير"، وزاد الباحث الاقتصادي "كذلك حدث تراجع في الإسهام البحثي للجامعات، وهو عنصر أساس في الابتكار والإنتاج، مما أضعف قدرة الدولة على بناء اقتصاد قائم على المعرفة أو على تحسين الإنتاج المحلي. ومع انقطاع الشراكات العلمية، فقد السودان جزءاً كبيراً من الفرص التي كانت تتيحها المشاريع المشتركة والتمويل الدولي للبحوث، لذلك فإن غياب الجامعات عن التصنيف العالمي ليس مجرد مشكلة أكاديمية، بل إنه مؤشر على أزمة أشمل تمس المجتمع والاقتصاد والتنمية البشرية بصورة مباشرة، وما لم يستعد الاستقرار التعليمي والعلمي، فسيتواصل هذا التأثير سنوات، مع اتساع الفجوة بين السودان والعالم في مخرجات التعليم وقدرة الموارد البشرية".
تعاف مستقبلي
في السياق أيضاً، أوضح الباحث الأكاديمي رأفت هاشم أنه "على رغم التدهور الكبير الذي أصاب الجامعات السودانية، لكن لا يزال أمامها مسار واضح لإعادة بناء مكانتها على المستويين الإقليمي والدولي، إذ إن التعافي يعتمد أولاً على إعادة الاستقرار الأمني وتأمين بيئة تعليمية وبحثية سليمة، تشمل حماية الحرم الجامعي، وإعادة تشغيل المختبرات، وضمان انتظام العملية التعليمية"، ولفت هاشم إلى أنه "لا بد من دعم البنية التحتية الرقمية والاعتماد على التكنولوجيا في التعليم والبحث، مما يتيح استمرار النشر العلمي والتواصل مع المؤسسات الأكاديمية العالمية، مع تعزيز البرامج البحثية المشتركة والمنح الدولية التي تساعد في استعادة الشراكات العلمية والثقة العالمية"، ورأى الباحث الأكاديمي أن "تطوير الكوادر التعليمية والإدارية، وضمان التدريب المستمر على معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، سيعيدان للجامعات السودانية مكانتها تدريجاً في التصنيفات العالمية. وأخيراً، فإن وضع خطة شاملة للتنمية المستدامة في التعليم العالي، تشمل التمويل المناسب، والحوكمة الفعالة، وحماية حقوق الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، سيحول الأزمة الحالية إلى فرصة لإعادة صياغة منظومة التعليم العالي على أسس أكثر قوة واستدامة".