Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"معاداة السامية" جرس إنذار أول لحرب سرية على الديمقراطيات

مرحلة يعاد فيها تعريف العدو الداخلي وتجريد فئة من إنسانيتها السياسية والأخلاقية

امرأة ترفع لافتة رافضة لـ"معاداة السامية" في ساحة البرلمان البريطاني وسط لندن (أ ف ب)

ملخص

لم تعد معاداة السامية في الغرب مجرد ظاهرة عنصرية هامشية أو خللاً أخلاقياً في الخطاب العام، بل المرحلة الأولى من حرب غير معلنة تخاض ضد الدول الديمقراطية من داخلها، فهي لا تظهر كاجتياح عسكري ولا كتمرد مسلح، بل كاختبار بطيء لقدرة المجتمعات على تمييز الخطر قبل انفجاره.

شكل الهجوم الذي استهدف تجمعاً يهودياً قرب شاطئ بوندي في سيدني واحدة من أخطر الحوادث المعادية للسامية التي شهدتها أستراليا، حيث قتل ساجد أكرم وابنه نافيد، وهما من الجنسية الباكستانية، 16 شخصاً أصغرهم فتاة تبلغ 10 سنوات توفيت في مستشفى للأطفال، بينما أكبرهم يبلغ 87 سنة، خلال عملية إطلاق نار جماعي استهدفت احتفالاً يهودياً بعيد الأنوار اليهودي (حانوكا).

ووصفت السلطات الأسترالية الهجوم بأنه عمل إرهابي معاد للسامية لكنها لم تقدم تفاصيل حول خلفية الاعتداء، وفي حين لا تزال الشرطة تحاول تجميع خيوط تحركات المتهمين قبيل الفترة التي سبقت إطلاق النار، أعلن رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي أن أيديولوجية تنظيم "داعش" هي الدافع لهذا الاعتداء الإرهابي، وبأن الرجلين جُندا قبل ارتكاب مذبحة جماعية، مضيفاً "يبدو أن ذلك كان مدفوعاً بأيديولوجية تنظيم 'داعش' التي كانت سائدة لأكثر من عقد والتي أدت إلى أيديولوجية الكراهية هذه، وفي هذه الحال إلى الاستعداد للدخول في القتل الجماعي". وفي حديث سابق قال ألبانيزي إنه "مع صعود 'داعش' ومنذ أكثر من عقد أصبح العالم يعاني التطرف وهذه الأيديولوجية"، مشيراً إلى أن نافيد أكرم (24 سنة) وهو عامل بناء عاطل من العمل، لفت انتباه وكالة الاستخبارات الأسترالية عام 2019 "بسبب صلته بآخرين"، لكن لم يُعد تهديداً وشيكاً وقتها، وزاد "لقد حققوا معه ومع أفراد أسرته، وحققوا مع أشخاص محيطين به لكنه لم يُعتبر في ذلك الوقت شخصاً محل اهتمام".

وكان ألبانيزي نبه أيضاً إلى أن "ما رأيناه بالأمس كان عملاً من أعمال الشر المحض، معادياً للسامية وإرهابياً على شواطئنا في موقع أسترالي أيقوني"، وأن بلاده ستبذل "كل ما هو ضروري للقضاء على معاداة السامية، ولن تخضع أبداً للانقسام أو العنف أو الكراهية، وسنتجاوز هذا معاً، ونرفض أن نسمح لهم بتقسيمنا كأمة"، قائلاً "سنخصص كل مورد مطلوب للاستجابة لهذا الأمر، كان حقاً يوماً مظلماً في تاريخ أمتنا لكننا كأمة أقوى من الجبناء الذين فعلوا ذلك"، معلناً عزم حكومته طرح تشديد قوانين حيازة السلاح على جدول أعمال الاجتماع الوطني للحكومة.

