Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا لو رجحت كفة روسيا في أوكرانيا؟

من شأن دورانها في فلك الكرملين أن يغير وجه أوروبا

تظاهرة تضامن في برلين مع الأوكرانيين (أ ب)

تلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها صدمة حين بدأت روسيا مشاركتها في الحرب الأهلية المتواصلة في سوريا، في صيف عام 2015. وبدافع الإحباط، ادعى الرئيس باراك أوباما أن سوريا ستصبح "مستنقع" روسيا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إن سوريا ستصبح نظير فيتنام روسيا أو أفغانستان بوتين، وهو خطأ فادح سيرتد في نهاية الأمر ضد المصالح الروسية.

لم ينته مآل الأمور في سوريا إلى نهاية تعتبر بمثابة المستنقع بالنسبة لبوتين. ولقد غيرت روسيا مسار الحرب، فأنقذت الرئيس السوري بشار الأسد من هزيمة وشيكة، ثم حولت القوة العسكرية إلى نفوذ دبلوماسي. وأبقت التكاليف والخسائر البشرية في مستوى قابل للاستمرار. والآن لم يعد ممكناً تجاهل روسيا في سوريا. لم تكن هناك تسوية دبلوماسية. وبدلاً من ذلك، فقد اكتسبت روسيا قدرة على التأثير في رقعة إقليمية أوسع، من إسرائيل إلى ليبيا، كما استبقت شريكاً مخلصاً لها هو الأسد في مكانه من أجل عرض قوة روسيا. وفي سوريا، كان احتمال نجاح التدخل الروسي هو ما أخفقت إدارة أوباما في توقعه.

وها هي الولايات المتحدة وأوروبا تفكران من جديد في ظروف هذا الشتاء الذي يعصى الخيال والتوقع بين 2021 و 2022، في [إمكانية حصول] تدخل روسي كبير في أوروبا نفسها هذه المرة. وها هم المحللون الكثيرون يحذرون من جديد أيضاً من العواقب الوخيمة التي ستكون من نصيب المعتدي. وفي 11 شباط، تكهن جيمس كليفرلي، وهو وزير دولة بريطاني، بأن حرباً واسعة في أوكرانيا "ستكون بمثابة مستنقع" بالنسبة لروسيا. وهناك ما يشبه الإجماع عموماً بأن تحليلاً منطقياً للتكلفة والفوائد يدل على أن حرباً شاملة في أوكرانيا ستكلف الكرملين ثمناً باهظاً جداً وستتمخض عن إراقة الكثير من الدماء. وقدرت الولايات المتحدة أن من الممكن سقوط ما يصل إلى 50 ألفاً من الضحايا بين المدنيين. وإلى جانب تقويض الدعم الذي يتمتع به بوتين في أوساط النخب الروسية، ممن سيعانون شخصياً من التوترات التي ستحصل مع أوروبا، يمكن للحرب أن تعرّض اقتصاد روسيا إلى الخطر ويقابلها عامة الروس بالنفور. وفي الوقت نفسه، قد تأتي الحرب بقوات حلف الناتو إلى مواقع قريبة من الحدود الروسية، وتترك روسيا لتقاتل مقاومة أوكرانية على امتداد سنوات لاحقة. وطبقاً لوجهة النظر هذه، فإن روسيا ستقع في فخ كارثة من صنعها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع ذلك، يبدو أن تحليل بوتين للتكلفة والفوائد يستسيغ قلب الستاتيكو الأوروبي الراهن [التوازنات الأوروبية وواقع الحال]. لذا، تبادر القيادة الروسية حالياً إلى المغامرة وتكبد مزيد من المخاطر.

وبعيداً من الصعوبات والتوترات التي يشهدها ميدان السياسة اليومية، فإن بوتين يقوم حالياً بمهمة تاريخية لتعزيز نفوذ روسيا في أوكرانيا (كما فعل أخيراً في كل من بيلاروس وكازاخستان). وبحسب ما تنظر روسيا للأمر، فهي تعتقد أن النصر في أوكرانيا سيكون في متناول يدها تماماً. بالطبع، قد تطيل روسيا ببساطة أمد الأزمة الحالية من دون أن تشن حملة غزو، أو ربما تجد طريقة مستساغة أكثر لكي تفضّ الاشتباك. لكن إذا كانت حسابات الكرملين في محلها، على نحو ما انتهت إليه الأمور في نهاية المطاف بسوريا، فعندها يجب أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا مستعدتين لمواجهة نتيجة مختلفة عن المستنقع المفترض. فماذا لو فازت روسيا؟

