Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما بعد محور المقاومة؟

قوة الطائفية الراسخة في الشرق الأوسط

لوحة إعلانية تُظهر صور القادة العسكريين الشيعة الراحلين حسن نصر الله، وهاشم صفي الدين، وقاسم سليماني، طهران، أكتوبر، 2025 (ماجد أصغري بور/ وكالة أنباء غرب آسيا/ رويترز)

ملخص

تراجع القوة العسكرية لمحور المقاومة لا يعني نهاية الهوية السياسية والدينية الشيعية، إذ لا تزال شبكات الانتماء والذاكرة الطائفية قادرة على إعادة إنتاج النفوذ إذا جرى تهميش الشيعة سياسياً واقتصادياً. ويجعل استبعادهم من مشاريع إعادة الإعمار وبناء الدولة، مع غياب تسوية إقليمية تُشرك إيران، الاستقرار في الشرق الأوسط هشاً وقابلاً للانفجار من جديد.

أصبح من المسلّم به أن الضربات التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة على إيران هذا العام، وتدمير حلفاء طهران وميليشياتها الوكيلة في غزة ولبنان وسوريا، قد كبحت بشكل حاسم نفوذ إيران في الشرق الأوسط. لكن هذا الرأي يسيء فهم طبيعة ما يسمى "محور المقاومة" الإيراني، وقدرة طهران المحتملة على إعادة تشكيله.

فبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، استغلت إيران حالة الفوضى لبناء شبكة أيديولوجية عابرة للحدود تتألف من المجتمعات والحكومات والميليشيات الشيعية، وتمتد من إيران إلى العراق ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية، أو ما أطلق عليه الملك الأردني عبد الله الثاني بقلق اسم "الهلال الشيعي". وبحلول عام 2014، بات المحللون يلاحظون على نحو متكرر أن طهران تسيطر على أربع عواصم عربية، هي بغداد، وبيروت، ودمشق، وصنعاء.

من الناحية العسكرية، بات هذا المحور الآن في حالة يرثى لها. فمهندسوه الإيرانيون يتقدمون في العمر، وشركاؤهم في العالم العربي مُنيوا بخسائر فادحة ومدمرة جراء الضربات الإسرائيلية. وأسهم التقارب الحذر بين إيران والسعودية خلال العامين الماضيين في تعزيز الانطباع بأن المعركة الطائفية في الشرق الأوسط قد انتهت.

ولكن، حتى لو كان الستار يُسدل على محور المقاومة، فإن الهوية السياسية والدينية الشيعية لا تزال صامدة ومتماسكة. فبالرغم من أن شبكة الوكلاء الإيرانية ساعدت طهران في الحفاظ على نفوذ يفوق حجمها في العالم العربي، فإن صمود هذا المحور كان يستند أيضاً إلى القوة الدائمة للإيمان وروابط المجتمع والعلاقات الأسرية. ويبقى ما يخبئه المستقبل للشيعة في المنطقة سؤالاً بالغ الأهمية يلقي بظلاله على الجهود التي تبذلها دول الخليج العربي والولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط بعد الحرب المدمرة بين إسرائيل وحماس. لذا، يتعين على هؤلاء الساعين إلى السلام إيلاء اهتمام أكبر بكثير لإدماج الشيعة في المنطقة، داخل إيران وخارجها، في رؤيتهم للنظام الإقليمي.

في الواقع، إن الخطة الحالية لنزع سلاح حزب الله من دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، فضلاً عن عدم توفير إعادة إعمار المناطق الشيعية اللبنانية المدمرة، أو إيجاد بدائل للخدمات التي كان الشيعة يحصلون عليها من حزب الله، أو منح الشيعة دوراً أكبر في السياسة الوطنية، تُجرِّد الشيعة عملياً من حقوقهم السياسية. وإذا نفذت إسرائيل تهديداتها الأخيرة بغزو لبنان، فسيشكل ذلك تهديداً وجودياً للمجتمع الشيعي في البلاد ويحفزه على المقاومة. ومع تعزيز الحكم السني في سوريا، وممارسة الجيش الأميركي ضغوطاً على الميليشيات الشيعية في العراق، قد يأخذ شعور الشيعة بأنهم محاصرون بُعداً إقليمياً. وإذا جرى تهميش الشيعة في جهود بناء الدولة وفي الدبلوماسية، فمن المرجح أن يعودوا إلى السياسات القائمة على الهوية الطائفية كاستراتيجية للبقاء، مما يُؤجج عدم الاستقرار على نطاق أوسع. ومن دون أن تكون لإيران مصلحة في النظام الجديد، لن يكون من الممكن احتواؤها بنجاح.