رد فعل نتنياهو

من جهته اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو القادة الدوليين بـ"التقاعس عن مواجهة معاداة السامية"، معتبراً أن "ما حدث في أستراليا أمر بشع وهو قتل بدم بارد وعدد القتلى يزداد"، وأن الحادثة "نتاج توقف القادة عن مواجهة معاداة السامية"، واصفاً ذلك بـ "السرطان الذي ينتشر عندما يصمت القادة ولا يتحركون"، ومضيفاً أنه "قبل أشهر عدة أرسلت رسالة لرئيس الحكومة الاسترالية قلت فيها إن سياسة بلاده تشجع على كراهية اليهود ومعاداه السامية في شوارع أستراليا، وعليكم تغيير هذه السياسة واستبدال الضعف بالقوة، وهذا لم يحدث".

بدوره أصدر الجيش الإسرائيلي إرشادات جديدة لجنوده الموجودين خارج البلاد في أعقاب الهجوم الدامي، وفقاً لقناة 12 الإسرائيلية، التي ذكرت أن مديرية العمليات في الجيش عممت هذه التعليمات "في خطوة تهدف إلى تعزيز وعي الجنود بالأخطار المحتملة أثناء وجودهم خارج إسرائيل"، بينما أكدت مصادر عسكرية في حديثها أن هذه الخطوة لا تعد تشديداً للإجراءات بل تحديثاً وتحسيناً للإرشادات القائمة، مشددة على ضرورة الإبلاغ الفوري للقادة عن أية حادثة غير اعتيادية قد يتعرض لها الجنود.

 

وفي السياق تجري السلطات الإسرائيلية تحقيقاً لمعرفة الجهة المسؤولة عن الهجوم الدامي، وبحسب موقع "واي نت" الإسرائيلي فتعد إيران المشتبه به الرئيس، ومع ذلك يتأكد المسؤولون من احتمال تورط جماعات مسلحة بما في ذلك "حزب الله"، و"حماس" و"جماعة عسكر طيبة الباكستانية" المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، في الهجوم، وقد اتهم مسؤول أمني إسرائيلي إيران بتنفيذ الهجوم مشيراً إلى أن "طهران ووكلاءها كثفوا جهودهم لاستهداف مواقع إسرائيلية ويهودية حول العالم".

تنديدات عالمية وإجماع نادر

قوبل الهجوم بموجة إدانات دولية واسعة عكست حساسية الحدث وخطورته الرمزية، فدانت حكومات غربية الهجوم بوصفه اعتداء على حرية الدين والتعايش، مؤكدة أن معاداة السامية "لا مكان لها في المجتمعات الديمقراطية"، وبدورها عدت إسرائيل أن ما جرى في بوندي دليل إضافي على أن موجة الكراهية ضد اليهود باتت عابرة للحدود، وقال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر "صدمت من هجوم إطلاق النار الذي أسفر عن قتلى والذي وقع لمناسبة عيد الحانوكا في سيدني، وهذه نتائج شيوع معاداة السامية في شوارع أستراليا على مدى العامين الماضيين مع دعوات عولمة الانتفاضة المعادية للسامية والتحريضية التي تجسدت اليوم"، فيما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين "صدمت بالهجوم المأسوي الذي وقع على شاطئ بوندي، وأبعث خالص التعازي لعائلات الضحايا وأحبائهم، وتقف أوروبا مع أستراليا واليهود في كل مكان، متحدين ضد العنف ومعاداة السامية والكراهية".

أما مفوضية الاتحاد الأفريقي فقالت إنها ترفض الإرهاب بجميع أشكاله ولا توجد مبررات لاستهداف المدنيين الأبرياء، مشيرة إلى أن "الهجوم يمس قيم السلام والتسامح والتعايش التي تقوم عليها المجتمعات الإنسانية"، ومحذرة من خطورة تصاعد خطاب الكراهية والعنف والتطرف على السلم المجتمعي والأمن الدولي.

ما بعد حرب غزة

في أغسطس (أب) الماضي شهدت مدن أسترالية عدة مسيرات تضامنية مع غزة، ونقل الإعلام المحلي عن مجموعة "بالستاين أكشن غروب" أن مدناً عدة شهدت واحدة من أكبر التظاهرات الداعمة لفلسطين في البلاد، حيث بلغ عدد المشاركين 290 ألف شخص، ووفقاً للتقارير "فقد شارك عدد هائل من المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في مسيرات عدة داخل مدن أسترالية، في واحدة من أكبر التحركات في تاريخ الحركة"، وبحسب تقديرات المنظمين فقد شارك في التظاهرة 290 ألف شخص من جميع أنحاء البلاد، منهم 100 ألف في سيدني وملبورن، وما يصل إلى 50 ألفاً في بريسبان.

وخلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أي بعد اندلاع حرب غزة، أشارت تقارير إعلامية إلى أن حوادث معاداة السامية والـ "إسلاموفوبيا"، بما في ذلك الاعتداءات العنيفة والمضايقات عبر الإنترنت، ارتفعت داخل الولايات المتحدة منذ اندلاع الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، وأكد استطلاع أوروبي واسع النطاق نُشر في يوليو (تموز) 2024 أن اليهود "أكثر قلقاً من أي وقت مضى في أوروبا" في مواجهة "المد المتصاعد لمعاداة السامية"، بينما يقوض النزاع في الشرق الأوسط الجهود التي يقودها الاتحاد الأوروبي.

 

ووفقاً للتقرير الصادر عن "وكالة الحقوق الأساسية" التابعة للاتحاد الأوروبي ومقرها فيينا فإن 96 في المئة من المستطلعة آراؤهم تعرضوا لمعاداة السامية عبر الإنترنت أو في حياتهم اليومية خلال الأشهر الـ 12 السابقة للاستطلاع، ورأت غالبية ساحقة أن "الوضع تفاقم خلال الأعوام الأخيرة"، بحسب ما كتبت رئيسة الوكالة سيربا راوتيو في مقدم التقرير، استناداً إلى استطلاع أجري "قبل هجمات 'حماس' في أكتوبر 2023 والحرب في غزة".

وأكدت أنه في هذا السياق المتوتر قال 76 في المئة من اليهود إنهم "يخفون هويتهم أحياناً" في أوروبا، وهذا هو الحال خصوصاً في فرنسا حيث يقوم 83 في المئة من اليهود بذلك، وفي تحقيق نشرته قناة "فوكس نيوز" اليوم فقد كشف عن بيانات جديدة وعن ارتفاع صادم بنسبة 893 في المئة من الهجمات المعادية للسامية خلال العقد الماضي، وهو ما يسلط الضوء على نحو 9500 حادثة جرى الإبلاغ عنها عام 2024 وحده.

وبالعودة لحادثة شاطئ بوندي فقد وقعت خلال مناسبة ذات طابع ديني واجتماعي يهودي وفي مكان عام مفتوح، مما يضاعف من وقعها الرمزي والأمني، واتسم الهجوم بعناصر عدة خطرة أولها استهداف مباشر لمدنيين على خلفية دينية، واختيار مكان عام وسياحي لا مؤسسة دينية مغلقة، مما يرفع مستوى التهديد، وهذا ما دفع السلطات الأسترالية إلى التعاطي مع الحادثة فوراً بوصفها هجوماً بدافع الكراهية المعادية للسامية، وفتح تحقيقات أمنية واسعة، ولا يمكن قراءة الحادثة كفعل معزول بل كذروة لمسار تصاعدي من التهديدات والتخريب والاعتداءات التي طاولت الجالية اليهودية منذ اندلاع حرب غزة.

وعلى الصعيد الوطني فإن الحادثة شكلت صدمة وكسرت وهم الأمان لسببين أساسين، أولهما أنها أعادت للواجهة سؤال قدرة الدولة على حماية الأقليات في الفضاء العام، وكسر الاعتقاد السائد بأن أستراليا بمنأى عن العنف الأيديولوجي المرتبط بصراعات الشرق الأوسط، واعتبرت الجالية اليهودية أن الهجوم نقلها من مرحلة القلق إلى مرحلة الخوف الوجودي مع مطالبات بتعزيز الحماية الأمنية ومراجعة الخطاب العام الذي سمح، في رأيه، بتطبيع الكراهية تحت عناوين سياسية.

