Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العزلة النفسية وباء ينهش الملايين في العالم العربي

يتعجب البعض من شكوى الشعور بالوحدة في زمن "التواصل الاجتماعي" الذي يسره العصر الرقمي

آثار الوحدة تعادل تدخين 15 سيجارة يومياً (مواقع التواصل)

ملخص

يتعجب البعض من شكوى الشعور بالوحدة في زمن "التواصل الاجتماعي" الذي يسره العصر الرقمي

"ما هذه الوحدة على رغم كل ذلك الزحام؟!" جاء السؤال عفوياً ضمن تغريدة كتبتها طالبة جامعية أشارت فيها إلى تعجبها من شعورها بالوحدة أينما ذهبت، حتى وهي في بيتها مع أفراد أسرتها وأحبابها. التعليقات جاءت مؤكدة لمجموعة من التصورات النمطية والقوالب الثابتة والأفكار المغلوطة والعلاقات الشرطية النظرية التي تفرضها العادات وترسخها التقاليد وتتأكد من تحجرها وتيبسها المجتمعات التي صنعتها.

الحديث عن الشعور بالوحدة في القاهرة بينما الشخص الوحيد محشوراً في باص عام أو معلقاً أعلى جسر عليه آلاف المواطنين مثلاً يبدو أقرب ما يكون إلى الخيال غير العلمي. "كيف تكونين وحيدة وسط كل هؤلاء البشر؟"، "اتقي الله، تشعرين بالوحدة وأفراد أسرتك حولك؟! ستتجرعين الوحدة الحقيقية حين يرحلون"، "كبار السن فقط هم المعرضون للوحدة. تحتاجين لمراجعة نفسك وتصرفاتك"، "الوحدة مرض الغرب. العرب والوحدة مفهومان متناقضان".

التناقض الحقيقي

التناقض الحقيقي يكمن في الشكاوى والمجاهرات والاستغاثات المتصاعدة عبر منصات التواصل الاجتماعي من أشخاص عرب ينتمون لفئات عمرية واجتماعية مختلفة يشكون أو يعبرون عن الشعور بالوحدة. يعيشون في مدن مزدحمة، وربما شقق سكنية مكتظة، وينتمون لأسر مترابطة ومنها كبيرة العدد، ويعملون أو يدرسون في أماكن مليئة بالأقران، ويمارسون الرياضة، ولديهم عدد كبير أو قليل من الأصدقاء، وعلى رغم ذلك يشعرون بالوحدة.

إعلان الوحدة "تهديداً صحياً" يهدد ملايين البشر حول العالم من دون استثناء من قبل منظمة الصحة العالمية قبل أسابيع يعني أن جميعنا معرضون لـ"الإصابة". ليس هذا فقط، بل يقول الجراح العام الأميركي (طبيب الأمة) فيفيك ميرثي إن آثار الوحدة تعادل تدخين 15 سيجارة يومياً.

قائمة الهموم

يومياً يشعر الملايين بالوحدة من دون أن يخبروا أحداً، وربما من دون أن يعرفوا أنهم يعانون عرضاً حقيقياً. يخلطون أحياناً بين الاختيار الواعي الذي يقوم به الشخص لينعزل عن الآخرين حيث يشعر بالراحة، وهذا الشعور القاتل بالوحدة حتى لو كان الشاكي محاطاً بملايين الأشخاص.

ملايين الأشخاص يعانون الوحدة في أرجاء العالم. تحديد الأرقام أمر صعب، لا سيما في الدول والثقافات والمجتمعات التي تعتبر الشكوى من الوحدة رفاهية أو تفاهة أو علامة على قلة الإيمان أو مشكلة تحتمل التأجيل لأن البطالة والفقر والتعليم والصحة الجسدية وصعوبة الزواج والسكن أمور لها الأولوية في قائمة الهموم، أو لأن الشعور بالوحدة يعتري كبار السن، وهذه سنة الحياة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن سنة الحياة ليست كذلك، وقائمة الهموم باتت تتسع لمعاناة الوحدة، بل تفرد لها مكانة متقدمة شأنها شأن أي عارض مرضي. وبحسب منظمة الصحة العالمية، يعاني واحد بين كل أربعة أشخاص من كبار السن من الشعور بالوحدة. والمفاجأة أن بين خمسة و15 في المئة من المراهقين يعانون الوحدة أيضاً. وترجح المنظمة أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك.

