ملخص
إدراج هذه الحدود في صلب قانون الدفاع الأميركي لا يعبر فقط عن أولوية أمنية طارئة، بل عن تحول بنيوي في كيفية رسم واشنطن لخرائط مكافحة الإرهاب، وهي خرائط لا تقف عند حدود الدول، بل تتحرك مع منطق الأخطار المتنقلة، وتعيد تعريف الشراكات وأدوات التدخل، وحدود السيادة نفسها.
فتح الكونغرس الأميركي نافذة جديدة ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني للعام المالي 2026 (NDAA)، مانحاً وزارة الدفاع صلاحيات موسعة للتدخل المباشر في عمليات مكافحة الإرهاب. وفي هذا الإطار، تبرز الحدود السودانية - المصرية في قلب مقاربة واشنطن لمواجهة الإرهاب العابر للحدود، إذ وضعت هذه المنطقة ضمن الحسابات الأمنية الإقليمية. وهذا التعديل الذي أدرج ضمن المادة 1225 ويضيف نصاً مباشراً إلى المادة 1226 من القانون، يتجاوز كونه توسعة إجرائية محدودة، باعتباره إعادة تعريف لنطاق التدخل الأمني الأميركي في مناطق كانت تدار سابقاً عبر قنوات غير مباشرة أو ترتيبات إقليمية فضفاضة.
وتعد هذه المادة الإطار التشريعي الذي يحدد أنواع الدعم الذي يمكن لوزارة الدفاع الأميركية تقديمه في سياق مكافحة الإرهاب، ويأتي التعديل المقترح ليدرج بنداً جديداً يجيز صراحة لـ"البنتاغون" تقديم دعم مباشر لعمليات مكافحة الإرهاب على طول حدود مصر مع السودان.
ومن الناحية الفنية، يعني ذلك توسيع التفويض القانوني ليشمل ليس فقط التدريب أو تبادل المعلومات، بل أيضاً الإسناد اللوجستي والاستخباراتي وربما العملياتي، وفق ما يحدده وزير الدفاع وبالتنسيق مع الشركاء المعنيين.
وعلى رغم أن المادة 1226 صممت أصلاً لتعزيز الشراكات الأمنية مع دول محددة في الشرق الأوسط، فإن التعديل المقترح يوسع نطاقها الجغرافي والوظيفي، بإضافة نص جديد يمنح وزارة الدفاع صلاحية تقديم دعم مباشر لمصر على طول حدودها المشتركة مع السودان. وإجرائياً، يفتح هذا التوسيع الباب أمام إدراج الحدود السودانية - المصرية ضمن مسار تمويل وتخطيط وتنفيذ يخضع للآليات الأميركية الخاصة بمكافحة الإرهاب، بدلاً من الاكتفاء بالدعم السياسي أو التنسيقي.
وتكمن أهمية هذا التعديل في أنه ينقل الحدود من فضاء سيادي حساس إلى مسرح اهتمام تشريعي أميركي مباشر، تعرف فيه التهديدات بوصفها عابرة للدول، وتتجاوز قدرة المعالجات المحلية المنفردة، ويعكس كذلك تحولاً داخل الكونغرس تجاه هشاشة الأوضاع الأمنية في السودان، وتداخلها مع الجغرافيا المصرية، مما يخلق فراغات يمكن أن تتحول إلى ممرات تهديد إقليمي ودولي.
أولوية أمنية
إدراج هذه الحدود في صلب قانون الدفاع الأميركي لا يعبر فقط عن أولوية أمنية طارئة، بل عن تحول بنيوي في كيفية رسم واشنطن لخرائط مكافحة الإرهاب، وهي خرائط لا تقف عند حدود الدول، بل تتحرك مع منطق الأخطار المتنقلة، وتعيد تعريف الشراكات وأدوات التدخل، وحدود السيادة نفسها، وتعيد رسم خرائط التدخل الإقليمي وسردية الأمن القومي التي ترتكز عليها واشنطن إزاء القرن الأفريقي. وحوّل القرار الحدود التي كانت ساحة تجاوب حكومي محلي إلى محور لاهتمام استراتيجي أميركي مباشر، مع ما يترتب على ذلك من تبعات سياسية ودبلوماسية وعسكرية.
ويظهر هذا التوسيع ثلاث حقائق أساسية، أولاً الاعتراف الأميركي بأن بيئة الأمن على خط الحدود بين مصر والسودان لم تعُد شأناً إقليمياً محضاً، بل أصبحت مطابقة لمعايير "التهديد العابر للحدود" الذي يتداخل فيه تهريب السلاح والمال ووجود مجموعات إرهابية متنقلة، وأحياناً ممرات لوجستية تخدم أطرافاً خارجية. وثانياً، إسناد دور مباشر لوزارة الدفاع في مسائل الحدود يوسع نطاق التدخل غير القتالي الأميركي من تدريب ودعم لوجستي، وربما مساعدات تقنية تمكن الشركاء الإقليميين من مراقبة الأراضي الصحراوية وإغلاق الفجوات. وثالثاً، ثمة خطر جلل يتمثل في أن هذا النمط من الشراكة الأمنية قد يرسخ اعتماداً عسكرياً تقنياً على شريك أجنبي مقابل إغفال المعالجات السياسية والاقتصادية الجذرية اللازمة لعلاج جذور الانحراف والعنف.