اشتباه بـ"حرب ظل" داخلية

منذ اندلاع حرب غزة الأخيرة لم تبق تداعيات الصراع محصورة في الشرق الأوسط، ففي أستراليا، وهي الدولة البعيدة جغرافياً من ساحة الحرب، بدأ يتشكل مسار مقلق مع تصاعد غير مسبوق في الهجمات المعادية للسامية ترافق مع انقسام اجتماعي حاد، قبل أن يصل إلى مستوى دفع الحكومة الأسترالية إلى الحديث صراحة عن تدخل خارجي محتمل تقوده إيران.

 

وفي أغسطس الماضي قال رئيس الوزراء الأسترالي إن طهران تقف خلف حريق متعمد استهدف مقهى لويس كونتيننتال المتخصص بتقديم أطعمة حلال لليهود (كوشير) في ضاحية بونداي بسيدني في أكتوبر 2024، مضيفاً أن الاستخبارات خلصت أيضاً إلى أن إيران تقف كذلك خلف حريق متعمد استهدف كنيس أداس إسرائيل في ملبورن في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، معلناً أن أجهزة الاستخبارات توصلت إلى "نتيجة مقلقة للغاية" مفادها أن إيران دبرت هجومين "معاديين للسامية" في ملبورن وسيدني، وهذا ما دفع بالعاصمة كانبرا إلى طرد السفير الإيراني أحمد صادقي مثلما سحبت سفيرها من طهران وعلقت عمليات سفارتها هناك، وأدرجت "الحرس الثوري" الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية، على خلفية اتهامه بتدبير الهجمات التي استهدف المراكز اليهودية.

حين انتقلت حرب غزة إلى الشارع الأسترالي

خلال الأسابيع الأولى التي تلت اندلاع الحرب امتلأت شوارع سيدني وملبورن بمظاهرات حاشدة، وفي الظاهر كانت هذه التحركات تعبيراً عن الغضب من الحرب في غزة، لكن على الأرض بدأت الحدود بين نقد سياسات إسرائيل واستهداف اليهود كجماعة تتلاشى، وتحدث يهود أستراليون عن مضايقات في أماكن العمل وتهديدات في الشارع وشتائم علنية، أما على منصات التواصل الاجتماعي فقد انتشرت لغة شيطنة جماعية لم تعد تميز بين حكومة إسرائيل ويهود يعيشون كمواطنين أستراليين منذ أجيال، وفي تلك المرحلة قللت السلطات من خطورة المشهد واعتبرته امتداداً لانفعالات سياسية حادة سرعان ما ستنحسر، ولكن الأمر انتقل من الكلام إلى التخريب، وما لم تتوقعه السلطات هو أن عام 2024 سيشهد تحولاً نوعياً في طبيعة الحوادث، فلم يعد الأمر مقتصراً على خطاب كراهية أو شتائم بل بدأت تتوالى حوادث مثل تخريب كُنس يهودية وكتابة شعارات نازية، ومحاولات حرق متعمدة استهدفت مؤسسات دينية وتعليمية، ورسائل تهديد بالقتل وصلت إلى مدارس ومنظمات يهودية، كما ونشرت عناوين ومعلومات شخصية ليهود وناشطين مؤيدين لإسرائيل.

وأظهرت التقارير السنوية للجالية اليهودية أرقاماً قياسية مع ارتفاع لافت في الحوادث العنيفة مقارنة بالأعوام السابقة، وهنا لم يعد ممكناً توصيف ما يجري على أنه حوادث فردية.

إيران في قلب المشهد

أواخر عام 2024 أعلنت الشرطة الفيدرالية الأسترالية إطلاق عملية أمنية خاصة للتحقيق في العنف المعادي للسامية، وتغير الخطاب الرسمي بوضوح ولم يعد الحديث عن توتر اجتماعي بل عن تهديد للأمن الداخلي، ففرضت حماية مشددة على الكُنس والمدارس اليهودية، وبدأت تحقيقات معمقة في شبكات التحريض وبخاصة تلك الناشطة عبر الإنترنت، وبدأ في الكواليس نقاش داخل مؤسسات الدولة وهل ما يحدث هو نتاج غضب محلي فقط أم أن هناك أطرافاً تستثمر هذا الغضب وتدفعه نحو العنف؟ وصولاً إلى الاتهام الأخطر ووقوع إيران في قلب المشهد.