مدير عام المنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس كان قد حذر من أن ارتفاع معدلات العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة في العالم يخلفان عواقب وخيمة على الصحة والرفاه، مشيراً إلى أن "الأشخاص الذين يفتقرون إلى روابط اجتماعية قوية كافية هم الأكثر عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية والقلق والخرف والاكتئاب والانتحار وأمراض أخرى".

زحام ووحدة

نادية (56 سنة) متزوجة وتنعم بحياة هادئة مع زوجها وأبنائها، وكذلك أقاربها وأقارب زوجها حيث تبادل الزيارات في المناسبات والمجاملات. ولها أيضاً عدد من الصديقات المقربات منذ أيام المدرسة. وعلى رغم ذلك تشعر بوحدة لا تفهمها، لكن تعاني آثارها المتراوحة بين مشاعر حزن واكتئاب وأحياناً أوجاع مختلفة في جسدها.

محمد (28 سنة) عامل في سوبر ماركت ويعيش في أحد أكثر أحياء القاهرة ازدحاماً مع أسرته المكونة من 10 أفراد في غرفتين. حين اشتكى لشقيقه الأكبر من شعوره بالوحدة سخر منه بشدة متسائلاً: "عن أي وحدة تتحدث ونحن نكاد نستخدم الحمام جماعة؟".

هنا (18 سنة) طالبة في مدرسة دولية. لديها عشرات الأصدقاء والصديقات. تمارس الرياضة وتحضر أنشطة فنية واجتماعية، لكنها تشعر دائماً بأنها غريبة عن المكان والأشخاص المحيطين بها.

أمثلة عديدة، وظروف معيشية مختلفة، والشعور بالوحدة لا يفرق بينها، لكن أسباب الوحدة وسبل علاجها أو ربما تجاهلها تختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات. دراسات عدة تؤكد أن المجتمع الأميركي يواجه "وباء خطراً اسمه الوحدة". جمعية الطب النفسي الأميركية تقول إن عوامل زيادة خطر الشعور بالوحدة تنتشر بين من يعيشون وحدهم، والمطلقين، والمتقاعدين، والذين يعانون إعاقة جسدية أو ذهنية.

رابع المستحيلات

وفي بلد كمصر، كثيرون يقولون أو يخفون أو يتجاهلون شعورهم بالوحدة. أحد القلائل الذين تنبهوا لأعراض مشاعر الوحدة بين أفراد شعب ينظرون إلى كلمة "وحدة" باعتبارها رابع المستحيلات بعد الغول والعنقاء والخل الوفي هو أستاذ العلوم السياسية محمد كمال. كتب تحت عنوان "وحدة المصريين!!" مذيلاً بعلامتي تعجب عن وجود عديد من المؤشرات الدالة إلى تزايد الإحساس بالوحدة والانعزال لدى المصريين. وقال إن "بين هذه المؤشرات انشغال أفراد الأسرة بالعالم الافتراضي حتى في الأوقات التي يجتمعون فيها معاً. وهناك العزلة بين الجيران في المبنى الواحد، مع زيادة عدد المصريين الذين ينسحبون إلى جزر منعزلة تفصلهم عن الآخرين الذين يختلفون عنهم في الخلفية الاقتصادية والاجتماعية".

يتعجب البعض من شكوى الشعور بالوحدة في زمن "التواصل" الاجتماعي الذي يسره العصر الرقمي. هذه الملايين من البشر المثبتة أو المتحركة وشاشاتها المتصلة بالإنترنت والسوشيال ميديا لا تفارق أياديها تشكو الوحدة؟!