إذا استطاعت روسيا أن تسيطر على أوكرانيا أو تمكنت من زعزعة استقرارها على نطاق واسع، فإن مرحلة جديدة ستبدأ بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا. وسيواجه قادة الولايات المتحدة وأوروبا تحدياً مزدوجاً يتمثل في إعادة التفكير في الأمن الأوروبي وأيضاً عدم الانجرار إلى حرب أكبر مع روسيا. وسيتعين على الأطراف كافة أن تفكر في احتمال حصول مواجهة بين الخصوم المدججين بأسلحة نووية. ولن تكون هاتان المسؤوليتان، أي الدفاع بصرامة عن السلام الأوروبي والتفادي بشكل متعقل للتصعيد العسكري مع روسيا، بالضرورة منسجمتين مع بعضهما بعضاً. ويمكن أن تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها أنهم غير مستعدين أبداً لأداء مهمة اضطرارية تتمثل في إنشاء نظام أمني أوروبي جديد نتيجة للأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا.

طرق عدة للفوز

يمكن أن يتخذ الانتصار بالنسبة لروسيا أشكالاً مختلفة. وكما هي الحال في سوريا، لا يقتضي النصر إحراز تسوية مستدامة. ويمكن أن يقتصر على تنصيب حكومة مطيعة في كييف أو على تقسيم البلاد. وقد تؤدي هزيمة القوات المسلحة الأوكرانية والمفاوضات على استسلام أوكرانيا إلى تحويل البلاد إلى دولة فاشلة. وفي مقدور روسيا أيضاً أن تشن هجمات سيبرانية مدمرة وتستخدم أدوات تضليل، يعززها التلويح باللجوء إلى القوة، من أجل شلّ البلاد والتحريض على تغيير النظام. وإذا تحققت أي من هذه النتائج، فإنها ستؤدي عملياً إلى فصل أوكرانيا عن الغرب.

وإذا بلغت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بطرق عسكرية، فإن أوروبا لن تكون بعد هذه الحرب على سابق عهدها. ولن تكون سيادة الولايات المتحدة في أوروبا مقيدة فحسب [لن تكون مطلقة]، بل سيكون أي إحساس بأن بمقدور حلف الناتو والاتحاد الأوروبي أن يضمنا السلام في أوروبا من بنات زمن ولى.

وبدلاً من ذلك، سيتوجب تقليص الأمن في أوروبا ليقتصر على الدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وكل من هو خارج هاتين الدائرتين، سيكون وحيداً، باستثناء فنلندا والسويد. وقد لا يترتب ذلك على قرار إنهاء سياسات التوسيع أو الارتباط؛ بل سيكون ناجماً عن سياسة أمر واقع. وفي ظل ما يعتبر حصاراً روسياً، لن يملك حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي القدرة على تطبيق سياسات طموحة خارج حدودهما.

سيكون كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في حالة حرب اقتصادية دائمة مع روسيا. وسيسعى الغرب إلى فرض عقوبات كاسحة، من المرجح أن تتفاداها روسيا من خلال إجراءات سيبرانية وابتزاز بالطاقة [التلويح بسلاح الطاقة]، نظراً إلى أوجه تفاوت اقتصادي [بين الطرفين المتواجهين]. والأغلب أن تقف الصين إلى جانب روسيا في هذا التراشق الاقتصادي بناء على العين بالعين. وفي هذه الأثناء، ستكون السياسات المحلية في الدول الأوروبية شبيهة بلعبة القرن الحادي والعشرين الكبيرة، حيث ستكون عين روسيا على أي تهاون [تراخي] في الالتزام بحلف الناتو وتبحث عن ثغرات في العلاقات عبر ضفتي الأطلسي. وبواسطة كل ما يتسنى لها من وسائل على أنواعها، ستنتهز روسيا أي فرصة تُتاح لها للتأثير في الرأي العام وفي الانتخابات في الدول الأوروبية. وسيكون لروسيا حضور فوضوي، واقعي في بعض الأحيان، ومتخيل في أحيان أخرى، في كل واحدة من حالات عدم الاستقرار السياسي الأوروبي.