رهان محفوف بالمخاطر

على الرغم من أن الشيعة لا يمثلون سوى 15 إلى 20 في المئة من المسلمين حول العالم، فإنهم يشكلون ما يقارب من نصف عدد السكان المسلمين في الشرق الأوسط. ويشكل المسلمون الشيعة غالبية السكان في البحرين وإيران والعراق، ويكادون يشكلون الأغلبية في اليمن؛ كما أنهم أكبر طائفة في لبنان. بيد أن وجه المنطقة خلال القرن العشرين كان سنياً. وقد أثارت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 طيف صعود الشيعة، ومعه المقاومة السنية. وكانت التوترات الطائفية هي الأساس الذي ارتكزت عليه حرب إيران والعراق الضروس بين 1980 و1988، مما رسخ روابط شيعية عابرة للحدود: فأبو مهدي المهندس، الذي أصبح لاحقاً قائد الميليشيات الشيعية في العراق، فر من البلاد خلال تلك الحرب وقاتل إلى جانب نظرائه الإيرانيين ضد صدام حسين.

توسّعت هذه الروابط الشيعية العابرة للحدود على نحو كبير بعد أن أطاحت القوات الأميركية الحكومة العراقية عام 2003، وهو ما أسهم في إحياء الهوية الدينية، مع ازدياد توافد الشيعة إلى المزارات المقدسة في إيران والعراق وسوريا، وكذلك إلى مراكز التعليم الديني الشيعي التاريخية في النجف، جنوب بغداد، وقم، جنوب طهران. وفي الوقت نفسه، برزت قوى سياسية وعسكرية شيعية لملء فراغات السلطة داخل العراق. وفي منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، استعان الحرس الثوري الإيراني بحلفائه العراقيين، مثل أبو مهدي المهندس، ومقاتلي حزب الله اللبنانيين، مثل علي موسى دقدوق وعماد مغنية، لتنظيم المقاتلين الشيعة العراقيين الذين رفضوا نزع سلاحهم والانضمام إلى المرحلة الانتقالية السياسية التي قادتها الولايات المتحدة.

وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي عام 2011، اتسع النفوذ الإيراني والشيعي في العالم العربي أكثر مع اندلاع الحروب الأهلية في سوريا واليمن. كانت صراعات السلطة تلك ذات طابع طائفي لا محالة: فحكام سوريا العلويون لا يرتبطون بالمذهب الشيعي إلا بشكل فضفاض وسطحي، إلا أن التهديد الذي شكله الإسلام السني عليهم حولهم إلى حلفاء وثيقين لكل من إيران وحزب الله. وفي عام 2013، حشدت إيران وحزب الله مقاتلين شيعة من أفغانستان والعراق وباكستان لمساعدة جيش الرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة الإسلاميين السنة، الذين كانوا مدعومين من منافسي إيران الإقليميين السنة. وفي العام التالي، انضم الحرس الثوري الإيراني إلى الميليشيات الشيعية العراقية في شن حرب شاملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يقوده السنة. وقد تولى قائد الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، قيادة تلك الحملة وأصبح حضوره دائماً في ساحات القتال العراقية والسورية. في غضون ذلك، فإن الحوثيين في اليمن، الذين يتبعون المذهب الزيدي، وهو فرع من الشيعة، تحالف مع إيران في مواجهة السنة في اليمن.  

