بعد شهر من شن روسيا الحرب على أوكرانيا، تحركت الدول الأوروبية بحزم واتحاد غير مسبوقَين في مجال الدفاع، فقد بدأت حكوماتها في زيادة الإنفاق العسكري وتعزيز الاستعدادات وإرسال وحدات لحماية الحدود الشرقية لحلف الناتو، في حين تدفع باريس وبرلين في اتجاه إنشاء جيش أوروبي يسمح للدول الأعضاء بتجميع قواها الوطنية، والتغلب على قدراتهم غير الفعالة، على اعتبار أن دفاعاً مشتركاً من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يحمي أوروبا في حال انتخب الأميركيون رئيساً انعزالياً، بدلاً من الإدارة الأميركية الحالية المناصِرة للناتو، فهل يمكن أن ينجح هذا الجيش الأوروبي في ضمان أمن أوروبا؟ وما مصير الناتو في هذه الحالة؟
هل جيش الاتحاد الأوروبي قادم؟
يتفق السياسيون والنقاد على أن صدمة الحرب في أوكرانيا، يمكن أن تكون سبباً في تحول الاتحاد الأوروبي إلى لاعب عسكري مهم في الخريطة العالمية، فقد أعادت روسيا الحرب إلى أوروبا بعد 77 عاماً، وكان ذلك شيئًا خطيراً حتى بالنسبة لمَن لم يصدقوا إمكانية حدوث ذلك، وهو ما أثار استجابةً مشتركة من دول الاتحاد الأوروبي التي أصبحت أكثر تماسكاً وتبحث الآن كيفية بناء دفاع أوروبي أكثر صلابة ومصداقية كرد وحيد ممكن على هذه الأزمة. وبعد أيام من اندلاع الحرب، أعلنت ألمانيا، القوة الاقتصادية الأكبر في أوروبا، أنها ستزيد إنفاقها الدفاعي لعام 2022 بمقدار 100 مليار يورو (113 مليار دولار) بعدما كان أقل من 52 مليار يورو في العام السابق، كما كسرت سياستها التقليدية بعدم تقديم السلاح إلى مناطق الصراع العسكري، بإرسالها أسلحة إلى أوكرانيا فضلاً عن ما أرسله الاتحاد الأوروبي من مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا بالاعتماد على مخزوناتهم الوطنية تبلغ قيمتها أكثر من نصف مليار دولار، شملت صواريخ مضادة للدبابات والطائرات وذخيرة ومعدات عسكرية متطورة.
ليس هذا فحسب، إذ أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من موقع فرنسا في مقعد القيادة الدورية للاتحاد الأوروبي عما يُسمى "بوصلة استراتيجية" أمنية لأوروبا، والتي صادق عليها وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي الإثنين الماضي، لتوضيح سياق ومفهوم للتحديات التي تواجه أمن أوروبا، بما في ذلك مصالح أوروبا العميقة، بدءاً من الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، مروراً بإفريقيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وانتهاءً بأميركا اللاتينية.
وعلى الرغم من أن ماكرون اقترح حين وصل إلى السلطة، تشكيل قوة دفاع أوروبية، كثقل موازن لتحالف الناتو، في ظل خشية زعماء الاتحاد الأوروبي أن يكون الحلف رهينة للولايات المتحدة تحت حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، إلا أن فكرته لم تذهب آنذاك إلى أبعد من ذلك، غير أن التحول التاريخي الذي شهدته أوروبا يوم 24 فبراير (شباط) الماضي، أعاد إحياء الفكرة، وهو ما تجلى في استعداد أوروبا للموافقة هذا العام على "سيناريوهات تشغيلية لـقوات الانتشار السريع للاتحاد الأوروبي" التي تضم 5000 عنصر، ويُنتظر أن تبدأ تدريبات عسكرية منتظمة مع اكتمال انتشارها بالكامل بحلول عام 2025. وستشمل قواتاً برية وجوية وبحرية.