ستتمركز قوات حلف الناتو بشكل دائم على أراضي الدول الشرقية الأعضاء

لن تكون مقارنات الحرب الباردة مفيدة في فهم عالم تصبح فيه أوكرانيا دولة روسية. فقد كانت هناك مجموعة من نقاط التوتر في حدود الحرب الباردة، لكن تم تثبيت الاستقرار فيها بطريقة مقبولة للطرفين في اتفاق هلسنكي النهائي لعام 1975. وخلافاً لذلك فإن هيمنة روسيا على أوكرانيا من شأنها أن تفتح الباب على عدم الاستقرار وغياب الأمن في منطقة واسعة تبدأ في إستونيا لتشمل بولندا فرومانيا وتركيا. وذلك لأن جيران أوكرانيا سينظرون إلى وجود روسيا فيها ما دام قائماً، على أنه استفزازي وغير مقبول وسيشكل أيضاً بالنسبة للبعض منهم، تهديداً أمنياً. وعلى وقع هذا الانعطاف، تبرز الحاجة إلى صوغ النظام [التوازنات] في أوروبا من منظور عسكري في المقام الأول، ما سيؤدي إلى تهميش المؤسسات [الكيانات] غير العسكرية مثل الاتحاد الأوروبي، وهذا سيصب في مصلحة الكرملين باعتبار أن روسيا أقوى في الميادين العسكرية منها في المجالات الاقتصادية.

تملك روسيا أكبر قوات مسلحة تقليدية في أوروبا وهي تبدو على أتم الاستعداد لاستخدامها. إن سياسة الاتحاد الأوروبي الدفاعية، على خلاف تلك التي يتبعها حلف الناتو، بعيدة كل البعد من القدرة على توفير الأمن لأعضائها. وعلى هذا، ستكون الطمأنينة العسكرية ذات أهمية أساسية، خصوصاً لدول الاتحاد الأوروبي الشرقية. ولن تكفي العقوبات والإعلان الخطابي عن نظام عالمي يستند إلى القواعد [مبادئ وقوانين]، للرد على روسيا المصممة على الانتقام.

شرق أوروبا مهدد

في حال انتصار روسيا في أوكرانيا، سيواجه موقف ألمانيا في أوروبا تحديات شديدة. فألمانيا تمثل قوة عسكرية هامشية أسسّت هويتها السياسية في مرحلة ما بعد الحرب الثانية على رفض الصراع العسكري. فحلقة الدول الصديقة التي أحاطت ألمانيا نفسها بها، خصوصاً في الشرق بولندا ودول حوض البلطيق، عرضة لزعزعة موسكو استقرارها. ستلعب فرنسا والمملكة المتحدة أبرز الأدوار في الشؤون الأوروبية وذلك بفضل قواتهما المسلحة القوية نسبياً وتقاليد التدخل العسكري العريقة لدى كل منهما. إلا أن الولايات المتحدة هي الوزن الراجح في أوروبا. وسيعتمد حلف الناتو على دعم أميركا، كما ستفعل أيضاً دول شرق أوروبا القلقة والمعرضة للخطر، ودول المواجهة، الجبهة الأمامية، على طول حدود مترامية الأطراف وغير مستقرة مع روسيا، بما في ذلك بيلاروس والأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا.

 

من المرجح أن يتمركز عدد كبير من قوات حلف الناتو على أراضي الدول الشرقية الأعضاء، بما في ذلك إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا ورومانيا، بصورة دائمة. وسيكون من الصعب رفض طلب كل من فنلندا والسويد للحصول على التزام بموجب المادة 5 وللانضمام إلى حلف الناتو. وفي أوكرانيا، لن تعترف دول الاتحاد الأوروبي والناتو على الإطلاق بالنظام الجديد الذي أرسته موسكو. غير أن هذه الدول ستواجه التحدي ذاته الذي واجهته حين مقاربة بيلاروس، وهو فرض العقوبات من دون معاقبة الشعب نفسه في وقت تقدم فيه الدعم لمن يحتاجونه من غير أن تستطيع الوصول إليهم. وستعمد بعض دول حلف الناتو إلى تقوية التمرد الأوكراني، وسترد روسيا على ذلك بتهديد أعضاء حلف الناتو.

ستكون معضلة أوكرانيا كبيرة للغاية. وسيعمد اللاجئون إلى الفرار في اتجاهات متعددة، ومن المحتمل جداً أن يكونوا بالملايين. وأجزاء القوات المسلحة الأوكرانية التي لم تتعرض للهزيمة بصورة مباشرة ستواصل القتال، وستتردد في هذه المعارك أصداء حرب المقاومة الشعبية التي مزقت هذا الشطر بكامله من أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية والفترة التي تلتها.