وبدعم من السلطات الدينية الشيعية العليا، والشرائح الشيعية من الطبقة المتوسطة في أماكن مثل بغداد وبيروت، والنخب الشيعية التي خشيت سفك داعش الطائفي للدماء، أصبحت الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية صراعاً شيعياً واسعاً. في يونيو (حزيران) 2014، ومع وصول داعش إلى مشارف بغداد، أصدر المرجع الشيعي الأعلى في العراق، آية الله العظمى علي السيستاني، الذي لطالما عارض مساعي إيران إلى تجنيد الشيعة في المنطقة للانخراط في حملات عسكرية، فتوى دينية تدعو الشباب العراقي إلى الانضمام إلى ميليشيات سليماني.

وساعدت الانتصارات العسكرية على داعش في الحفاظ على الحكم الشيعي في العراق، وتعزيز قتال الحوثيين في اليمن، ودعم النظام البعثي في سوريا. كما أسهمت في ربط القتال الذي تخوضه الميليشيات السنية، مثل حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني، ضد إسرائيل، بنضال محور المقاومة بشكل عام. وبفضل هذه النجاحات، استخدمت إيران المحور لإبراز نفوذها في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، مُشكلة ما يسمى "حلقة النار" حول إسرائيل.

تعميق الانقسامات

لكن الهزيمة الحاسمة التي مُني بها تنظيم داعش عام 2019 هيأت الظروف لانحسار المحور. فقد شهد تجنيد الشباب الشيعة في الميليشيات المناهضة لداعش تراجعاً حاداً. وأصبح كبار رجال الدين الشيعة في المنطقة أكثر تردداً في الربط بين الالتزام الديني والمشاركة في المجهود العسكري الإيراني. ومن موقعه في مدينة النجف العراقية، نأى السيستاني بنفسه علناً عن حملات المحور، وأدان عنف الميليشيات، مؤكداً أن قوة الشيعة المستدامة في العراق تكمن في قدرتهم على بناء نفوذ وتأثير في الدولة والسياسة.

كانت الميليشيات الشيعية قد سيطرت على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية خلال الحملة ضد داعش، متجاوزة بذلك قدرة الجيش والشرطة في عديد من المدن العراقية وفي بعض مناطق بغداد، ومكتسبة نفوذاً اقتصادياً كبيراً مستقلاً عن الحكومة المركزية. إلا أن مصداقيتها بوصفها منقذة للشيعة وضامنة للاستقرار في العراق تضررت بشدة جراء انخراطها في أعمال عنف وقمعها للاحتجاجات المناهضة للفساد. وفي عام 2020، أسفرت غارة جوية أميركية عن مقتل كل من سليماني والمهندس، وهو ما شكل ضربة جديدة للمحور. وفي عام 2021، لم تحصد الأحزاب السياسية العراقية الموالية لإيران والميليشيات المدعومة منها سوى 17 مقعداً في البرلمان، مقارنة بـ48 مقعداً في عام 2018.

بدا الهجوم الذي قادته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في البداية، استعراضاً هائلاً للقوة من جانب المحور. لكنه في الواقع كشف عن تراجع المحور وسرع من وتيرة انهياره. فقد حاولت القوات الشيعية في أنحاء المنطقة التعبئة لدعم حماس. لكن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، دمرت إسرائيل حزب الله من خلال تحويل معدات اتصالاته إلى قنابل، ما أسفر عن مقتل 42 شخصاً وإصابة الآلاف من مسؤوليه ومقاتليه بعاهات وتشوهات، واغتالت العشرات من قادته وزعيمه الكاريزمي، حسن نصر الله، في غارة جوية. وبعد ذلك بشهر، انهار نظام الأسد في سوريا أمام جيش متقدم من المقاتلين السنة المدعومين من تركيا.