وعلى مدى العام الحالي كسرت الحكومة الأسترالية الخط الأحمر بعد إعلان رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية أن معلومات استخبارية موثوقة تشير إلى ضلوع إيران في توجيه أو التحريض على هجمات معادية للسامية داخل البلاد، ولم يكن الاتهام رمزياً بل انتقل إلى طرد دبلوماسيين إيرانيين مع خفض مستوى العلاقات مع طهران وتصنيف بعض الحوادث ضمن إطار التدخل الخارجي، وبهذا الإعلان انتقل ملف معاداة السامية من خانة الشأن المجتمعي إلى ساحة الصراع الجيوسياسي، ووفق هذا المنطق لم تعد أستراليا تواجه كراهية داخلية فقط بل امتداداً لحرب ظل إقليمية.

لحظة بددت الوهم

جاء الهجوم على الاحتفال اليهودي في شاطئ بوندي ليشكل الذروة الدموية، فاستهداف مدنيين خلال مناسبة دينية أعاد للأذهان سيناريوهات الإرهاب المحلي التي ظن الأستراليون أنها بعيدة منهم، وعلى رغم أن السلطات لم تعلن رابطاً مباشراً بين هذا الهجوم وإيران فقد وقع في سياق مشحون بالاتهامات والتخوفات، مما ضاعف وقع الصدمة داخل المجتمع اليهودي، وبالنسبة إلى كثيرين فقد كانت "عملية بوندي" لحظة انهيار لفكرة أن أستراليا محمية من ارتدادات صراعات الشرق الأوسط، لكن ما شهدته منذ حرب غزة لا يمكن اختزاله بحوادث منفصلة ولا يمكن أيضاً تفسيره بالكامل بنظرية المؤامرة، فالوقائع تشير إلى مسار واضح وغضب سياسي تحول إلى خطاب كراهية، وخطاب كراهية تطور إلى تخريب وعنف، وبعض هذا العنف، وفق الدولة الأسترالية، يحمل بصمات تدخل خارجي، ومن هنا تجد أستراليا نفسها أمام تحد مزدوج يتمثل حماية مواطنيها اليهود من الاستهداف، وفي الوقت نفسه منع تحول الصراع الخارجي إلى حرب هويات داخلية تمزق المجتمع، وهي معركة كما بات واضحاً لن تُحسم أمنياً فقط.

وعليه فإن "حادثة بوندي" ليست مجرد هجوم دموي بل لحظة مفصلية، كشفت عن هشاشة التوازن بين حرية التعبير وحماية الأقليات، وأعادت طرح معاداة السامية كقضية أمن قومي لا مجرد شأن مجتمعي، وأكدت أن حرب غزة وإن كانت بعيدة جغرافياً لكنها باتت تُنتج ارتدادات مباشرة داخل مجتمعات غربية مستقرة.

 

ولكن السؤال الأكثر حساسية والذي عاد للواجهة بقوة ليس فقط لماذا ارتفعت معاداة السامية؟ بل هل نحن أمام حوادث كراهية متفرقة داخل مجتمع غاضب ومنقسم، أم أمام امتداد لصراع إقليمي وحرب ظل وتدخل خارجي باتت تضرب الساحة الأسترالية، خصوصاً بعد اتهامات رسمية متكررة لإيران بالضلوع في بعض الهجمات؟

هناك ثلاث قنوات محلية تُفسر لماذا تتفاقم الظاهرة بعد حرب غزة حتى في دول بعيدة جغرافياً، أولها الاستقطاب وتحويل الصراع الخارجي إلى هوية داخلية، وثانيها الاحتجاجات والخطابات المتضادة التي جعلت الموقف من غزة وإسرائيل علامة انتماء، وثالثها أنه عندما تُختزل السياسة بالهوية تصبح الجاليات، وبخاصة اليهودية، أهدافاً سهلة لردود فعل انتقامية أو شيطنة جماعية.