إن الحالة الدائمة للتصعيد بين روسيا وأوروبا قد تبقى باردة من منظور عسكري. لكنها على الأرجح ستكون ساخنة على الصعيد العسكري. لم تكن العقوبات التي فرضت على روسيا في عام 2014 مطبقة، علماً أنها كانت متصلة بالدبلوماسية الرسمية (كثيراً ما يشار إليها على أنها عملية "مينسك"، أي أنها تسمى باسم المدينة التي أجريت فيها المفاوضات). لا بل كانت تلك العقوبات قابلة للعكس وأيضاً مشروطة. وفي أعقاب غزو روسي لأوكرانيا، ستُفرض عقوبات جديدة مهمة ودائمة على القطاع المصرفي وعلى نقل التكنولوجيا. وإذ ستدخل حيز التطبيق في أعقاب فشل الدبلوماسية ستطاول هذه العقوبات "أعلى السلم" [رأس الهرم] طبقاً للإدارة الأميركية. وعلى سبيل الاستجابة، ستنتقم روسيا، وهذا احتمال مرجح إلى حد كبير، عبر الفضاء السيبراني وأيضاً من خلال قطاع الطاقة. ستحدّ موسكو من وصول السلع ذات الأهمية الحيوية مثل تيتانيوم، الذي تعتبر روسيا ثاني أكبر مصدّر له في العالم. وستكون حرب الاستنزاف هذه امتحاناً للجانبين. ستحاول روسيا بعنف أن تقنع دولة أو عدداً من الدول الأوروبية بالتراجع عن الصراع الاقتصادي من خلال ربط تخفيف التوتر بالمصالح الخاصة لهذه الدول، بالتالي تقويض الإجماع في الاتحاد الأوروبي والناتو.

إن أهم سمات أوروبا وأقواها هي نفوذها الاقتصادي. أما بالنسبة لروسيا، فأي مصدر لانقسامات محلية وتعطيل في أوروبا أو حلفائها على الضفة الأخرى للأطلسي، يشكل مكسباً ثميناً. وفي هذا المضمار، روسيا استباقية وانتهازية. وإذا ظهر موالون لها على شكل حركة أو مرشح، فسيكون من الممكن تشجيع ذلك المرشح بشكل مباشر أو غير مباشر. وإذا أضعفت نقطة خلل سياسي أو اقتصادي مؤلم من فعالية السياسة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها، فإنها ستكون سلاحاً لجهود الدعاية الروسية والتجسس الروسي.

إن الكثير من هذا يحصل بالفعل. لكن حرباً في أوكرانيا سترفع مستوى التحدي. ستستخدم روسيا عدداً أكبر من الموارد وستتمتع بحرية اختيار الأدوات. وستزيد تدفقات اللاجئين الهائلة التي تصل إلى أوروبا من تعقيد سياسة اللجوء في الاتحاد الأوروبي التي لم تجد الحل حتى الآن وستوفر أرضاً خصبة للشعبويين. وستمثل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في عام 2024 الغاية المنشودة لكل المعارك المعلوماتية والسياسية والسيبرانية. سيعتمد مستقبل أوروبا على هذه الانتخابات. وقد يؤدي انتخاب دونالد ترمب أو مرشح على شاكلته أو من مؤيديه، إلى تدمير العلاقات عبر الأطلسي في ساعة الخطر القصوى في أوروبا، ما يجعل موقع حلف الناتو وضماناته الأمنية بالنسبة لهذه القارة، موضع تساؤل.

تحول الناتو إلى الداخل

بالنسبة للولايات المتحدة، سيخلف انتصار روسي آثاراً عميقة في استراتيجيتها الكبرى في أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط. أولاً، سيستدعي النجاح الروسي في أوكرانيا من واشنطن أن تتخذ من أوروبا محوراً لها. ولن يُسمح بوجود أي غموض بشأن المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو (من نوع الغموض الذي شابها في عهد ترمب). وحده الالتزام القوي من جانب الولايات المتحدة بحماية الأمن الأوروبي سيحول دون تفريق موسكو صفوف الدول الأوروبية. سيكون هذا صعباً في ضوء الأولويات المتنافسة، خصوصاً تلك التي تواجه الولايات المتحدة في علاقات متردية مع الصين. إلا أن المصالح الموجودة على المحك جوهرية. فالولايات المتحدة تملك مصالح تجارية كبيرة للغاية في أوروبا. إن كلاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هو أكبر شريك تجاري واستثماري للآخر، إذ وصلت القيمة الإجمالية لتجارة السلع والخدمات إلى 1.1 تريليون دولار (حوالى 809 ملايين جنيه استرليني) في عام 2019. وإن من شأن أوروبا التي تنعم بالأمن وتعمل بشكل حسن أن تعزّز السياسة الخارجية الأميركية، بما يتعلق بتغير المناخ، وحظر الانتشار [للأسلحة النووية مثلاً]، والصحة العامة على الصعيد العالمي، وحول إدارة التوترات مع الصين وروسيا. أما إذا تزعزع استقرار أوروبا، فستكون الولايات المتحدة عندها وحيدة في العالم أكثر مما مضى.

إن حلف الناتو هو الأداة المنطقية التي يمكن للولايات المتحدة أن توفر لأوروبا عبرها ضمانات أمنية وأن تردع روسيا. وإن حرباً في أوكرانيا من شأنها أن تعيد إحياء الناتو ليس كمشروع لبناء الديمقراطية أو أداة لحملات خارجية كالحرب في أفغانستان، ولكن بوصفه التحالف العسكري الدفاعي الذي لا نظير له والذي تم تصميمه ليكون هكذا. ومع أن الأوروبيين سيطالبون الولايات المتحدة بالتزام عسكري أكبر تجاه أوروبا، فإن غزواً روسياً أوسع لأوكرانيا يجب أن يدفع كل واحدة من الدول الأعضاء في الناتو إلى زيادة إنفاقها الدفاعي. وبالنسبة للأوروبيين، ستكون هذه هي الدعوة الأخيرة من أجل تحسين القدرات الدفاعية لقارتهم، بالتوازي مع الولايات المتحدة، من أجل مساعدة الأخيرة على إدارة المعضلة الروسية – الصينية.

سيتوجب على القوتين النوويتين العظميين أن تبقيا غضبهما تحت السيطرة

يمكن لبكين أن تخدم موسكو، التي هي حالياً في مواجهة دائمة مع الغرب، كظهير اقتصادي داعم وشريك في التصدي للهيمنة الأميركية. وفي أسوأ حالة بالنسبة للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، قد تصبح الصين أكثر جرأة بفضل إصرار روسيا وربما تهدد بالمواجهة في تايوان. لكن ليس هناك ما يضمن بأن التصعيد في أوكرانيا سيفيد العلاقات الصينية- الروسية. وسيتعرض طموح الصين لكي تكون العقدة المركزية للاقتصاد الأوروبي الآسيوي إلى الضرر نتيجة للحرب في أوروبا، وما تسببه الحرب من حالات الاضطراب العنيفة. لن يؤدي انزعاج الصين من روسيا، التي تمضي في مسيرتها بخطى ثابتة، إلى جعل التقارب ممكناً بين بكين وواشنطن، لكنه ربما يجعل من الممكن بدء محادثات جديدة.

إن الصدمة التي سيسببها تحرك عسكري كبير من قبل روسيا ستثير بشكل مشابه تساؤلات في أنقرة. فقد كانت تركيا في ظل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تستمتع بلعبة مناورات الحرب الباردة الموقرة من خلال التلاعب بالقوى العظمى وتأليبها على بعضها بعضاً. مع ذلك، تحافظ تركيا على علاقات مهمة مع أوكرانيا. وكدولة عضو في حلف الناتو، لن تفيد تركيا من عسكرة البحر الأسود وشرق المتوسط. وقد تتمخض الإجراءات الروسية عن زعزعة الاستقرار في مناطق أوسع من شأنها أن تدفع تركيا إلى العودة مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، التي تستطيع بدورها أن تدق إسفيناً بين أنقرة وموسكو. وسيكون هذا جيداً بالنسبة لحلف الناتو، كما سيتمكن من فتح الباب أمام احتمالات أكبر بالنسبة للشراكة الأميركية – التركية في الشرق الأوسط. وبدلاً من أن تكون مصدر الإزعاج، قد تصبح تركيا الحليف الذي يفترض بها أن تكونه.