أي دور لأوروبا؟
لكن ليس من الواضح بعد ما الذي يجب أن يكون عليه الدور العسكري للاتحاد الأوروبي، حسبما تشير إليزابيث براو، كبيرة الباحثين في معهد "أميركان إنتربرايز"، إذ أن "الدول الأعضاء لديها آراء مختلفة على نطاق واسع حول هذا الدور، كما أن الاهتمام بالأمن الأوروبي يتولاه بالفعل حلف الناتو، فما الذي يمكن أن يفعله الاتحاد الأوروبي بالضبط لتعزيز وتطوير قوته العسكرية من دون التسبب في إهانة أو ضرر لحلف الناتو؟ وما هي الأزمات الشديدة التي تشكل فرصة لمساهمة عسكرية لدول الاتحاد وتقل عن مستوى الدفاع عن دول الأعضاء في الناتو حال تعرضها لاعتداء وفق نص المادة 5 للحلف؟".
يرى كلاوديو غرازيانو، رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي، أن "قوة الانتشار السريع الأوروبية سيكون لها عندما تكتمل، عوامل تمكين استراتيجية، كانت الولايات المتحدة توفرها في الماضي، مثل هياكل القيادة والتحكم، والجسر الجوي والنقل الاستراتيجي، والمراقبة الاستخباراتية وقدرات الاستطلاع، والدفاع الإلكتروني، والمركبات الجوية بدون طيار، والاتصالات الفضائية، وأنظمة الحرب الإلكترونية، والدفاع المضاد للصواريخ، مع الأمل في تعزيزها في المستقبل القريب بدبابات قتال رئيسية والجيل القادم من الطائرات المقاتلة".
وفي حين أن مجموعات القتال في الاتحاد الأوروبي صُممت لاستخدامها في إدارة الأزمات التي تقل عن الحروب، بل إنها لم تُستخدم مطلقاً بسبب عدم التوصل إلى اتفاق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا مثل التكلفة ومَن يقود الجهود، فإن الجنرال غرازيانو يرى أن "قوة الانتشار الأوروبي لا ينبغي عليها التنافس مع الناتو الذي ينتشر في الخارج بشكل جيد، ولديه ما لا يقل عن تسعة فيالق للرد السريع، وهي أكبر بكثير من مجموعات القتال التابعة للاتحاد الأوروبي، ومع ذلك فإن وجود هذه القوات الأوروبية سيرسل رسالة عن الوحدة الأوروبية إلى روسيا وغيرها".
وعلى الرغم من أن خطة البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، من المتوقع أن تتمتع بشراكة وثيقة مع الناتو والأمم المتحدة ومجموعة السبع التي تضم كندا واليابان، إلا أن القوة الأوروبية، يمكن أن تنطلق إلى العمل، إذا تردد حلف الناتو الأكثر تعقيداً والذي يخضع لإرادة الولايات المتحدة، العضو المهيمن فيها، ومن ثم ستعمل بوصلة الأمن الاستراتيجية على عزل القارة بشكل فعّال عن تقلبات وتضارب النظام السياسي الأميركي.
عقبات ومشكلات
يعترف الجنرال غرازيانو بعدد من المشكلات التي تواجه الاتحاد الأوروبي، بخاصة مسألة التشغيل البيني، فالجيش الأميركي، وحتى الجيش الروسي، يستخدم كل منهما نوعاً واحداً فقط من دبابات القتال الرئيسة، بينما يشغّل الأوروبيون 17 نوعاً مختلفاً من الدبابات، وهذا يخلق مشاكل هائلة في الصيانة والتوريد والتدريب، كما تواجه القوات البحرية والجوية الأوروبية مشاكل مماثلة، وهو أمر غير مقبول بالنظر إلى أن دول الاتحاد تنفق بشكل جماعي نحو 250 مليار يورو (276 مليار دولار) سنوياً على الدفاع، وهو مبلغ أكثر مما تنفقه روسيا، لكن أوروبا بحاجة إلى إنفاق المزيد، مع تجنب الازدواجية في التسليح، فضلاً عن الاحتياج إلى مزيد من التدريبات والعمل المشترك.
لكن جيش الاتحاد الأوروبي ليس سوى مصطلح افتراضي، إذ لا يوجد مثل هذا الجيش الآن، ولا تفعل سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد، سوى تمكينه من الاضطلاع بدور في عمليات حفظ السلام ومنع نشوب النزاعات وتعزيز الأمن الدولي، كجزء من نهج الاتحاد الأوروبي الشامل تجاه إدارة الأزمات، بالاعتماد على القدرات المدنية والعسكرية.
