Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أجمل ما في الحياة أن أوهامنا معنا

"لم يعد العالم ما تمردوا عليه، كل شيء تغير، لدرجة تجاوزت أحلامهم"

الحرب الكبرى الأوروبية الثانية أنهاها العلم بالذرة، فأنتج توازن الرعب والحرب الباردة (أ ف ب)

صديقي ردد وهو يغادر سيارتي: أنا من ضيع في الأوهام عمره، وهي جملة شعرية في قصيدة "الجندول" للشاعر علي محمود طه التي غناها محمد عبد الوهاب. لما غادرته وجدتني أتذكر ما أردد في أحيان عدة: أجمل ما في الحياة أن أوهامنا معنا للشاعر مفتاح العماري. صديقي مع وهن الشيخوخة أدرك أنه وقع في فخ أطلق عليه فلاسفة ما بعد الحداثة تسمية "خيبة السرديات الكبرى"! وبات يشعر أنه يعيش في هذه اللحظة الاستثنائية حالة الحداثة السائبة، كما يسمي الفيلسوف الإنجليزي زيغمونت باومان عالم اليوم الزومبي/ الحي الميت. وموت السرديات الكبرى أو على الأقل فشلها جعل الصديق عند شيخوخته ينظر إلى خلف بأسف، وينظر إلى واقع الحال بخيبة.
صديقي يلتفت في شيخوخته إلى محيطه فيرى الحياة حروباً والحروب أهلية، ويرى النزاعات حول لا شيء أو بدواعٍ مزرية، وأن التنازع بين البشر محموله فارغ لا يضاهي أبداً ما عاشه، ولعل هذا ما يجعله يردد ما يراه فلاسفة ما بعد الحداثة بموت الإنسان. أما عندما ينظر إلى شبابه الأول فيجد أنه كان متمرداً وبقوة وفعل، منذ مراهقته ضد كبار في السياسة، أو ضد مجتمع له راوسخ وثوابت واضحة كالشمس، وأنه كان يفلسف تمرده سواء جلس في مقعد "على مقهى الوجودية"، أو كان ماركسياً يرتدي قبعة تشي غيفارا، وفي الحالين كان يرقص مع "الخنافس"، محتجاً ضد بتهوفن وموزارت، مردداً "نحنا والقمر جيران"، مع فيروز والرحابنة في مسرح بيكاديلي.

كيف صارت الوجودية، فكر صديقي، في مقتبل عمره؟ سارة بكويل في كتابها الشيق "على مقهى الوجودية - الحرية والوجود وكوكتيلات المشمش" ترجمة حسام نايل، تحاول أن تجيب في أكثر من 400 صفحة من الحجم الكبير، وهي تعتبر أن سارتر هو مبتدع الوجودية، وأن "الفلاسفة قبل سارتر، كانوا يكتبون من خلال فرضيات وحجج دقيقة صارمة، أما سارتر فكتب ما يكتب الروائي، وليس هذا بمستغرب لأنه كان روائياً، كتب عن الأحاسيس الجسدية نحو العالم والأبنية، وعن أمزجة الحياة البشرية في رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته، وفي أطروحاته الفلسفية أيضاً، وكتب في المقام الأول عن موضوع كبير: ما الذي يعنيه أن تكون حراً؟ تقع الحرية عند سارتر في قلب أي تجربة بشرية، فهي التي تميز البشر عن كل الكائنات الأخرى. الحرية مبتغى صديقي، ولذا دخل في محاورات شاقة وشيقة ضد أصدقائه اليساريين غير الوجوديين، فالماركسية عنده فلسفة دولة وليست فلسفة حرية، وحينها كل منهم عند نفسه حامل فلسفة ومتشيّع لها، ولمجلة عربية تنشر ما يصبو إليه تأليفاً عربياً أو ترجمة، وبيروت عاصمة الجميع عندئذٍ. وفي تقديرهم أن العالم واحد، وإن منقسم، فتحرير سايغون وفلسطين موحد الأغلبية. ومن هذا كانوا حينها مع شباب العالم منتفضين، ناظرين إلى الخلف بغضب، معتقدين أن غداً يبدأ اليوم، فهم كفيلون بتغيير العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحقيقة، التي لم يقبل بها صديقي في شيخوخته: أنهم فعلاً غيروا العالم!

نعم لم يعد العالم ما تمردوا عليه، كل شيء تغير، لدرجة تجاوزت أحلامهم، لقد تحققت إرادتهم ولكن ليس أحلامهم، فالعلم الذي جعلوه وثن الحداثة تجاوز توقعاتهم، والحرب الكبرى الأوروبية الثانية أنهاها العلم بالذرة، فأنتج توازن الرعب والحرب الباردة، وتحت طائلة هذا التوازن/ الرعب البارد غيروا العالم، ما جعل فلاسفة ما بعد الحداثة يُرجعون المأساة إلى السرديات الكبرى القومية والأممية، وعلى مقهى العالم لم يعد من جدوى لوجودية وماركسية وغيرهما، بالتالي لا جدوى أن تكتب، ما جدوى الكتابة؟ فلقد غدت الفلسفة تُرجع البلاء إلى نفسها.

مرة ثانية، الحقيقة التي لم يقبل بها صديقي في شيخوخته: أنهم فعلاً غيروا العالم، وما تمردوا به على العالم قام بالمهمة، ولم يعد سارتر أو ماركس أنبياء ما بعد الحداثة، حيث لم يبق من الحرب الباردة إلا توازن الرعب، الذي كشف أن لا توازن للرعب، وأن القطب الواحد كالقطبين أو حتى أكثر، فالحرب الأوروبية الكبرى الأولى اندلعت في زمن الأقطاب.
ولهولدرلن الشاعر رأي آخر: لكن حيث يكون الخطر تنمو قدرة الإنقاذ أيضاً.

المزيد من تحلیل