وهناك نتيجة مريرة لحرب على نطاق أوسع في أوكرانيا وهي أن روسيا والولايات المتحدة سيواجهان بعضهما بعضاً حالياً كعدوين في أوروبا. مع ذلك فهما سيكونان عدوين لا يستطيع كل منهما أن يمضي بعداوته إلى أبعد من حد معين. وعلى الرغم من البعد الشاسع بين نظرتيهما للعالم، ومع أن أيديولوجيتيهما متعارضتان، سيتوجب على القوتين النوويتين الأكثر أهمية في العالم أن تبقيا غضبهما تحت السيطرة وألا تفلتان عقاله. وسيرقى هذا إلى فعل ينطوي على تلاعب معقد بصورة باهرة، إذ ستكون هناك حالة حرب اقتصادية وصراع جيوسياسي في أنحاء القارة الأوروبية، لكن مع ذلك ستكون حالة علاقات لا تسمح للتصعيد بأن يتحول إلى حرب مباشرة. وفي الوقت نفسه، يمكن للمواجهة الأميركية – الروسية أن تتمدد في أسوأ الأحوال لتأخذ شكل حروب بالوكالة في الشرق الأوسط وأفريقيا إذا قررت الولايات المتحدة إعادة تأسيس حضور لها بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان.

وسيكون استمرار التواصل، لا سيما بما يتعلق بالاستقرار الاستراتيجي والأمن السيبراني، أمراً له أهمية حاسمة. واللافت أن تعاون الولايات المتحدة وروسيا بشأن النشاطات السيبرانية الشريرة، يتواصل حتى خلال فترات التوتر الحالية. وستكون الحاجة للحفاظ على اتفاقيات صارمة للحد من الأسلحة أكبر في أعقاب حرب في أوكرانيا ونظام العقوبات الذي يليها.

ليس هناك نصر دائم

وفيما تتكشف فصول الأزمة في أوكرانيا، يجب ألا يستخف الغرب بأهمية روسيا. ولا ينبغي أن يعوّل على الروايات المستوحاة من التمني أكثر مما تستند إلى واقع الحال. إن انتصار روسيا في أوكرانيا ليس نوعاً من قصص الخيال العلمي.

لكن إذا كان الغرب قادراً على القيام بالقليل لمنع غزو روسي عسكري، سيكون بإمكانه أن يؤثر في ما سيحصل بعد ذلك. كثيراً ما تكون بذور المتاعب كامنة تحت قشور النصر العسكري. يمكن لروسيا أن تنزع أحشاء أوكرانيا في ميدان المعركة. ويمكنها أن تحول أوكرانيا إلى دولة فاشلة. لكن لا يمكنها أن تفعل ذلك إلا من خلال شن حرب إجرامية وتدمير حياة دولة أمة [مستقلة] لم تغزُ روسيا على الإطلاق. ستخلُص الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما وأجزاء أخرى من العالم، إلى استنتاجات وقد يدينوا ما فعلته روسيا. وتستطيع الولايات المتحدة وأوروبا أن يجسدوا من خلال تحالفاتهم ودعمهم للشعب الأوكراني، البديل للحروب العدوانية وللنظام الأخلاقي الذي يقوم على فكرة أن القوة تصنع الحق. وقد تتعارض الجهود الروسية التي تنشر الفوضى مع الجهود الغربية الرامية لاستعادة النظام.

ومثلما احتفظت الولايات المتحدة بالممتلكات الدبلوماسية لدول البلطيق الثلاث في واشنطن دي سي، بعدما تم ضمها إلى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، فإن الغرب يمكنه أن يدرج نفسه في خانة الأخلاق والكرامة في هذا الصراع. إن الحروب التي يتحقق النصر فيها، لا يتم الانتصار فيها إلى الأبد. وكثيراً ما تهزم الدول نفسها بيديها مع مرور الوقت من خلال شن الحرب الخاطئة ومن ثم الفوز بها.

*ليانا فيكس هي "زميلة مقيمة" لصندوق مارشال الألماني في واشنطن دي سي

**مايكل كيماج هو بروفيسور في التاريخ في الجامعة الكاثوليكية الأميركية وهو زميل زائر لصندوق مارشال الألماني في واشنطن دي سي. وخدم بين 2014 و 2016 ضمن فريق موظفي تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، حيث كان مكلفاً ملف روسيا / أوكرانيا

مترجم من فورين أفيرز، فبراير (ِشباط) 2022

المزيد من آراء