ومع ذلك، فإن دول الاتحاد الأوروبي تظل ملزمة بمساعدة أي دولة عضو تقع ضحية لعدوان مسلح على أراضيها بكل الوسائل المتاحة، وفقاً للبند 42 من معاهدة لشبونة للدفاع الجماعي ضمن قواعد سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي.
وفي حين أن الاتحاد الأوروبي لديه هيكل قيادة، إلا أنه ليس لديه هيكل عسكري دائم على غرار عمليات القيادة في حلف الناتو، لكن الاتحاد أسس في عام 2017، صندوق الدفاع الأوروبي، وهو أحد مكونات سياسته للأمن والدفاع المشترك، والتي تهدف إلى تنسيق وزيادة الاستثمار الوطني في أبحاث الدفاع وتحسين إمكانية التشغيل البيني بين القوات المسلحة الوطنية لدول الاتحاد، وتبلغ ميزانيته الآن مليار يورو فقط، مع خطة طموحة لزيادة التمويل مستقبلاً.
هل يمكن الاستغناء عن أميركا؟
"غير أن اليقظة الجيوسياسية في أوروبا التي تُستخدم كمبرر لمزيد من المركزية في السياسة الأمنية من أجل إنشاء جيش أوروبي يسيطر عليه الاتحاد الأوروبي، قد لا تكون فعّالة"، حسبما يقول بارت زيفتشيك، كبير الباحثين في صندوق مارشال الألماني، العضو السابق في إدارة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية، الذي يرى أن "الفكرة مبنية على أن الهياكل العسكرية الفيدرالية للاتحاد الأوروبي ستضمن قدراً أكبر من الأمان لأوروبا بينما يشير الواقع إلى غير ذلك".
ولفت زيفتشيك إلى "التناقض الحاد بين التصريحات الضخمة والمخرجات الضئيلة المتعلقة بالاستراتيجية الأمنية الأوروبية، حيث وعدت بالدفاع عن النظام الأمني الأوروبي، لكنها وضعت 5000 جندي فقط تحت الطلب بحلول عام 2025، وهو عدد ضئيل يتجاهل الواقع الجديد للحرب في أوكرانيا على حدود الاتحاد الأوروبي، فقد تبين مع اندلاع الحرب أن أعضاء الاتحاد الأوروبي سيستمرون في الاعتماد على الالتزام الدائم للولايات المتحدة وبريطانيا بالأمن في قارتهم، حيث كانت واشنطن ولندن في طليعة الدول التي نشرت قوات إضافية لتأمين الجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي، وتزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية تشتد الحاجة إليها، وجمع معلومات استخبارية عن الحكومة الروسية وعملياتها العسكرية". وأضاف "في الوقت نفسه، يبدو الاتحاد الأوروبي عديم الخبرة ويعمل في أغراض متقاطعة، بل ويقوّض حلف الناتو أحياناً، حيث يعمل الحلفاء داخله كفريق واحد في أنماط راسخة من التعاون، ولهذا سيظل الناتو هو المزود الأمني والملاذ الأول لأوروبا، بينما تبقى أي خطة أخرى هي تفكير بالتمني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مركزية غير فعالة
وعبّر المسؤول الأميركي السابق في مقال نشرته "فورين بوليسي" عن اعتقاده بأن "أمن أوروبا سيعتمد على قرارات الحكومات الوطنية في أوروبا، وليس هيئات الاتحاد الأوروبي الفيدرالية، مثلما حدث عقب غزو روسيا لأوكرانيا وقرار ألمانيا زيادة تمويلها الدفاعي، وقرارات 22 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي توفير الأسلحة لأوكرانيا. وحتى مع تعهد المفوضية الأوروبية تزويد أوكرانيا بنحو 550 مليون دولار من المساعدات العسكرية، فإن عمليات التسليم الفعلية ستكون من المخزونات الوطنية للدول بناءً على خيارات كل حكومة، كما أن القرار النهائي للتضحية بأرواح الجنود في الحرب لا يمكن أن يُتخذ إلا من قبل حكومة مسؤولة أمام شعبها".