وعندما شنت إسرائيل والولايات المتحدة هجومهما العسكري المباشر العنيف على إيران في يونيو، فإن حلفاء طهران الشيعة لم يهبوا للدفاع عنها. وبما أن القيادة الإيرانية اضطرت إلى توجيه اهتمامها نحو الداخل، لم تجد أي فائدة من إطلاق نداءات عابرة للحدود، فدعت الشعب الإيراني بدلاً من ذلك إلى الدفاع عن الوطن. وعلى نحو مماثل، ابتعد الحلفاء الشيعة في العراق ولبنان عن الخطاب القائم على الهوية الدينية العابرة للحدود، وتبنوا بشكل أكبر نزعاتهم القومية.

القيادات التي أشرفت على صعود الشيعة تنسحب أيضاً من المشهد

 

وبدلاً من توجيه حلفائها الإقليميين، يبدو أن إيران باتت تتبع خطاهم. فما كان يُعرف سابقاً بنظام المحور والأذرع [نظام محور رئيسي وفروع تابعة]، أصبح أقرب إلى اتحاد جماعات متشابهة التفكير، تتشارك في الأهداف، لكنها تعمل باستقلالية. في العراق، تشجع إيران وكلاءها على استبدال البزات العسكرية بالبدلات الرسمية والانخراط في العملية السياسية. وفي لبنان، قد يقبل حزب الله نزع السلاح تحت ضغط من إسرائيل والولايات المتحدة لتجنب حرب مع إسرائيل وحرب أهلية مع الفصائل اللبنانية الأخرى. أما التغيرات داخل إيران نفسها، مثل صعود النزعة القومية وتخفيف القيود الدينية وخصوصاً تخفيف التشدد في فرض الحجاب، فتُضعف مكانة البلاد بصفتها قيادة روحية عابرة للحدود.

إن القيادات التي أشرفت على صعود الشيعة تنسحب أيضاً من المشهد. فالقادة العسكريون ورجال الدين الذين شاركوا في الثورة الإيرانية عام 1979 (ونجوا من محاولات الاغتيال) يتقدمون في السن. فالمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، يبلغ من العمر 86 عاماً. أما السيستاني، الذي أشرف على نهضة إقليمية للتقوى الشيعية تركزت في المدن العراقية المقدسة، فيبلغ من العمر 95 عاماً ويعاني من المرض. لطالما كانت النجف وقم مركزين متنافسين للتعليم الديني الشيعي، ولكن خلال العقود التي ركزت فيها إيران على بناء قوتها العسكرية والسياسية، أصبحت النجف تمثل المرجعية الدينية الشيعية، أكثر من قم (أو طهران). وسيتولى خليفة السيستاني في العراق، وليس خليفة خامنئي في إيران، توجيه الشيعة في شؤون الدين.  

وتسعى إسرائيل إلى تفكيك شبكة إيران الإقليمية من خلال إذكاء الانقسامات بين الشيعة. وبحسب هذا المنطق، فإذا سيطرت في لبنان وسوريا حكومات ضعيفة، ولكن مطواعة تضطهد أو تهدد أقلياتها السكانية، خصوصاً الشيعة، فإن الطاقة الشيعية ستتجه نحو الصراعات الداخلية على النفوذ والسلطة بدلاً من مواجهة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، تشن إسرائيل، في احتلالها لجنوب لبنان، هجماتٍ مُتكررة على أهداف شيعية، ما يُسفر عن مقتل عشرات المدنيين ومقاتلي حزب الله. كما أن جهودها لمنع دمشق من بسط سيطرتها على سوريا تُؤدي إلى صدامٍ مُستدام بين أقليات البلاد وحكومتها المركزية.

أخطار خفية

ومع ذلك، فإن تراجع القوة العسكرية الشيعية في جميع أنحاء الشرق الأوسط لا يعني أن الهوية الدينية للشيعة وشعورهم بالانتماء إلى مجتمع ديني عابر للحدود قد ضعفا. فعدد الشيعة الذين يؤدون فريضة الحج إلى المدن المقدسة في العراق يزداد باطراد عاماً بعد عام، على الرغم من الخسائر السياسية والعسكرية. ففي أغسطس (آب)، اجتذبت ذكرى استشهاد الإمام الشيعي الثالث ما يقدر بنحو 21 مليون زائر إلى مدينة كربلاء العراقية.

