Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مادلين أولبرايت تخلع إكسسواراتها للأبد

محطات من حياة الطفلة اللاجئة التي أصبحت أول وزيرة خارجية في الولايات المتحدة

مادلين أولبرايت في إحدى المناسبات الرسمية إبان عملها في الحكومة الأميركية (غيتي)

لم تكن حياة الوزيرة الراحلة مادلين أولبرايت استثنائية لأنها أول امرأة تقود جهاز الخارجية الأميركية فقط، فالسيدة التي اخترقت عالماً رجولياً آنذاك، وتدرجت في مناصب الجناح الغربي في البيت الأبيض، حتى وصلت إلى تلك المكانة الدبلوماسية الرفيعة، هي أيضاً الطفلة اللاجئة التي وصلت إلى الولايات المتحدة في سن الحادية عشرة.

أولبرايت التي توفيت، الأربعاء 23 مارس (آذار) عن 84 عاماً، غادرت أوروبا وهي على شفا الحرب العالمية الثانية، ووصلت مع عائلتها إلى الولايات المتحدة بعد رحلة استغرقت عشر سنوات، وتخللتها محاولتا فرار من بطش القوات النازية، الأولى إلى لندن بعدما غزا النازيون تشيكوسلوفاكيا في 1939، والثانية أعقبت عودة أسرتها إلى الوطن بعد الحرب عندما أطاح الشيوعيون التشيكيون بدعم الاتحاد السوفياتي بحكومة تشيكوسلوفاكيا في عام 1948.

في ذلك العام، لم يكن أمام أولبرايت ابنة براغ من خيار عدا الفرار إلى الولايات المتحدة، حيث استقرت وعائلتها في مدينة دنفر بولاية كولورادو، وغيرت اسمها من ماري جين مادلينكا كوربيل إلى مادلين أولبرايت، لتخطّ بعد "أمركة" اسمها، سجلاً حافلاً بالتحديات والإنجاز، توّجته بتسنمها في عام 1996 وزارة الخارجية الأميركية كأول امرأة تتبوأ هذا المنصب.

الحصول على الجنسية

تذكر أولبرايت أن أول من هنأها بعد تعيينها وزيرة للخارجية في إدارة الرئيس بيل كلينتون، هو الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر، الذي أشار إلى كونه أول وزير خارجية من أصول مهاجرة قائلاً لها، "لقد أخذتي مني صفتي المميزة الوحيدة"، إلا أن أولبرايت ردت بأنها "لا تملك لكنة"، مشيرة إلى اللهجة الألمانية التي لم تفارق إنجليزية كيسنجر.

ومع ذلك، فإن مادلين الفصيحة لم تحصل على الجنسية الأميركية إلا في 1957، تحديداً في الفترة ما بين سنتها الثانية والثالثة أثناء دراستها العلوم السياسية في كلية ويلزلي، حيث انضمت إلى الحزب الديمقراطي، والتقت زوجها المستقبلي جوزيف أولبرايت المنحدر من أسرة ثرية ومعروفة في عالم النشر.

الانخراط في السياسة

حين سألها رئيس تحرير الصحيفة التي يعمل بها زوجها عن المهنة التي ستعمل بها، قالت أولبرايت إنها تريد أن تكون صحافية، فقال لها، "لا أعتقد أن ذلك ممكناً" إذ لا يمكن أن يعمل زوجان في نفس الصحيفة وفق قوانين العمل. وحطم مسؤول التحرير آمالها في الوظيفة الصحافية حين أردف وقال، "أنتِ لا تريدين منافسة زوجك من خلال صحيفة أخرى... اذهبي وجدي لك حياة أخرى". ولم تكن هناك إلا ثلاث صحف في شيكاغو آنذاك.

 

عملت أولبرايت لفترة كمحررة صور في موسوعة "بريتانيكا" قبل أن تقتحم غمار السياسة، وتتدرج في الحزب الديمقراطي، حتى أصبحت مستشارة للرئيس جيمي كارتر ومستشارة للسياسة الخارجية لثلاثة مرشحين للرئاسة آخرهم بيل كلينتون في عام 1992. ولم تكن معروفة حتى دخل بيل كلينتون البيت الأبيض وعينها مندوبة إلى الأمم المتحدة.

وخلال السنوات الأربع في الأمم المتحدة، اختلفت كثيراً مع أمينها العام بطرس غالي حيال عمليات حفظ السلام في الصومال ورواندا والحرب الأهلية البوسنية، وقد أيد كلينتون العمليات الإنسانية، قبل أن يسحب دعم الولايات المتحدة لمهام الأمم المتحدة تلك لما ينطوي عليها من مخاطر سياسية، وذلك بعد مقتل 18 جندياً أميركياً على يد عشائر صومالية، على خلفية التدخل الأميركي لإطعام ضحايا الحرب الأهلية ضمن عمليات السلام الأممية.

وعندما امتنعت الولايات المتحدة مثل معظم الدول الأعضاء الأخرى عن مساعدة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لمواجهة الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994 التي راح ضحيتها قرابة مليون شخص، ألقت أولبرايت اللوم على بطرس غالي، لكن الأخير قال، إنه حاول مقابلة كلينتون للحصول على دعمه، ولكن طلبه رُفض.

وبعد سنوات، اعتذر كلينتون عن تقاعس إدارته في رواندا، في حين عبرت أولبرايت في مذكراتها المنشورة عام 2003، عن حزنها وندمها الشديدين حيال هذا الجزء من خدمتها العامة، المتمثل في "فشل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في التحرك بسرعة لوقف هذه الجرائم"، على حد تعبيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وامتد إحباط بطرس غالي بسبب مواقف الولايات المتحدة في الأمم المتحدة خلال فترة أولبرايت ليشمل رفض الإدارة الأميركية دعم الجهود الأممية الميدانية لحل الحرب الأهلية في البوسنة، التي أدت إلى مقتل الآلاف من المسلمين والأقليات الأخرى.

وفي عام 1996، حين صوت مجلس الأمن بأغلبية ساحقة على منح بطرس غالي ولاية ثانية، استخدمت أولبرايت التي كانت في أواخر ولايتها كمندوبة للولايات المتحدة، حق النقض ضد القرار. ووصف غالي الموقف الأميركي بأنه انتهاك لنزاهته، وقال، إنه عُزل من منصبه من قبل الرئيس كلينتون لتحقيق مكاسب سياسية في عام الانتخابات.

هرم الخارجية الأميركية

وبعد أيام من بدء ولايته الثانية، رشح كلينتون أولبرايت كوزيرة للخارجية خلفاً لوارن كريستوفر. وتستذكر الوزيرة الراحلة ذكريات ما قبل تعيينها، ولحظات الانتظار، وأحاديث المنافسة، وحظوظ المرشحين المحتملين قائلة، إنها شكّكت في إمكانية تعيينها بعد أن أثار أحدهم أن القادة العرب لن يتعاملوا مع امرأة، إلا أن تلك المخاوف تبددت بعدما اجتمع السفراء العرب لدى الأمم المتحدة، وفق أولبرايت، وأكدوا أنهم مستعدون للتعامل معها في حال ترشيحها.

وبعد أن أقرَّ مجلس الشيوخ ترشيحها بالإجماع، سرعان ما أجرت أولبرايت أول رحلة رسمية لها داخل البلاد لا خارجها بخلاف المعتاد بالنسبة لوزيرة خارجية. وتحدثت الدبلوماسية الراحلة من جامعة رايس في تكساس عن عزمها على تقريب السياسة الخارجية إلى الشعب الأميركي، حتى تكون سياسات البلاد الخارجية مفهومة ومدعومة في الداخل.

 

ثم بدأت الوزيرة المتمكنة من أربع لغات جولة مكوكية حول أوروبا وآسيا، وتنقلت ما بين روما، وباريس، ولندن، وبروكسل، وبون، وموسكو، إضافة إلى طوكيو وسيول وبكين، في جولة وصفتها "نيويورك تايمز" بأنها أسهمت في إظهار فهم أولبرايت للقضايا ومهاراتها اللغوية، ومكانتها بصفتها السيدة التي تقود سياسة كلينتون الخارجية.

وخلال سنواتها الأربع كوزيرة للخارجية، قادت أولبرايت سياسة كلينتون خلال ولايته الثانية، وواجهت ملفات منها النزاعات الإقليمية في البوسنة والهرسك وكوسوفو وهايتي وإيرلندا الشمالية والشرق الأوسط، ودعمت توسع الناتو إلى دول الكتلة السوفياتية السابقة في أوروبا الشرقية، كما دافعت عن استمرار العقوبات الاقتصادية ضد العراق.

التدخل في كوسوفو

لاحق الفشل الذريع في إيقاف مجازر البوسنة أولبرايت، لكنه أسهم في دفعها الرئيس كلينتون إلى التدخل لاحقاً في كوسوفو في عام 1999، لتجنب إبادة جماعية بحق الأقلية المسلمة على يد الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي حاول إقامة دولة منفصلة عبر إخراج السكان المدنيين من غير الصرب، قبل أن تقود الولايات المتحدة تحالفاً لمنعه.

لكن الوزيرة الراحلة تعرضت لانتقادات شديدة في واشنطن إثر التدخل الأميركي والضربات الجوية التي نفذها حلف شمال الأطلسي "الناتو"، واستذكرت في عام 2016 تلك الانتقادات، مستشهدة بتسمية العمليات الأميركية بـ"حرب أولبرايت" وما تضمنته تلك العبارة من إيحاء سلبي.

ومع ذلك، دافعت عن موقفها وقالت، "حين تذهب إلى كوسوفو الآن ستجد جيلاً من الصغيرات، أسمائهن مادلين امتناناً لما قامت به الولايات المتحدة".

العراق والشرق الأوسط

لكن الامتنان الذي تحظى به أولبرايت في كوسوفو، إضافة إلى تمثال لها في إحدى مدنها يقابله سخط شعبي تجاه سياستها في الشرق الأوسط، وتحديداً العراق، إذ لا تزال مقابلتها التي بررت فيها مقتل نصف مليون طفل عراقي، قائلةً، إنه "ثمن يستحق دفعه" خالدة في ذاكرة الحروب المرئية عربياً وعالمياً، رغم أنها اعتذرت وأعربت عن ندمها واصفة ذلك التصريح بـ"أغبى شيء قالته".

الأزمة بين الولايات المتحدة والعراق نشأت في أواخر عام 1997 وأوائل عام 1998، بعد أن منع الرئيس العراقي صدام حسين وصول مفتشي الأمم المتحدة إلى المواقع التي يُعتقد أن أسلحة الدمار الشامل العراقية الكيماوية والبيولوجية كانت مخبأة فيها، مما يعد انتهاكاً للقرار الصادر من مجلس الأمن في نهاية حرب الخليج عام 1991.

وبعد أشهر من التحذيرات والتعزيزات العسكرية الأميركية في المنطقة، هددت أولبرايت بشن هجمات جوية مدمرة على العراق ما لم يُعَد فتح المواقع للتفتيش. وقالت الوزيرة الراحلة في تحذير علني لصدام حسين، "العراق أمامه خيار بسيط، "غير المسار أو واجه العواقب".

"دبلوماسية الإكسسوارات"

ومن وحي التجاذبات مع صدام وُلد ما يمكن تسميته "دبلوماسية الإكسسوارات"، إذ تذكر أولبرايت التي اشتهرت بحبها للمجوهرات، بأنه بعد القصيدة العراقية التي وُصفت فيها بـ"الحية الغادرة" تعمدت لبس مشبك صدر على شكل أفعى في لقاء مع مسؤولين عراقيين، ومن ثم درجت على استخدام إكسسواراتها لإرسال رسائل دبلوماسية لنظرائها.

 

وقالت الدبلوماسية الراحلة، إنها منذ ذلك اليوم أصبحت "ترتدي إكسسوارات على شكل زهور وفراشات من أجل الأوقات الجيدة، وتخصص أخرى على شكل أفاعٍ وحشرات وديناصورات للأوقات السيئة"، ومن هذه الحالات، ارتداؤها دبوساً على شكل حشرة ضخمة في أثناء اجتماع مع نظيرها الروسي، بعيد كشف "محاولات روسية" للتنصت على مبنى وزارة الخارجية الأميركية.

اكتشاف متأخر لجذورها

المثير في حياة أولبرايت أنها لم تكتشف يقيناً أو تقبل الأدلة التي كانت تصلها حول خلفيتها العرقية والدينية إلا بعد أن أصبحت وزيرة للخارجية، حين تأكدت من أن عائلتها يهودية وأن والديها قد اعتنقا حيطة الكاثوليكية الرومانية خلال الحرب العالمية الثانية، وقاما بتربية أطفالهما كمسيحيين من دون إخبارهم بتراثهم اليهودي، وتقول أولبرايت إنها اكتشفت لاحقاً أن 26 من أفراد أسرتها من بينهم ثلاثة أجداد كانوا من ضحايا الهولوكوست.

المزيد من تقارير