وربما يستدعي هذا القرار فاعلية تكتيكية تقوي قدرات البلدين، خصوصاً السودان، على منع تدفق الأسلحة والمقاتلين، وقراءة استراتيجية تضع واشنطن في قلب تسوية إقليمية تتقاطع فيها مصالح البلدين. ولن تقاس نتيجة ذلك بمؤشرات أمنية آنية، بل بمدى قدرة هذه المبادرة على أن تحول بيئة التنافس إلى حوار سياسي يُقصد به استبدال أنماط الاستغلال المسلح ببنية أمنية حكومية قادرة على إدارة الحدود بوصفها جزءاً من منظومة أمن شاملة، وإلا فقد تصبح أدوات الدعم حلقة في دورة تقوي طرفي النزاع في السودان بوصفهما لاعبين مسلحين على حساب الحلول السياسية والانتقالية التي يحتاج إليها السودان والمنطقة برمتها.
هندسة المصالح
في ظاهر الأمر، يهدف هذا النص إلى تمكين "البنتاغون" من توسيع نطاق شراكاته الأمنية والتعاون العسكري مع القاهرة لمواجهة مجموعات مسلحة أو تهديدات تنظيمية قد تتجاوز قدرة الأجهزة المحلية على احتوائها. لكن ما وراء هذا التوسع في نطاق الدعم يتجلى عن بحث أعمق في هندسة المصالح والتحالفات الإقليمية، ويبدو ذلك في مظاهر عدة.
الأول، إن إدراج حدود تمتد لنحو 1276 كيلومتراً بين دولتين في نص قانون دفاع أميركي يعكس قناعة متنامية لدى صانعي القرار بأن الأمن القومي الأميركي لم يعُد قابلاً للفصل عن استقرار الحدود في أفريقيا وشمال شرقي القارة. لقد أصبحت التهديدات المتنقلة التي تمزج بين المقاتلين غير النظاميين وشبكات التهريب والأنشطة اللوجستية العابرة للحدود، تشكل قلقاً عملياً لدى واشنطن، ليس فقط لإدارة السياسات الخارجية، بل لضمان استقرار الشركاء الإقليميين الذين ترتبط بهم مصالح استراتيجية أطول مدى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والثاني، إن منح وزارة الدفاع هذه الصلاحيات يبرز توجهاً جديداً في تعامل الولايات المتحدة مع المساحات الحدودية الضعيفة، من مجرد مناطق عبور إلى ساحات تشاركية مع شركاء محليين لصياغة نظم أمنية أكثر تكاملاً. ويبدو هذا كتعزيز لمبادرات التدريب والمراقبة، لكن الامتداد إلى الدعم المباشر يفتح الباب أمام تدخلات أكثر فاعلية وربما قدرة على التنفيذ الميداني، مما قد يشمل موارد استخباراتية أو لوجستية أميركية متقدمة.
أما المظهر الثالث، فهو أن هذا التعديل يعد اختباراً لمدى قدرة التشريع الأميركي على الموازنة بين التزامات الأمن القومي وتفاعلاته مع ديناميات داخلية في المنطقة، إذ إن سحق التهديدات العابرة للحدود يبقى مرتبطاً ليس فقط بالأمن التكتيكي، بل بإعادة بناء مؤسسات وإطار سياسي تمكن من معالجة جذور هذه الظواهر نفسها. وبهذا المعنى، يصبح القانون الأميركي معبراً عن طموح استراتيجي يرى في الحدود بين مصر والسودان نقطة ارتكاز جديدة لفهم الأمن العالمي، لا مجرد خط فاصل بين دولتين.
توقيت القرار
وجاء اختيار الحدود السودانية - المصرية، وفق تقاطع دقيق بين الزمن السياسي والمكان الاستراتيجي، فالتوقيت، قبل الجغرافيا، هو مفتاح هذا التحرك، فواشنطن لا تنظر إلى هذه الحدود باعتبارها خطاً فاصلاً بين دولتين، بل باعتبارها مساحة سيولة أمنية تتكثف فيها مؤشرات الانزلاق من نزاع داخلي سوداني إلى بيئة إقليمية مولدة للتهديدات العابرة للحدود.
وأول ما تستشعره واشنطن هو تحول الحرب السودانية من صراع داخلي إلى منظومة فوضى مفتوحة، فمع تآكل مؤسسات الدولة وغياب السيطرة المركزية، تتشكل فراغات لا تبقى محلية بطبيعتها، إذ تتحول سريعاً إلى ممرات للسلاح والمرتزقة والاقتصادات غير المشروعة، وهي أنماط خبرتها الولايات المتحدة في مسارح أخرى، وتعرف أن تجاهلها المبكر يحولها لاحقاً إلى أزمات أمن قومي بعيدة الكلفة.
وتكمن خصوصية الحدود السودانية - المصرية في أنها حدود دولة مستقرة مع دولة منهكة، وهذا التباين يجعل الخط الحدودي نقطة ضغط غير متكافئة، وما يتسرب من الجنوب لا يهدد الأمن المصري وحسب، بل يفرض على واشنطن إعادة حسابات علاقتها مع شريك إقليمي مركزي ترى فيه عنصر توازن إقليمي. وحماية هذه الحدود، من المنظور الأميركي، ليست دفاعاً عن خط جغرافي، بل عن معادلة استقرار أوسع تمتد من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي.
وما تستعد له واشنطن لا يتعلق فقط بتنظيمات مصنفة تقليدياً كـ"إرهابية"، بل بنمط جديد من التهديدات الهجينة مثل مجموعات مسلحة بلا هوية أيديولوجية واضحة، وشبكات تهريب قادرة على التحول إلى منصات تمويل، وفاعلين محليين قد يتحالفون ظرفياً مع أي طرف يوفر لهم الحماية أو الموارد. وهذه البيئة لا تواجه بأدوات ما بعد الـ11 من سبتمبر (أيلول) التقليدية، بل بوجود استباقي يدمج الاستخبارات والدعم اللوجستي وإدارة الشراكات الحدودية.
وأخيراً، فإن توقيت هذا التحرك يعكس إدراكاً أميركياً بأن النافذة الزمنية للمنع تسبق نافذة الاحتواء، إذ إن واشنطن لا تنتظر انفجار تهديد عابر للحدود كي تتدخل، بل تحاول إعادة رسم خطوط الدفاع قبل تشكل الكتلة الحرجة للفوضى. في هذا السياق، تصبح الحدود السودانية - المصرية خط اختبار، إما أن تُدار مبكراً ضمن إطار منضبط، أو تتحول لاحقاً إلى عقدة أمنية إقليمية يصعب تفكيكها. ومن هنا، فإن ما يجري ليس رد فعل، بل إنه استعداد لما لم يحدث بعد.
مستوى التأثير
على مستوى التأثير المباشر، يمنح التعديل وزارة الدفاع الأميركية قدرة قانونية على التحرك في منطقة حدودية كثيراً ما عوملت كمساحة سيادية حساسة، لكن الآن يفتح المجال أمام طبقات متعددة من التدخل الأمني. وفي السياق السوداني، تدرك واشنطن أن الحرب لا تنتج تهديداً آنياً فقط، بل تعيد تشكيل الجغرافيا الأمنية نفسها، حيث تتحول الحدود من خطوط فاصلة إلى شرايين مفتوحة للفوضى، تعبرها الجماعات المسلحة وشبكات التهريب والهجرة غير النظامية.
في المقابل، يشي الاهتمام الأميركي بهذه الحدود بقراءة أوسع لمعادلات الأمن القومي الأميركي في المنطقة، فاستقرار حدود البلدين يرتبط في الحسابات الاستراتيجية بأمن الممرات المائية الحيوية من البحر الأحمر إلى قناة السويس، وبسلامة خطوط التجارة والطاقة التي تشكل شرياناً للاقتصاد العالمي، وأي اضطراب طويل الأمد في هذه الحلقة الجغرافية قد ينعكس على حركة النفط والغاز وعلى سلاسل الإمداد الدولية وعلى أمن إسرائيل الذي ينظر إليه في واشنطن على أنه جزء لا يتجزأ من منظومة الاستقرار الإقليمي. وضبط الفوضى جنوباً من هذا المنظور، إجراء وقائي لحماية توازنات ممتدة عبر البحر الأحمر.
ويعكس هذا الاهتمام كذلك إدراكاً لموقع مصر بوصفها نقطة ارتكاز لا غنى عنها، فهي ليست مجرد دولة متأثرة بتداعيات الحرب السودانية، بل تمثل في الرؤية الأميركية خط دفاع متقدماً ضد انزلاق الإقليم إلى فراغ أمني تتقاطع فيه مصالح قوى منافسة، ودعم قدرتها على تحصين حدودها الجنوبية يقرأ كاستثمار استراتيجي طويل الأمد، لا كاستجابة ظرفية لأخطار آنية.
وعلى مستوى النتائج المتوقعة، من الممكن أن يسهم التعديل في إعادة تعريف الحدود السودانية - المصرية كمجال شراكة أمنية منظمة، بدلاً من كونها منطقة تماس غير منضبطة، غير أن هذا المسار يحمل أخطاره أيضاً، إذ قد يغري بعض الفاعلين المحليين بالتكيف مع إدارة الفوضى بدلاً من إنهائها.
وهنا تحديداً تتجلى معضلة واشنطن، كيف تحصّن الحدود وتحمي مصالحها الحيوية، من دون أن تتحول تلك الحدود إلى مسرح دائم لإدارة الأزمات بدلاً من معالجتها، في مقاربة لا تعِد بحلول سريعة، ولكنها تكشف عن محاولة واعية لرسم خطوط وقاية قبل أن تتحول الفوضى إلى قدر جغرافي لا فكاك منه.