وبالتوازي مع العنف تفجر صراع آخر أقل دموية لكنه لا يقل خطورة في الجامعات ووسائل الإعلام التي تحولت إلى ساحات جدل حول تعريف معاداة السامية، فاتهمت منظمات يهودية إدارات جامعية بالتساهل مع شعارات تحريضية تحت عنوان حرية التعبير، بينما حذر ناشطون من تسييس التهمة لإسكات أي نقد لإسرائيل، وهذا الانقسام عمق الشرخ الاجتماعي وأظهر أن المعركة لم تعد فقط أمنية بل ثقافية وأخلاقية.

كيف تعمل "حرب الظل" عملياً؟

عندما تتهم دولة أخرى بتوجيه هجمات داخلية فالسيناريو الأكثر شيوعاً ليس عميلاً رسمياً يحمل بطاقة بل نموذج شبكات وسيطة، أي مُحرض ومُمول خارج الحدود ووسطاء من أفراد وشبكات جريمة منظمة ومتعاطفون أو خدمات داخل البلد، أما الأفعال فتتراوح بين فعل منخفض الكلفة وعالي الأثر، أي حريق، وتخريب وتهديدات ونشر عناوين وكشف هويات لترهيب أصحابها، أو استهداف منشآت دينية وتعليمية، ولا تكون الغاية عادة فقط إيذاء الجالية بل إرهاباً رمزياً ورسالة خوف وتفجير انقسام اجتماعي، وتحويل الجالية إلى قضية وطنية مستقطبة، وهذا بدوره سيدفع إلى إحراج الحكومة وإظهارها عاجزة عن حماية مواطنيها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الاتجاه الآخر فيكون عبر جر السياسة الخارجية إلى الداخل، فكلما احتدم الداخل ازدادت كلفة أي موقف خارجي ضد طهران أو غيرها، واللافت أن الحكومة الأسترالية قدمت الاتهام بصيغة استخباراتية، أي أن جزءاً كبيراً من الأدلة قد يبقى غير علني حفاظاً على المصادر، وهذا يخلق تحدياً صحافياً، فكيف تُثبت أو تختبر الفرضية من دون الوصول إلى ملفات سرية؟ وإذاً فالتحقيق لا يقول إن "إيران وراء كل شيء"، بل يقول إن هناك طبقتين، تصعيد اجتماعي ومحلي واسع بعد حرب غزة، وحوادث محددة ترى الدولة أن لها بصمة توجيه خارجي من إيران، في الأقل هجومين وفق تصريحات رسمية.

ماذا يعني ذلك للبعد الإقليمي؟

لا تنفصل القراءة الإقليمية لاتهام إيران عن نمط أوسع تسميه دول كثيرة "العمليات غير المتماثلة"، وبدلاً من مواجهة مباشرة مع الغرب تُفضل طهران، وفق اتهامات غربية متكررة في ملفات أخرى، استخدام ساحات رمادية، أي ضغط سياسي وردع غير مباشر وتوجيه رسائل عبر أهداف رخوة، وفي الحال الأسترالية تحديداً فالاتهام الرسمي يضع مسألة معاداة السامية ضمن إطار الأمن القومي والتدخل الخارجي، وليس فقط ضمن سياسات اندماج أو توتر مجتمع متعدد الثقافات.

أين يقف الحد الفاصل بين نقد إسرائيل ومعاداة السامية؟

هذه عقدة الملف في الغرب كله، فكثر يرفضون الخلط بين نقد سياسات إسرائيل وبين العنصرية ضد اليهود، لكن على الأرض يحدث الانزلاق عبر ثلاث بوابات: التعميم وتحميل اليهود مسؤولية قرارات حكومة، والاستهداف المحلي بمعاقبة جالية أسترالية على حرب تجري في الشرق الأوسط، والرموز النازية وهي ليست خطاباً سياسياً بل تاريخ إبادة، ولهذا اتجهت السلطات إلى مقاربة مزدوجة عبر التشديد على حرية التعبير والاحتجاج من جهة، والتشديد على الجرائم والتحريض والتهديد والعنف من جهة أخرى، بما في ذلك عمل وطني مشترك واجتماعات أو المجلس الوطني حول الملف.