مقياس الوحدة

دراسات غربية حديثة عدة أثبتت أن كثيرين يلجأون إلى وسائل التواصل الاجتماعي أكثر عندما يشعرون بالوحدة، لكن الغريب أن قضاء مزيد من الوقت على أثير السوشيال ميديا يزيد الشعور بالوحدة. ليس هذا فقط، بل إن البعض ممن لم يشكوا الشعور بالوحدة قبل الانغماس في منصات التواصل الاجتماعي بدأوا يتجرعون مراراتها بعد تحولهم صوب أثيرها.

 

ويشير كمال إلى "مقياس الوحدة" الذي ابتكرته جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس في السبعينيات، وتم تطويره غير مرة ليواكب متطلبات ومتغيرات العصر، الذي أثبت من خلال دراسات أن أكثر من نصف الأميركيين يعانون الوحدة، مطالباً بتطبيقه في دراسات على المصريين. ويحوي المقياس جملاً يطلب من المشارك الإجابة عليها بـ"جداً" أو "أحياناً" أو "نادراً" أو "لم يحدث أبداً"، مثل: أشعر أن أحداً لا يفهمني. لا أحد ممن حولي يشاركونني أفكاري وهواياتي. أنا محاط بالناس لكني لست معهم، وغيرها.

ويقول كمال إن مسألة الشعور تستحق الاهتمام بالبحث والدراسة درءاً للمخاطر.

درءاً للمخاطر

ودرءاً لأخطار الوحدة في زمن "التواصل"، خصصت منظمة الصحة العالمية لجنة معنية بمجابهة الوحدة، هذا الشعور الذي وصفته بأنه "يشكل تهديداً صحياً ملحا في كل دول العالم وبين كل فئات الدخل والعمر".

اللجنة ستعمل على وضع برامج قابلة للتنفيذ في شأن مواجهة وباء الوحدة، وتحفيز الحلول القائمة على الأدلة لفائدة الدول والمجتمعات المحلية والأفراد، لا سيما في أعقاب الآثار الوخيمة لجائحة "كوفيد-19" وما أدت إليه من آثار اجتماعية واقتصادية وخيمة، إضافة إلى تقويض الروابط الاجتماعية ودفع الملايين من الناس لمزيد من الوحدة والانعزال الاجتماعي.

اللجنة حذّرت من أثر هذه المشاعر على التحصيل الدراسي للمراهقين والشباب، مشيرة إلى أن الذين يعانون الشعور بالوحدة في المدارس الثانوية هم الأكثر عرضة لعدم الالتحاق بالجامعة.

كما يؤدي الانعزال الاجتماعي إلى نتائج اقتصادية وخيمة، ناهيك بعدم الحصول على الدعم اللازم في مكان العمل وضعف الرضا والأداء الوظيفي، كما يشعر بالوحدة عادة من يعاني قلة الدعم في العمل، وضعف الرضا الوظيفي والأداء.

ولأن الشباب ليسوا محصنين ضد الشعور بالوحدة، بل يصابون بها بشكل متزايد، تطالب مبعوثة الاتحاد الأفريقي المعنية بالشباب شيدو مبيمبا بالالتفات إلى هذه الفئة، مع ضرورة "إعادة النظر في السرديات التي تتناول الشعور بالوحدة في أفريقيا وخارجها".

في تلك الأثناء، يمضي الغرب قدماً في البحث والتنقيب في الأسباب التي تجعل الملايين تقع في قبضة الوحدة مثل عوامل التنشئة في الطفولة، والعلاقة بالأب والأم والأشقاء، ونوعية التعليم وغيرها.

في العالم العربي، يحتاج وباء الوحدة إلى تناول مختلف. فالمنطقة قابعة على صفيح ساخن، تعاني حروباً وصراعات، ويستيقظ فيها المواطنون صباحاً على صراعات جديدة ومشكلات عنيدة، ويخلدون إلى النوم على فتح مزيد من جبهات الصراع وتجنب العلاقات الاجتماعية والتواصل بين البشر أملاً في تقليل هوامش الهم والقلق، ولو كان على حساب توسيع هوامش الوحدة.

المزيد من تحقيقات ومطولات