في كشف جديد نجحت البعثة الأثرية المصرية من منطقة آثار الإسكندرية في الكشف عن بقايا ضاحية سكنية وتجارية تعود إلى العصرين اليوناني والروماني أثناء أعمال الحفائر بمنطقة الشاطبي، شمال البلاد، وتتمثل أهمية الكشف الأثري في إلقائه الضوء على شكل المدن في هذا العصر وطريقة تخطيطها والأنشطة المختلفة التي كانت تتم فيها، سواء صناعية أو تجارية.
الحفائر التي أجريت على مساحة كبيرة تتخطى ثلاثة آلاف متر مربع أسفرت عن هذه الاكتشافات أدت إلى ظهور مجموعة من الشواهد المترابطة التي يمكن من خلالها وضع تصور كامل عن المنطقة أواخر العصر البطلمي وبداية العصر الروماني تعطي صورة تمكن من متابعة تطور وتتابع الطبقات بالموقع للحصول على تخطيط واضح لإحدى الضواحي المجاورة لمدينة الإسكندرية.
ومن المنتظر استكمال أعمال الحفر في منطقة أخرى إلى الشرق من المنطقة الأولى، يتوقع أن تسفر عن مزيد من الاكتشافات، وتتيح بصورة أكبر فهم علاقة هذا الجزء من المدينة بنظيرتها القديمة، ونوعية الأنشطة المقامة فيها، التي كان يعتقد سابقاً أنها قاصرة على الاستخدام الجنائزي في العصر البطلمي، ثم تحولت إلى جزء من المدينة مع أعمال التوسع التي شهدها القرن الرابع الميلادي للمدينة شرقاً.
تقع الضاحية المكتشفة على الطريق المؤدي للمدينة الذي يعد أحد أقدم الشوارع التي ما زالت قيد الاستخدام (طريق الحرية) امتداد الشارع الكانوبي، وهو الطريق الذي يؤدي من البوابة الشرقية للمدينة (بوابة الشمس أو بوابة كانوب، ولاحقاً باب رشيد في العصر الإسلامي) إلى المدينة القديمة التي غرقت في البحر المتوسط، وتقع أطلالها حالياً أمام منطقة أبوقير، وكانت مدينة مصرية منذ العصور الفرعونية تقع عند النهاية الشمالية لفرع النيل الكانوبي المندثر.
أهمية الكشف الأثري
عن أهم ما يميز هذا الكشف الأثري مقارنة باكتشافات مشابهة سابقة يقول إبراهيم مصطفى رئيس البعثة الأثرية لـ"اندبندنت عربية"، "الإسكندرية واحدة من أقدم مدن العالم، واستمر العمران بها حتى عصرنا الحالي، ولذا فالمدينة الحديثة بنيت على أطلال نظيرتها الأقدم، وهكذا خلال فترات زمنية وعصور تاريخية متلاحقة وصولاً إلى العصر البطلمي".
أضاف، "المدينة القديمة شهدت مراحل من التطوير والتوسعة وإعادة التخطيط على فترات متلاحقة إما لأسباب التوسع والتمدد شرقاً وغرباً، أو بسبب حدوث كوارث طبيعية أو لأسباب تاريخية وعقائدية أدت إلى تدمير أجزاء كبيرة من المدينة احتاجت إلى إعادة الإعمار لاحقاً".
يوضح، "لهذه الأسباب فالمدينة القديمة بجميع مراحلها تقبع تحت المنشآت الحديثة، لذا من النادر أن نستطيع من خلال حفائر الإنقاذ أن نحصل على كم كبير من المعلومات أو الشواهد الأثرية المرتبطة بعضها ببعض، ويمكن من خلالها وضع تصور لأي من هذه المناطق في أي فترة من الفترات، وإنما كان الاعتماد على انتظار إزالة مبانٍ مجاورة لاحقاً للإحلال والتجديد لمحاولة استكمال الصورة، كما أن التدخلات الحديثة لأساسات المباني المعاصرة كانت تؤثر بشدة في تتبع الطبقات وعلى الشواهد الأثرية التي يعثر عليها".
تخطيط المدن في العصرين اليوناني الروماني
ربما تعد نقطة القوة في الكشف الأثري الأخير إطلاعه للباحثين والمهتمين على الشكل العام لتخطيط المدن خلال هذه الفترة، وكيف كان شكل الطرق وآليات إمداد الأحياء السكنية بالمياه وشكل نظم الصرف الصحي فيها. يقول مصطفى، "من خلال العثور على بقايا شارع رئيس وأزقة فرعية يتبين أن عملية تخطيط الضواحي المحيطة بالمدينة كانت تتولاها سلطة المدينة القديمة نفسها، فتخطيط الضاحية عبارة عن شارع رئيس وتتعامد عليه أزقة فرعية روعي في إنشائها تجهيز نظام للصرف الصحي يتكون من مصرف عمومي مغطى ومشيد بكتل من الأحجار تصب فيه مصارف فرعية من الشوارع الصغيرة ومن المنشآت المطلة عليها، كما توجد بالوعات لمياه الأمطار، بالإضافة إلى ذلك فقد كان هناك اهتمام بتوفير المياه العذبة وتنظيم عملية الحصول عليها من خلال نظام ضخم من الآبار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يذكر، "روعي أيضاً في تخطيط الضاحية تجهيزها بمنظومة من الصهاريج لتخزين المياه؛ عبارة عن أنفاق بها آبار تصل إليها على مسافات منتظمة، وكانت هذه الصهاريج تغطى بطبقة من الملاط لضمان عدم تسرب المياه منها، وينظفها دورياً متخصصون ينزلون داخلها عن طريق درجات منحوتة في جوانب كل بئر، وكانت تملأ مرتين في العام، الأولى طوال فصل الصيف من خلال المياه السطحية التي تعلو مستوياتها بسبب الفيضان، والأخيرة في الشتاء عن طريق الأمطار ليتم الاعتماد على هذه المياه المخزنة في فصلي الربيع والخريف".
أثينا وديمترا
طبقاً لبيان صحافي صادر عن وزارة الآثار، فإنه "تم الكشف أيضاً عن بقايا مقصورة بها حوض ربما تم تكريسها للمعبودتين (أثينا) و(ديميترا)، حيث عرفتا بــ"ربتي الصيد والصيادين"، وعثر على أجزاء من تماثيل لكل منهما، بالإضافة إلى بقايا حجرة بجانب المقصورة تحتوي على مجموعة من الأفران الصغيرة التي استخدمت في حرق الأضاحي والطهي للقائمين عليها، وبقايا أجران صغيرة لتخزين الحبوب".
وعن دلالة هذا الأمر يشير رئيس البعثة الأثرية، إلى أنه "تم العثور على كميات كبيرة من الأثقال التي كانت تثبت في شباك الصيد لغمرها في المياه وخطاطيف صغيرة كانت تستخدم في صيد الأسماك، بالإضافة إلى أجزاء من تماثيل للمعبودتين (ديميترا) و(أثينا) تشير جميعها إلى وجود أنشطة صناعية مرتبطة بالصيد وتمركز للصيادين بالمنطقة، ومن المعروف أن الصيد هو أولى الحرف التي امتهنها الإنسان القديم منذ العصور الحجرية".
يوضح أن "المعبودتين ارتبطتا أيضاً بالمحاربين، ومن المعروف أن المنطقة الشرقية من الإسكندرية انتشرت بها معسكرات للجنود المرتزقة كما عثر فيها أواخر القرن الثامن عشر على مقابر نقابية عرفت باسم مقابر الجنود المرتزقة، ولهذا السبب أيضاً ظهرت تماثيل الإسكندر والمحاربين الأسطوريين بكثرة في اللقى التي عثر عليها بالموقع، حيث كانت تعتبر تمائم جالبة للنصر وضامنة لسلامة هؤلاء المحاربين في معاركهم".
تماثيل مصرية ويونانية
تابع، "عثر في الموقع على عدد من اللقى الأثرية وعلى تماثيل لمعبودات مصرية ويونانية قديمة مثل (بس) و(حربقراط) و(إيزيس)، بالإضافة إلى المعبودات اليونانية (ديونسيس) و(أفروديت) وتماثيل (التناجرا) وتمائم جالبة للخصوبة"، وعن دلالاتها يقول رئيس البعثة الأثرية، "في العادة تكون اللقى الأعلى في القيمة الفنية كالتماثيل والتمائم هي الأقل في المعثورات بأي موقع أثري، خصوصاً المواقع السكنية، والمميز هنا هو العثور على المئات من رؤوس التماثيل والتمائم والمنمنمات مثل نماذج الأمفورات والأواني النذرية، الأمر الذي دعا في البداية إلى الاعتقاد بالعثور على محال لبيع هذه القطع في المنطقة، ومع استمرار الأعمال تم الكشف عن عدد من قوالب صنع التماثيل والتمائم التي أكدت وجود المحال، بالإضافة إلى وجود ورشة لتنفيذ وصناعة هذه القطع الفريدة، وهو ما يعتبر كنزاً بالنسبة لدارسي تطور الفنون الصغرى في مصر خلال العصرين اليوناني والروماني".
يضيف، "كما عثر على بقايا لتماثيل من الطين النيئ، التي لم تدخل الأفران بعد، ما أكد أن الورشة تقع على بعد أمتار في اتجاه الجنوب من الموقع، كما عثر على أجزاء من تماثيل بها أخطاء أمكن تبينها من خلال تكرار بعض الأشكال، مما يدل على أن الورشة احتوت على مدرسة لتعليم صناعة تماثيل التيراكوتا، وكان أغلب الأعمال الفنية يتركز في نماذج الأواني النذرية التي تستهدف زوار الجبانة الشرقية الراغبين في شراء قرابين لتقديمها إلى ذويهم المتوفيين في مقابرهم على ساحل البحر بالإضافة إلى تماثيل الإسكندر والمحاربين الأسطوريين، التي كانت تستهدف الجنود الذين تمركزوا حول المنطقة بالإضافة إلى تماثيل للمعبودات المختلفة، وكانت تقدم كقرابين في المقابر".