المرحلة الأولى من الحرب غير المعلنة على الديمقراطيات

لم تعد معاداة السامية في الغرب مجرد ظاهرة عنصرية هامشية أو خللاً أخلاقياً في الخطاب العام بل باتت المرحلة الأولى من حرب غير معلنة تخاض ضد الدول الديمقراطية من داخلها، فهي لا تظهر كاجتياح عسكري ولا كتمرد مسلح بل كاختبار بطيء لقدرة المجتمعات على تمييز الخطر قبل انفجاره، وفي هذا السياق لا تكمن المشكلة الأساس في الكلمات أو الشعارات أو حتى في الخطاب المتطرف بحد ذاته، بل في النيات الكامنة خلفه، فمعاداة السامية غالباً ما تكون المؤشر الأول على انتقال العنف من الهامش إلى المركز ومن الخطاب إلى الفعل، لأنها تختبر حدود التساهل الديمقراطي وتستغل حساسية الغرب تجاه حرية التعبير وحقوق الأقليات.

إن الخطر في هذه المرحلة أنها تعمل كأداة تخدير للرأي العام، فيُختزل النقاش في سجالات لغوية وأكاديمية، فما هو النقد؟ وما هو التحريض؟ وأين تنتهي حرية التعبير؟ فيما يجري تجاهل البنية الأعمق للمسألة، أي تشكل بيئة حاضنة لعنف مؤجل، وهكذا تتحول الديمقراطية نفسها إلى مظلة حماية لخصومها، لا لأنها ضعيفة بل لأنها تفترض حسن النية في لحظة تاريخية لم تعد فيها النيات بريئة.

تاريخياً لم تكن معاداة السامية يوماً النهاية بل البداية، فهي المرحلة التي يُعاد فيها تعريف العدو الداخلي وتجريد فئة من إنسانيتها السياسية والأخلاقية تمهيداً لتوسيع الدائرة لاحقاً، ولذلك فإن التساهل معها لا يعني فقط خذلان جماعة بعينها بل فتح الباب أمام احتلال بطيء وقاتل للمجال العام، أي احتلال للخطاب ثم للمؤسسات ثم للأمن، والخطأ الغربي اليوم ليس في رفضه للعنصرية فذلك مبدأ راسخ، بل في عجزه عن التعامل مع الإرهاب غير المعلن، ذاك الذي لا يرفع رايات واضحة ولا يعلن حرباً صريحة، بل يتسلل عبر قضايا عادلة ظاهرياً ويستثمر في المظلومية ويؤجل لحظة الانفجار إلى أن تصبح كلفة المواجهة أعلى من قدرة الدولة على الاحتواء، وحين تنفجر هذه النيات يكون الوقت قد فات على المعالجة الوقائية، ويُستعاد المشهد ذاته صدمة وإدانات ولجان تحقيق ثم العودة لنقطة الصفر، في حين أن القراءة الباكرة لمعادات السامية بوصفها جرس إنذار إستراتيجي لا مجرد خلل أخلاقي، قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الديمقراطيات من حرب لم تُعلن لكنها بدأت فعلياً.

ما يجري في أستراليا بعد حرب غزة ليس مجرد سلسلة حوادث كراهية معزولة ولا يمكن اختزاله أيضاً في نظرية "مؤامرة خارجية" تفسر كل شيء، ولكن الأقرب للواقع هو نموذج مزدوج ومناخ داخلي ملتهب ينتج جرائم كراهية وعنفاً متزايداً ضد اليهود، وطبقة عمليات محددة تقول الدولة الأسترالية، استناداً إلى معلومات استخبارية، إن إيران وجهت بعضها عبر وسطاء، مما ينقل الملف من خانة "توتر مجتمعي" إلى خانة "حرب ظل وتدخل خارجي"، وفي الحالين فالنتيجة واحدة، جالية كاملة تُدفع إلى العيش تحت منطق الأمن الدائم، ودولة تُختبر قدرتها على حماية مواطنيها من دون خنق الفضاء الديمقراطي أو تحويل الصراع الخارجي إلى حرب أهلية ثقافية في الداخل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل