ملخص
اختارت كارن الحر أن تنقل في كتابها "ت ت تأتأة" تجربتها الخاصة لتساعد كل من يمر بتجربة مماثلة. أحاسيس وتفاصيل وحقائق حول التأتأة جمعتها بأسلوب صادق عندما تعلمت أن تحب نفسها أكثر فأكثر.
التلعثم أو التأتأة من الاضطرابات التي يمكن أن يقابلها المجتمع بالاستهزاء والتنمر ما يزيد من التحديات التي تواجه من يعانيها.
وفي كثير من الأحيان، على رغم أنها في الواقع حال بسيطة، يمكن أن تحدد اختيارات الشخص المعني في علاقاته مع الآخرين وعلى المستوى الدراسي والمهني، وإن كانت لا ترتبط في الواقع أبداً بإمكاناته الفكرية وقدراته من النواحي كافة.
كذلك يمكن أن تشكل له عائقاً في حياته اليومية، وفي المدرسة، والجامعة، ولاحقاً في حياته المهنية، بالنسبة إلى بعضهم قد ينعكس هذا الاضطراب على الصحة النفسية بصورة واضحة، إلا أن الشابة كارن الحر (19 سنة) حولت هذا الاضطراب إلى حافز لتكشف عن مواهب وميزات لديها. بكل بساطة حولت ما قد يعتبره بعض الناس نقطة ضعف إلى قوة، وخوفها إلى صوت أرادت من خلاله أن تساعد آخرين يمرون بتجربة مماثلة.
وانطلاقاً من تجربتها الخاصة هذه التي تجد فيها اليوم رسالة وحكمة، خاضت تجربة الكتابة التي جسدتها في كتاب "ت ت تأتأة" الذي يشكل عملاً جريئاً نقلت فيه كل التفاصيل التي تتعلق بآفة التأتأة في مختلف المراحل التي مرت بها، ومن ضمنها كل ما يرتبط بالحياة اليومية. فقابلت حالتها هذه بطريقة خاصة وجريئة في التعبير، بدلاً من أن تختار الصمت.
طفولة صعبة مع التأتأة
ينظر كثر إلى التلعثم على أنه مجرد اضطراب في الكلام، لدى البحث في جذور هذه الحال، يمكن كشف الدور الذي تؤديه عوامل نفسية واجتماعية وعصبية فيها.
علماً أنه عندما يواجه الشخص المعني صعوبات في التعبير، هو يعرف بالأصل ما يود أن يقوله، لكنه يواجه صعوبة في التعبير بشكل طبيعي وفي دفق الكلام بالشكل المطلوب، وهذا ما ينعكس على حاله النفسية، فيما تنعكس حاله النفسية مع الوقت على حاله الطبية فتزيد من التلعثم لديه.
في حديثها، شددت الحر على أن التأتأة ليست مشكلة كما تُصور، وهي لا تدعو للخجل، وإن بدت كذلك بالنسبة إلى من يعانيها في مرحلة أولى في الطفولة.
تعود بالذاكرة إلى مرحلة الطفولة التي كانت الأصعب عليها، خصوصاً في المدرسة عندما كانت تسمع ضحكات رفاقها أو سخريتهم، وتلك اللحظات التي يفقد فيها من تحدثه الصبر بسبب تلعثمها مما يسبب لها حال خجل لا توصف، فلا تزال هذه اللحظات راسخة في ذهنها، وقد تركت أثراً واضحاً في نفسها إلى اليوم، وعلى رغم أنها كانت تشتكي للمدرسة انزعاجها من هذه التفاصيل، فلم يحصل أي تدخل لمساعدتها على تخطي الأمر.
كطفلة كان الحل الوحيد بالنسبة إليها هو الصمت وتقليل الكلام وإخفاء مشكلتها بأي طريقة كانت، لكن المشكلة أنها كانت حال يستحيل إخفاؤها في المجتمع.
وتقول "كنت طفلة مقلة بالكلام عن عمد حتى أتمكن من إخفاء حال التأتأة التي لدي، وحتى لا يلاحظها أحد ويسخر مني، حتى أني كنت أتجنب المشاركة في الصف، والكلام أمام رفاقي. هذا الاضطراب لم يؤثر في نتائجي المدرسية، لا بل كنت من المتفوقين في صفي، لكن كوني لم أكن أشارك في الصف وأتجنب الاختبارات الشفوية، كان ذلك يؤثر في نتائجي وتتراجع إلى حد ما، لكن ذلك لم يمنع أن أبقى دوماً من المتفوقين".
يؤكد المتخصصون عادة أن التأتأة مشكلة تستدعي المتابعة ويجب عدم إهمالها حتى لا تؤثر سلباً في الطفل، وفي صحته النفسية، وحياته من النواحي كافة، لذلك لجأ أهل كارن إلى اختصاصيين عدة لمساعدتها، لكن لم تكن هناك أي فائدة من ذلك، ولم تتحسن أبداً، لا بل بالعكس، في مرحلة من المراحل، بدا لها أن حالتها كانت في تراجع.
عندما تتحول العثرة إلى قوة
لم يكن أمام كارن إلا أن تتأقلم مع حالتها، وتحول هذه الحال التي زعزعت ثقتها بنفسها في مرحلة الطفولة إلى نقطة قوة، وهذا ما أثبتته من خلال المسار الذي اختارته لنفسها ومجال التخصص الجامعي، ولأن التأتأة تعلم من يعانيها الاستماع والإنصات إلى الآخرين في مقابل الحد من الكلام، اختارت التخصص في مجال علم النفس الذي تعتبر القدرة على الاستماع إلى الآخرين ميزة أساسية في من يختاره.
وجدت كارن في هذا الاختصاص ما هو أنسب لها، خصوصاً أنها تشعر بالآخرين أكثر من أي شخص آخر، نظراً إلى التجربة التي مرت بها، لذلك، بدا أنها شخص يحمل في قلبه كثيراً من الاندفاع لمساعدة الآخر، إضافة إلى كون اختصاص علم النفس يجذبها بكل تفاصيله، وكأنها ولدت لتكون متخصصة في علم النفس وقد أرسل الله لها هذه الميزة تأكيداً لذلك، تقول لنا.
أما كتابها "تا تا تأتأة" فأتى وليد تجربة مباشرة مع التأتأة، إلا أنها لم تتخذ قرار الكتابة عن تجربتها هذه بصورة مفاجئة، بل بعد أعوام كثيرة من العشق للكتابة والراحة التي تجدها فيها عندما بدا التعبير بالكلام أقل جذباً. بكل بساطة أرادت بذلك أن تساعد نفسها وتساعد الآخرين بمشاركتهم كل التفاصيل التي ترتبط بتجربة من هذا النوع.
بهذه الطريقة استطاعت أن تنقل الرسالة التي لديها عن تجربتها، فإذا كان الله قد جعلها مميزة بهذه الصورة، كان لا بد لها من أن تستغل تجربتها هذه لتساعد الآخرين من خلال ما تعتبره حكمة، فاعتمدت طريقة التعبير المفضلة لها، ألا وهي الكتابة.
كتاب وليد التجربة
تقدم كارن في كتابها الذي ينقل تجربتها كاملة في أعوام، قصتها الخاصة مع مشكلة التأتأة إضافة إلى تفاصيل علمية تتعلق بالتلعثم في الكلام، مع طرق التعاطي معها في الحياة اليومية، وأصعب المواقف التي يمكن مواجهتها في هذه الحال بالاستناد إلى التجربة الخاصة والأبحاث التي قامت بها.
في كتابها، تضع في سطور الأحاسيس التي عاشتها في مواقف معينة كانت تتعرض لها سواء في مطعم، أو في المدرسة، أو في اتصال ما، لتتمكن بذلك من مساعدة الآخرين وتوجيههم إذا كانوا يمرون بتجربة مماثلة، إلا أنها غاصت في الكتابة بصورة خاصة بعدما أصبحت تتمتع بالنضج الكافي والوعي، وأصبحت تدرك بصورة فضلى طبيعة هذا الاضطراب، وهدفها هنا أن تجنب آخرين المرور بظروف مماثلة وأن تساعدهم بعدما تخطت هذه الحال وتداعياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حديثها تتوجه كارن برسالة مؤثرة إلى كل من يمر بتجربة مماثلة معبرة عن فخرها واعتزازها بكل من يتميز بالتأتأة وبما يتحلى به، في الوقت نفسه تؤكد لهؤلاء أن الله يدرك كل ما يمرون به من تحديات ويدرك قوتهم، وقد زودهم بهذه الميزة بالفعل لأنها تتطلب كثيراً من القوة.
كذلك دعتهم إلى المضي قدماً واختيار كل ما يجذبهم في الحياة من دون تردد، لأن التأتأة كما تقول ليست عائقاً أبداً، ويجب ألا توقفهم.
لا تنكر أن التأتأة يمكن أن تحدد اختيارات الشخص في الحياة خصوصاً في المسار المهني، لكن بالنسبة إليها ساعدتها لتختار بسهولة ووضوح ما تريده، ولتفتح أبواباً أمامها، في الوقت نفسه أكدت أنه يمكن أن يستفيد كل فرد من نقاط القوة التي لديه والمواهب التي يتمتع بها لتطغى على حال التأتأة ويتغلب عليها، فتتعزز ثقته بنفسه بصورة واضحة ولا يعود له أي انعكاس على صحته النفسية.
خلف التأتأة قلق اجتماعي
في الواقع، ثمة علاقة وثيقة تربط بين التأتأة والصحة النفسية غالباً، وتؤثر فيها في الوقت نفسه، وبحسب الاختصاصية في المعالجة النفسية روى حيدر نسبة كبيرة ممن يواجهون هذا الاضطراب يعانون قلقاً اجتماعياً بصورة خاصة.
ويحصل ذلك لأنهم من الطفولة يشعرون بالتردد والخوف في المدرسة عندما تطلب منهم المشاركة ويخشون نظرة العالم، هذا ما يزيد من معدلات القلق.
وبسبب هذا القلق يتجنبون الكلام ويترددون في التعبير مما يزيد المشكلة سوءاً مع ارتفاع مستويات القلق، وتضيف "عند مساعدة من يعاني هذا التلعثم في الكلام، نركز على الصحة النفسية وعلى القلق الذي لديه ليشعر بالراحة في الكلام وليواجه بجرأة، فلا يمتنع عن الكلام أو المشاركة في الحديث كما يحصل عادة، ففي هذه الحال ليس الهدف من الجلسات العلاجية حصراً تعليمه كيفية اللفظ والتعبير لتخرج منه الكلمات".
لا يمكن تخطي حال التأتأة وتجنبها بالنسبة إلى من يعانيها، هذا ما تؤكده حيدر، فهي حال ترافق الشخص من الطفولة حتى عمر متقدم. ومن الأطفال من يعانونها ثم تخف في مرحلة الرشد تدريجاً، لكن هناك راشدين يعانونها أيضاً، تماماً كما في الطفولة.
لذلك ليس الحل في التخلص منها لأن ذلك غير ممكن علمياً، بل الحل هو في مساعدة الشخص على تقبلها وتجنب الصراع الذي يعيشه مع ذاته بسببها، فهو يجد صعوبة في دفق الكلمات في التعبير أحياناً، ويجب أن يتقبل ذلك ويتأقلم مع الحال.
ماذا يقول علم النفس؟
على مستوى علم النفس، يجري العمل مع الشخص بتشجيعه على التعبير أمام الناس، والقول بصراحة إنه يعاني التأتأة عندما يحصل ذلك معه أمام أحد، وعلى رغم صعوبتها فإنه "يجب أن يتقبل أنها ميزة لديه وتشكل جزءاً من حياته، ويجب ألا تقف عائقاً أمامه في تحقيق أهدافه، سواء بالتقدم لوظيفة أو في الحديث أمام الناس.
غالباً ما تحدد التأتأة الاختيارات المهنية للأشخاص كما يلاحظ، فيختار كثر مهناً لا تتطلب التعامل إلى حد كبير مع الناس أو التواصل معهم، إنما في الوقت نفسه ثمة مناصب عالية يتبوأها أشخاص لديهم حال التأتأة، ولم تقف عائقاً في وجوههم.
من هنا تبرز أهمية تأكيد ضرورة التأقلم مع الحال، والحرص على ألا تشكل عائقاً أمام الشخص، فيتقبل نفسه، ويحقق الإنجازات التي يود أن يحققها بمجرد أن يفعل ذلك.
وتختم حيدر "تبقى المشكلة الأساسية في طريقة تعاطي الأهل مع الطفل الذي يعانيها، فمن المهم ألا يمارسوا الضغط على الطفل الذي لديه هذا الاضطراب، وألا يطلب منه تكرار الكلام ولا يسلط الضوء على الحال التي لديه، فيجب التركيز على ما يقوله، لا على الطريقة التي يعبر بها، فالمشكلة لا تزيد سوءاً في حال زيادة الضغط على من يعانيها، كما يعتقد بعضهم، إنما القلق يزيد لديه ما ينعكس على حالته ويجعله أكثر ميلاً للتأتأة عندها".