وقد يكون من غير المنطقي الاعتقاد بأن السياسة الدفاعية الفيدرالية للاتحاد الأوروبي ستكون أفضل في زيادة الانفاق أو تجميع الموارد أو تحسين المشتريات من الطريقة الحالية، فقد وسعت أوروبا إنفاقها الدفاعي ثلاثة أضعاف خلال الحرب الباردة من دون أي مركزية في اتخاذ القرارات، وزادت الدول الأوروبية الإنفاق الدفاعي عندما لاحظت وجود تهديد أمني، ليس لأن الاتحاد الأوروبي لديه سياسة دفاعية مركزية مشتركة، ولكن بسبب وجود حرب ساخنة في أوروبا.
في الواقع، ولا يجب تجاهل فشل المحاولة السابقة الجادة الوحيدة لإضفاء الطابع الفيدرالي على سياسة الدفاع الأوروبية عبر معاهدة باريس في عام 1952، التي أسست مجتمع الدفاع الأوروبي، وذلك بعدما تراجعت فرنسا، وصوتت ضد الاتفاقية التي اقترحتها في البداية.
ومن المفارقات، أن محاولات فرض الفيدرالية على السياسة الدفاعية على مدى العقود الثلاثة الماضية ربما سرعت من انخفاض الإنفاق الدفاعي الأوروبي، حيث شعرت الحكومات الوطنية أن بإمكانها نقل المسؤولية إلى الاتحاد الأوروبي الذي كان يروّج لفكرة أن الدفاع المركزي في الاتحاد الأوروبي سيوفر التكاليف، بينما لم يكن للاعتبارات الاستراتيجية أو زيادة القدرات العسكرية أي دور في النقاش الأمني داخل الاتحاد.
وعلاوةً على ذلك، فإن للمركزية عيوب أخرى، حيث يمكن أن نتوقع اجتماعات عدة لمجلس الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي قبل أن يُسمح باتخاذ قرارات تسليح أوكرانيا، على خلاف ما تم بقرارات وطنية من كل دولة أوروبية، كما أن اتخاذ قرارات بالإجماع، يمكن أن تعرقله حكومات داعمة للكرملين، مثل الحكومة الحالية في المجر.
فعالية الناتو
وفي المقابل، فإن السبب الأساس لاستمرار فعالية الناتو، هو أنه لا يسعى إلى أن تكون سياسة الدفاع مركزية مثلما يأمل الاتحاد الأوروبي أن يفعل مع مؤسساته ومبادراته المختلفة، فالناتو هو مجرد منتدى للتداول والتنسيق، يخضع للقرارات الوطنية لكل دولة وغالباً ما ينجح في جمع تحالفات الراغبين.
وعلى الرغم من أن أوروبا تمتلك القوة الاقتصادية والإمكانيات التكنولوجية لتوليد قدرات دفاعية كبيرة الآن بعد أن اتضحت التهديدات الروسية، إلا أن أوروبا لا تستطيع مواجهة هذا التحدي بمفردها، تماماً كما لا تستطيع الولايات المتحدة التعامل مع التهديدات والتحديات الناشئة عن روسيا والصين بمفردها، فقد بدا جلياً أن أوروبا والولايات المتحدة يحتاجان بعضهما البعض، مع التعاون القائم بالفعل مع عدد من الدول الحليفة الأخرى مثل أستراليا واليابان، وكلاهما من أوائل شركاء الناتو الخارجيين الذين قدموا مساعدات عسكرية لأوكرانيا.
لقد سلطت حرب أوكرانيا الضوء على الأدوار الدائمة للقوى غير التابعة للاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها الولايات المتحدة، كضامن أمني من الدرجة الأولى، كما كشفت الحرب أهمية دور الحكومات الوطنية في الدفاع الجماعي، ولهذا فإن إدراك هذه الحقيقة سيضع الأمن الأوروبي على أسس أسلم بكثير من التفكير السائد في أوروبا حول الاستقلال الدفاعي خلال السنوات الأخيرة.