ومع تراجع نفوذ إيران وتصاعد الضغوط لنزع سلاح الميليشيات الشيعية، تتنامى لدى الشيعة مخاوف من مستقبل يتسم بالتهميش والعنف. فسوريا، التي شكّلت سابقاً ركيزة أساسية للمحور، باتت اليوم تحت حكم مقاتلين سابقين في تنظيم داعش وجماعات سنية مسلحة ومتشددة أخرى خاضت قتالاً ضد حزب الله خلال الحرب الأهلية السورية. ، ويسعى في الوقت نفسه إلى إبرام اتفاق مع إسرائيل. وفي المقابل، يخشى الشيعة في لبنان والعراق أن تقدم دمشق دعماً للسنة في بلديهما، بما قد يؤدي إلى اختلال موازين القوى على حسابهم.

ومع شعورهم بالتهديد والحصار، قد يتجه الشيعة بشكل أكثر حزماً نحو الهوية الجماعية. وقد بدأت الأقليات الدرزية والعلوية في سوريا بالفعل بمقاومة سلطة دمشق. ولمنع اندلاع حروب أهلية جديدة، وانهيار حكومي، وعودة التطرف، أي باختصار، الظروف نفسها التي سمحت لإيران ببناء محور المقاومة في المقام الأول، ينبغي أن تركز جهود بناء الدولة في لبنان وسوريا على ضمان المساواة في الحقوق لجميع المكونات. فإذا استبعدت بيروت ودمشق الأقليات، سيلجأ الشيعة المهمشون مجدداً إلى إيران طلباً للدعم؛ وبمجرد اندلاع الصراع، سيتبع ذلك تقديم إيران المساعدة في التدريب والتسليح والتمويل.

وفي العراق، حيث تستمر العملية الحساسة لتشكيل الحكومة والمفاوضات بين القوى الشيعية، لا بد من تشجيع القيادات الشيعية المعتدلة. ويتطلب ذلك إصلاحات دستورية لتفكيك شبكات المحسوبية التي يديرها مقاتلون تحولوا إلى سياسيين (وهو نظام لا يزال يمنحهم مقاعد في البرلمان والمجالس المحلية). وقد مارست السياسة الأميركية الأخيرة ضغوطاً كبيرة على الحكومة العراقية للنأي بنفسها عن إيران. ويتعين على واشنطن أن تتجنب إجبار بغداد على اتخاذ مثل هذا الخيار الصعب، إذ قد يؤدي ذلك إلى إضعاف مكانة القادة الشيعة المعتدلين، وإفشال جهودهم الرامية إلى الحد من النفوذ التخريبي للمقاتلين الذين تحولوا إلى سياسيين، وعزل العراق عن الصراع بين إيران وإسرائيل.

يخشى الشيعة مستقبلاً من التهميش والعنف

 

وفي جميع أنحاء المنطقة، فإن تجنب العودة إلى العنف مرهون بضمان أن يرى الشيعة مستقبلاً سياسياً لهم داخل بلدانهم، دوراً وطنياً يحل محل الالتزام بأيديولوجيا عابرة للحدود، فضلاً عن فرص اقتصادية خارج منظومة الامتيازات التي توفرها الميليشيات. ففي لبنان، على سبيل المثال، لن يؤدي نزع سلاح حزب الله وتفكيكه إلى تحقيق الاستقرار بكل بساطة. فعلى مدى عقود، مثل الحزب دولة بالنسبة إلى الطائفة الشيعية، موفراً الأمن والوظائف والخدمات الاجتماعية؛ والآن بعد أن تضاءل دوره، يجب توفير وسائل بديلة للشيعة للمشاركة في السياسة والاقتصاد في البلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتعين على حكومات لبنان وسوريا والعراق، بدعم من الولايات المتحدة وجيرانها العرب، أن توفر للشيعة وظائف القطاع الخاص المناسبة للطبقة المتوسطة، للحد من اعتمادهم على العمل في القطاع العام الذي تسيطر عليه الجماعات المسلحة. توجد في لبنان والعراق شرائح شيعية من الطبقة المتوسطة مستعدة للاستفادة من الفرص الاقتصادية التي تتصورها الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون للمنطقة بعد انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية. ومن دون هذه الوسائل للمشاركة الاقتصادية، قد ينجذب الشباب مجدداً إلى التطرف.

ومن أجل ضمان استمرار الاستقرار في المنطقة، يتعين على الدول العربية أن تقرن خطط بناء الدولة برؤية اقتصادية تُوفر مستقبلاً واعداً للمناطق الشيعية في لبنان والعراق. 

إعادة الإعمار تحتاج إلى مصالحة

إذا كانت الولايات المتحدة، من جانبها، ترغب في إنهاء الصراع في الشرق الأوسط ورؤية العراق يزدهر بمعزل عن السيطرة الإيرانية، فعليها أيضاً دمج الجماعات الشيعية في النظامين الوطني والإقليمي اللذين تتصورهما. في لبنان، يعني ذلك إقران جهود نزع سلاح حزب الله بخطة واضحة لإعادة إعمار المناطق الشيعية وتمكين الشيعة سياسياً. ويجب على الولايات المتحدة أيضاً بذل كل ما في وسعها للحفاظ على وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل: فمن المؤكد أن الشيعة اللبنانيين سيقاومون أي غزو أو احتلال إسرائيلي، مثلما فعلوا بين عامي 1982 و2000. وفي الواقع، إن تجدد المقاومة من شأنه أن ينعش ما تبقى من هذا المحور.

يتعين على واشنطن دعم جهود الدول العربية الرامية إلى تطبيع العلاقات مع إيران، وهو ما يعني إجراء حوار مباشر مع طهران. وخلافاً لما يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يفترضه، فإن إيران لا تشعر بالهزيمة بعد حرب الـ12 يوماً في يونيو. وتعتقد طهران أن الصواريخ التي أطلقتها على إسرائيل ألحقت بها أضراراً كافية تجعل كلاً من تل أبيب وواشنطن تفكران مرتين قبل الإقدام على جولة أخرى من القتال. وقد بات واضحاً الآن أيضاً أن الضربات لم تقضِ تماماً على القدرات والطموحات النووية الإيرانية.

ويعتمد الاستقرار الإقليمي على انخراط إيران دبلوماسياً واقتصادياً مع العالم العربي، إلا أن الدول العربية تخشى منح طهران، التي قد تمتلك سلاحاً نووياً، دوراً إقليمياً أوسع.. لذا، سيتعين على واشنطن، عاجلاً أم آجلاً، إعادة تركيز اهتمامها على التفاوض بشأن اتفاق نووي مع طهران.

إن إبقاء بلاد الشام ممزقة ومشرذمة لن يجلب الاستقرار للشرق الأوسط. فالمجتمعات الشيعية التي كانت تُشكل ركيزة محور المقاومة يجب أن تُدمج في الحياة السياسية والاجتماعية للمنطقة. وعلى إيران أن تُدرك أنها تستطيع جني فوائد أكبر من الانخراط الدبلوماسي والاقتصادي بدلاً من استئناف أنشطتها العسكرية المزعزعة للاستقرار. صحيح أن الجماعات الشيعية قد ضعفت، لكن محاولة إخضاعها من خلال استبعادها من الحياة السياسية لن تؤدي إلا إلى جعلها فريسة سهلة لمحاولات إيران المستقبلية لإعادة بناء شبكة وكلائها، مما يُهدد أي رؤية أوسع للسلام الإقليمي.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 10 ديسمبر (كانون الأول) 2025

ماريا فانتابي، رئيسة برنامج البحر المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا في مؤسسة "إنستيتيو أفاري إنترنازيونالي" في روما.

والي نصر، أستاذ في قسم ماجد قدوري عن مادة العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة التابعة لجامعة جونز هوبكنز. وهو مؤلف كتاب "الاستراتيجية الكبرى لإيران: تاريخ سياسي".

اقرأ المزيد

المزيد من آراء